المسألة اليهوديّة
وثيقة غير منشورة في أعمال فيدور دوستويفسكي(*)
“تنويه: هذه الوثيقة ترجمها الروائي وكاتب السيناريو حسن سامي يوسف عن اللغة الروسيّة. نُشرت في مجلّة البناء اللبنانيّة، ثم نشرتها مجلة فكر ككتيب مستقل مرفق بأحد أعدادها. نُعيد نشرها لأهميتها التاريخيّة ومضمونها ومكانة كاتبها“
مدخل
نُشرت هذه المقالة أول مرة في مجلة «يوميات كاتب» عدد آذار/ مارس سنة 1877 وهي المجلة التي كان يصدرها دوستويفسكي نفسه، ومصدر هذه النسخة هو مجلد «يوميات كاتب» من مجموعة الأعمال الكاملة لفيدور دوستويفسكي والمطبوعة في بطرس بورغ سنة 1886، أي بعد وفاة الكاتب بخمس سنوات، والتي صدرت عن دار آس سوفورين للطباعة والنشر، وأهميتها أنها كُتبت قبل عشرين عاماً من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، وهو المؤتمر الذي اتخذ فيه قرار إقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية.. وقد اختفت هذه المقالة فجأة من أعمال دوستويفسكي. ولعل ظهورها الأخير في وسائل النشر الروسية يعود إلى عام 1912، ثم لا نعثر لها على أي أثر في أية طبعة جديدة لأعمال الكاتب الكاملة، بما في ذلك طبعة عام 1971، والتي جاءت غاية في الأناقة ضمن احتفالية كبرى أقامها الاتحاد السوفياتي بمناسبة مرور مئة وخمسين عاماً على ولادة أعظم كتاب روسيا. وأنا أظن بأن الأمر نفسه قد تكرر مع طبعات أعمال دوستويفسكي باللغات الأجنبية، بما في ذلك الطبعة العربية التي ترجمها عن الفرنسية الدكتور سامي الدروبي في سبعينات القرن العشرين.
المترجم
مقدمة مجلة فكر
تنشر (فكر) هذا النصّ، غير المعروف، والذي تم اسقاطه من الطبعات المتتالية للأعمال الكاملة للأديب الروسي دوستويفسكي، ليس لأسباب فنية أو أدبية مما لها صلة بالقيمة المعنوية لدوستويفسكي في تاريخ الأدب العالمي. بل لأن (المسألة اليهودية) بـ (مشروعها الواقعي: اسرائيل) لا تزال تشكل التهديد الأكبر لمصيرنا القومي ومستقبل شعبنا. وفي حين تمت تسوية الاشكالات الناتجة عن هذه (المسألة) في بلد المنشأ (أوروبة) منذ قرابة القرن فقد تم تصديرها وتوطينها في فلسطين، على نحو أمل فيه (مصدّروها) أن تبتعد بـ (إشكالاتها المعّقدة) عنهم، وإلى الأبدّ، مقابل مؤازرتها ودعمها، حتى ولو كان استمرار مشروعها على النحو الذي هو عليه يتطلب إشعال محرقة دائمة في فلسطين، لا يمكن التكهن، إلى أين يمكن أن يصل لهبها!
يمكن اعتبار نصّ (المسألة اليهودية) نوعاً من التوثيق الثقافي لتطورات المسألة اليهودية ـ الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر في مختبر اجتماعي محدد (روسيا)، وهو توثيق يشير بوضوح إلى استمرار علاماتها واشاراتها ورموزها كما هي دون أي تغيير! بل إن مجمل التعديلات الراهنة التي أجريت عليها ليست سوى تأكيد على رسوخها. وهي علامات تتجه لرسم (خصوصية ما) لـ (الجماعة اليهودية) على ما سواها من (جماعات انسانية) تفاضلية لها ومكلفة دائماً لـ (غيرها).
يشير دوستويفسكي، بوضوح ظاهر، إلى تلك البيئة التي انتجت (مبدأ كراهية اليهود)، متسائلاً إن كانت دون سبب؟! وهي (بيئة يهودية) ثقافية، وصلت في نجاحاتها اللاحقة إلى حّد محاصرة مختلف الجماعات الانسانية في مختلف بلدان العالم بهذا (المبدأ) الذي انتعش تماماً في تلك الفترة، مع الدفاع الاستثنائي للأديب الفرنسي إميل زولا وغيره عن الضابط الفرنسي (اليهودي) درايفوس، وهو الحادث الذي شكل الأساس الذي تم عليه إعلاء (مبدأ كراهية اليهود) جداراً شاهقاً أمام نظر ورؤية المجتمعات الأوروبية خصوصاً التي لا يمكن لها الالتفات دون أن ترى وشم (اللاسامية) يكحل عينيها!!
أيشكل ذلك كله تأكيداً لما قاله دوستويفسكي في مقالته حول (الشايلوكية) و (القيصرية الشايلوكية)، والتي سببت كل ذلك الهجوم عليه، وأسقطت نصّه من أعماله الكاملة إلى هذا اليوم!
ما هو مؤكد بالنسة لنا، أن(الشايلوكية) لا تزال مستمرة تقتطع من (لحمنا) ثمناً ندفعه نحن بدلاً من أوروبة لمنّ تقر بأن لهم حقوقاً أبدية على الإنسانية جمعاء!
لكن التقاطع بين (المسألة اليهودية) و (الشايلوكية) يحيل مجدداً إلى فتح ستارة النصّ الشكسبيري عن آخره، وعندها يمكن إعادة النظر بكل هذه التسوية المقيتة ما بين بلد المنشأ ـ أوروبة و (مشكلتها: اسرائيل) ـ الخطر المتوطن (لحمنا) في فلسطين!
فكر
المسألة اليهوديّة
فيدور دوستويفسكي
أوه، لا تظنوا بأني سأشرع جاداً بمناقشة «المسألة اليهودية»، فأنا لم أكتب هذه المقالة إلّا على سبيل المزاح فقط. (1) فالحديث حول قضية كهذه: «وضع اليهود في روسيا»، وعموماًَ وضع روسيا التي تحوي بين أبنائها ثلاثة ملايين يهودي أكبر من طاقتي. هذه مسألة أكبر من إمكانياتي بكثير. لكنني، على الرغم من كل شيء، أملك بعض الأحكام المتعلّقة بالمسألة. وما حدث، أن هذه الأحكام أخذت ـ فجأة ـ تهمّ الكثير من اليهود، فمنذ زمن غير بعيد صرتُ أستلم رسائل من بعض اليهود الذين يكتبون إليّ بكثير من الجديّة والحساسية، معاتبينني على تهجمي على كل ما يمت إلى اليهود بصلة، قائلين إني «أكره اليهود»، ليس الرذلاء منهم، وليس «المستغلين» بينهم، إنما أكرههم كقبيلة، بمعنى آخر، أكرههم لأن «يهوذا باع المسيح». هذا ما يكتبه إليَّ يهود متعلمون، من ذلك النوع الذي (ولا أريد تعميم الملاحظة لأنني لا أنوي التشهير السلفي بأحد) يُحب دائماً أن يخبرك بأنه متعلم جداً، وأنه منذ زمن بعيد ما عاد يؤمن بالخرافات التي يؤمن بها شعبه، وما عاد يمارس الطقوس الدينية المتَّبَعة عند هذا الشعب، وأكثر من ذلك ما عاد يؤمن بالله، لأنه يعتقد بأن مثل هذه الأمور هي من السخف بحيث لا يمكن أن ينشغل بها إلّا اليهودي البسيط. أريد هنا أن أضع ملاحظتي بين قوسين فأقول لكل هؤلاء السادة من «رفعاء اليهود» الذين يقفون من أمتهم هذا الموقف: إنَّ من الصعب جداً نسيان القرون الأربعين المرتبطة، بـ«يهوه»(2). وأنا أعرف سلفاً أن موقف اليهود المتعلمين السابق ليس مبعثه الإحساس بالإثم فقط، بل هنالك أيضاً أسباب مختلفة كثيرة وكلها مِن مستوى عالٍ. فالأمر في النهاية عجيب غريب: اليهودي لا يمكن تصوره من دون إلهه. الإله واليهودي لا ينفصلان. على أية حال، هذه مسألة واسعة وسنتركها مؤقتاً. كل ما يذهلني الآن هو: كيف ومِن أين ومتى تحوَّلتُ إلى كاره لليهود كشعب.. كأمة؟! أما كمستغلين وأصحاب رذائل فإن أحكامي عليهم لن تجد ممانعةً من أحد، حتى من قبل هؤلاء السادة المتعلمين. ولكن حتى على مستوى الكلمات، من الصعب أن نجد، في الواقع العملي، ما هو أكثر إزعاجاً لليهودي المثقف من كونه يهودياً. ولكن من جديد: متى وكيف صرَّحتُ عن كراهيتي لليهود كشعب؟ في الحقيقة، لم تكن هذه الكراهية موجودة في قلبي مطلقاً، وبعض اليهود الذي يعرفونني أو الذين كانت تربطني بهم علاقاتٌ ما يدركون جيداً هذه الحقيقة، لذا فإنني ومنذ البداية، وقبل أن أتفوه بأية كلمة، أرفع عن نفسي هذه التهمة، مرة واحدة وإلى الأبد. والآن، ألا يعقل أنهم يتهمونني بالكراهية لهم لأنني أستعمل أحياناً كلمة «شايلوك»(3) في تسميتهم؟ أنا أولاً، لم أفكر بأن كلمة «شايلوك»، مهينة إلى هذه الدرجة. ثانياً أنا لم أستخدم هذه الكلمة إلّا من أجل تحديد معان واضحة لأفكار معينة: (شايلوك ـ الشايلوكية ـ القيصرية الشايلوكية) الخ.. هنا يتحدد مفهوم شهير، اتجاه شهير.. إنها سمة القرن كله. من الممكن النقاش حول هذه الفكرة، من الممكن عدم الموافقة عليها، ولكن لا تجوز الحساسية لمجرد استخدام الكلمة. سوف أقدِّم لكم مقاطع من رسالة أحد المتنورين اليهود، وهي واحدة من مجموعة رسائل وصلتني حول هذه المسألة. إنها واحدة من أكثرها إدانة لي على كراهيتي لليهود كشعب. ومن البديهي أن يظل اسم السيد (ن.ن.) الذي بعث بهذه الرسالة مغفل التوقيع تماماً.
«إنني أنوي الحديث عن موضوع واحد فقط، عن موضوع لا أستطيع تفسيره بحال من الأحوال.. إنه كراهيتكم العجيبة لـ«شايلوك» والتي تظهر تقريباً في كل عدد جديد من «يومياتكم»(4)؟
«بودي لو أعرف لماذا تقفون ضد (شايلوك) تحديداً، وليس ضد المستغلين عموماً؟ إنني أكثر منكم كرهاً لكل الخرافات والآراء الباطلة للأمة اليهودية، فأنا شخصياً عانيت الكثير من هذه الخرافات، ولكنني لا أوافق مطلقاً على أن في دماء هذه الأمة يسكن استغلالٌ لا أخلاقي. هل يعقل أنكم لا تستطيعون رؤية القانون الأساسي لأية حياة اجتماعية، حيث إن جميع المواطنين ـ دون استثناء أحد ـ في أية دولة، إذا ما كانوا يحملون على عاتقهم مختلف الواجبات الضرورية من أجل استمرار الدولة وتطور المجتمع، فإن من حقهم، في الوقت نفسه، أن يتمتعوا بمختلف حقوق وإيجابيات هذه الدولة؟ وأن العقاب المُعَدَّ للمجرمين ـ مخالفي القانون ـ يجب أن يكون واحداً للجميع من دون استثناء أحد؟ فلماذا إذن ينبغي على اليهود أن يؤدوا الواجبات كاملة بينما هم، في واقع الأمر، لا يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها غيرهم؟ ولماذا يُفرض على اليهود كل تلك القوانين القاسية؟ فبماذا المستغلون الأجانب (مع أن اليهود في حكم الروس) الألمان، الإنكليز، اليونانيون، هؤلاء المستغلّون المنتشرون انتشاراً واسعاً في روسيا كلها بماذا هم أفضل من المستغلين الشايلوكيين؟ بماذا الإقطاعي الروسي، مصاص دماء الشعب والمنتشر في روسيا كلها أفضل من المستغل الشايلوكي الذي يعمل ضمن أوساط محددة؟ بماذا بعض هذا أفضل من بعض ذاك؟»
(هنا يقارن المراسل المحترم بين بعض الإقطاعيين الروس المشهورين وبين بعض المستغلين اليهود، ويقول إنَّ الإقطاعيين الروس هم الأسوأ حتماً. ولكن على ماذا يبرهن مثل هذا الأمر؟ فنحن الروس لا نمتدح إقطاعيينا، ولا نضعهم أمثلة كي يقتدي بها الآخرون. بل العكس هو الصحيح. فنحن نعتبر أن هؤلاء وأولئك سيِّئون حتماً).
«توجد آلاف الأسئلة التي أستطيع طرحها هنا، والتي تدور حول ما قلته آنفاً، بينما في حديثكم عن «شايلوك» لا تراعون مشاعر الجماهير اليهودية الواسعة التي تعاني الفقر والحرمان والاضطهاد. إنَّ مِن بين ثلاثة الملايين يهودي في روسيا، مليوناً وتسعمائة ألف في أقل تقدير، يخوضون صراعاً مريراً من أجل البقاء، فهم كما تعلمون لا يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها الأجانب في روسيا، وفي الوقت نفسه فإنهم لا يتمتعون بحقوق الشعب الروسي الذي تعبدونه أنتم (يقصد دوستوفيسكي ـ المترجم). إنكم في مفهومكم هذا عن «شايلوك» تشملون حتى اليهود المحترمين، الحاصلين على درجة عالية من التعليم، والمتميزين عن غيرهم من الناس في مختلف مجالات الدولة.. خذوا مثلاً..». (هنا من جديد بعض الأسماء التي، باستثناء غولدشتاين، أعتبر نفسي لا أملك الحق في ذكرها، لأن أصحاب هذه الأسماء قد يغضبون أو يحزنون عندما يطالع القرّاءُ هذه اليومياتِ ويعرفون أن أصحابها من أصل يهودي).
«كيف يمكن كراهية غولدشتاين (الذي مات ببطولة في سيبيريا من أجل الأفكار السلافية، والذي قضى حياته يعمل في سبيل خير المجتمع والإنسانية؟ إن كراهيتكم لـ«شايلوك» تمتد وتفرد جناحيها حتى على (دزرائيلي)(5) الذي هو نفسه لا يعلم بأن أجداده كانوا ذات مرة يهوداً من إسبانيا، والذي، طبعاً،لا يقود سياسة المحافظين الإنكليز من وجهة نظر «شايلوكية». لا، للأسف الشديد، أنتم لا تعرفون الشعب اليهودي، لا تعرفون حياته، لا تعرفون روحه. وفي النهاية فإنكم لا تعرفون حتى القرون الأربعين التي يتشكل منها التاريخ اليهودي. أقول للأسف لأنكم في كل الأحوال، شخص نزيه وشريف تماماً، ولكنكم تضمرون ـ من دون وعي ـ شراً كبيراً لجماهير الشعب اليهودي البائس. أما «شايلوك» القوي، الجالس في صالونه الفخم فإنه لا يخاف مطبوعاتكم ولا يخاف كذلك جماهير المستغلين (بفتح الغين ـ المترجم). والآن فلنكفَّ عن الحديث حول هذه المسألة، فأنا أعتقد جازماً بأنكم لن تقتنعوا مني بوجهة نظري، ولكني أتمنى عليكم لو تمكنتم من إقناعي بوجهة نظركم».
قبل أن أجيب بأي شيء (ولأنني لا أريد أن آخذ على عاتقي مثل هذه التهمة الثقيلة) أحبّ أن ألفت الانتباه إلى وضوح الهجوم عليّ، وإلى درجة الحساسية في الرسالة. ولو تحدثت بموضوعية فإنني على مدار السنة كلّها لم أنشر في «اليوميات» مقالات ضد «شايلوك» تستحق مثل هذا الجهوم القاسي عليّ. هذا أولاً. ثانياً: من الخطأ ألّا نلاحظ أنَّ المراسل المحترم لم يحصر هجومه ضدي أنا شخصياً فقط وإنما تعداه إلى الشعب الروسي عامة، هذا الشعب الفقير الذي يصرّ السيد المراسل على التعامل معه من فوق. «في روسيا، كما يقول شيدرين(6)، لم يبق شيء غير مبصوق عليه». أما اليهودي فـ«مغفور» له. إنَّ هذه القسوة التي يتصف بها السيد المراسل إنما تدلل وبوضوح على الموقف الحقيقي لليهود من الشعب الروسي. لقد كتب هذه الرسالة رجل موهوب ومتنور (ولكني لا أعتقد أنه كتب ذلك من دون آراء باطلة). فماذا أنتظر إذن من اليهودي غير المتعلم، والذي نعرف جميعاً حقيقة مشاعره تجاه الإنسان الروسي؟ أنا لا أقول هذا كاتهام، فهو أمر طبيعي. ولكني أريد فقط أن أؤكد بأن المذنب في العلاقة مع اليهود ليس الشعب الروسي وحده، لأن التراكم الحاصل من الاختلاف في وجهات النظر يعتبر من مسؤولية الطرفين، ومن غير المعروف بعد أي الطرفين يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية. للإجابة عن هذه النقطة وبعد أن قلت بضع كلمات في تبرئة نفسي فإنني سأقول ـ بصراحة ـ كيف أنظر أنا شخصياً إلى هذه المسألة. وهنا أحب أن أكرر القول: إنَّ «المسألة اليهودية» فوق طاقتي. ومع هذا فإنني أستطيع أن أقول شيئاً ما.
Pro u contra(7)
لنفترض أن من الصعب جداً معرفة القرون الأربعين التي يتشكل منها التاريخ اليهودي، لكنني بالمقابل أعرف شيئاً واحداً على الأقل، أعرف أنه لا يوجد شعب في العالم كله يتشكّى دونما انقطاع أبداً، في كل دقيقة وثانية، من المصير الذي ألمّ به كما يفعل اليهود. إنهم يندبون حظهم مع كل خطوة، مع كل كلمة، يتشكون من عذاباتهم، من احتقار الآخرين لهم، ومن آلامهم التي لا تنتهي. يتشكون من كل شيء لدرجة تنسى معها أنهم هم الذين يسيطرون على أوروبا، وأنهم هم المتحكمون بأسواق البورصة هناك. ومع هذا تراهم يتذمرون، باستمرار، من السياسات الداخلية اللاأخلاقية لمختلف حكومات تلك البلدان. فَلْيَمُتْ غولدتشاين مشكوراً في الدفاع عن الأفكار السلافية. ولكن مع هذا يجب أن لا تكون الفكرة اليهودية على هذا النحو من القوة في العالم كله. فقد كان من الممكن أن تنتهي المسألة «السلافية»(8) التي ظهرت في العام الماضي، إلى مصلحة السلاف وليس الأتراك. أنا مستعد للإيمان بأن اللورد (بيكونسفيلد)(9) قد نسي حقيقةَ أصلِه، نسي أنه من يهود إسبانيا (ولعله لم ينس ذلك)، أما أنه يقود سياسة حزب المحافظين الإنجليز من وجهة نظر «شايلوكية» إلى حدّ ما، فمن الخطأ القاتل أن نشك في هذا. يجب ألّا ننسى أبداً هذه الـ«إلى حد ما». فلنقل إنَّ هذه الكلمات تفتقر إلى الدليل الموضوعي أو إلى الحجة الدامغة، ولكني، بالرغم من كل شيء، لا أستطيع أن أثق بصرخات اليهود حين يعلنون أنهم معذبون، ومحتقرون. في رأيي أن الفلاح الروسي، وبشكل عام، الإنسان الروسي البسيط يحمل على كاهله من الهموم أكثر مما يحمله أي يهودي.. المراسل المحترم يكتب لي في رسالة ثانية:
«قبل كل شيء، من الضروري إعطاء اليهود حقوقهم كاملة كمواطنين (فكروا قليلاً، فإنَّ اليهود حتى الآن محرومون من أبسط حقوق السكان الأصليين: الاختيار الحر لمكان الإقامة، حيث تتولد باستمرار ـ بسبب هذا الحرمان ـ مجموعة كبيرة من المضايقات المرعبة بالنسبة إلى جماهير اليهود)، يجب إعطاؤهم هذه الحقوق كما هي معطاة لجميع الأجانب المتواجدين في روسيا. وبعدئذ فقط، يمكن مطالبتهم بأداء كامل الواجبات تجاه الدولة وتجاه السكان الأصليين».
والآن، فكِّروا أنتم أيها السيد المراسل بما كتبتموه لي في الرسالة نفسها، على الصفحة الثانية، بأنكم تشفقون على الشغيلة الروس وتتعاطفون معهم بالمستوى نفسه أو أكثر قليلاً مما تشفقون على جماهير اليهود (وأن هذا قد قيل لليهود بقوة)؛ فكروا فقط حول النقطة التالية: عندما كانت جماهير اليهود «تعاني من حرية اختيار مكان الإقامة» كان ثلاثة وعشرون مليون إنسان روسي يعانون من نظام القنانة (كان أكثر من ربع الشعب الروسي عبيداً للسادة والإقطاعيين، تماماً مثلما كانت عليه حال الزنوج في الولايات المتحدة قبل أن يتم تحريرهم من الرق في ستينيات القرن التاسع عشر ـ المترجم)، ذلك النظام الذي هو، بلا ريب، أكثر قهراً وإذلالاً من مجرد «حرية اختيار مكان الإقامة». وماذا حدث؟ هل أشفق اليهود وقتئذ على هذه الملايين كلها من بسطاء الروس؟ لا أعتقد. اسألوا في غرب روسيا وفي جنوبها إذا كنتم لا تصدقونني.. أبداً، فحتى في ذلك الحين كان اليهود يصرخون ويشكون من أنهم منسيون ومعذبون، كانوا يصرخون مطالبين بالحقوق التي لم يكن يمتلكها الشعب الروسي نفسه. كانوا يصرخون مطالبين بالحقوق التي «عندما نحصل عليها سوف نقدِّم بدورنا الواجباتِ كاملةً تجاه الدولة والشعب الأصلي». وأخيراً جاء المنقذ وأنقذ الشعب الأصلي. فماذا حدث؟ من الذي انقضّ أولاً على هذا الشعب المقهور؟ من الذي انقضّ عليه كما ينقضّ على ضحية؟ من الذي ناب عن الإقطاعيين في استغلال هذا الشعب حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً؟ من الذي سخّر حرفته الأبدية (تخزين الذهب) في مصّ دماء بسطاء الروس؟ أقول لكم إنَّ الفارق بين المستغل اليهودي والإقطاعي الروسي كبير جداً. فالإقطاعي، على الرغم من أنه استغل فلاحيه أبشع استغلال، إلّا أنه كان يسعى دائماً إلى عدم تدمير هؤلاء الفلاحين، من أجل مصلحته الشخصية على الأقل، ولهذا فهو لم يسع إلى استنفاد القوى العاملة لفلاحيه. أما بالنسبة إلى اليهودي فالأمر مختلف، إنّه لا يهتم إذا استنفدت طاقة الإنسان الروسي أم لا.. أخَذ ما أخذ ثم انصرف. أنا أعلم أن اليهود، عند قراءة هذه اليوميات، سوف يصرخون قائلين: إنَّ هذه ليست سوى أباطيل، وإنَّ هذا افتراء، وإنني كاذب، ويعود السبب في كذبي إلى أنني أؤمن بمختلف الحماقات، وإلى أنني لا أعرف تاريخ القرون الأربعين «لهذه الملائكة» النزيهة الطاهرة، والتي لم يُعطَ لها ليس فقط ما أعطي للأجانب، بل حتى ما أعطي للشعب الروسي الذي أعبده أنا «حسب كلمات السيد المراسل: انظر ما سبق». فلنفترض أن اليهود، في العالم كله، لا يتمتعون بحقوق الشعوب الأصلية بما في ذلك روسيا طبعاً.. فلنفترض هذا. أما أنا فقد قرأت في عدد آذار (مارس) من كتيّب «بشير أوروبا» تقريراً عن اليهود في الولايات المتحدة الأميركية ـ وتحديداً في الولايات الجنوبية منها ـ يقول إنَّ اليهود هناك قد انقضّوا على ملايين الزنوج المحررين حديثاً من العبودية وأخذوا يستغلونهم بطريقتهم الخاصة الشهيرة بهم، طريقتهم الأبدية «مهنة الذهب»، مستفيدين من قلة تجربة هؤلاء القوم المُذَلِّين. تصوروا، أنني عندما قرأت هذا التقرير، وردت إلى ذهني فوراً ذكريات قديمة عن الزنوج، فقبل خمس سنوات فكرت كثيراً في هؤلاء المساكين الذين تخلصوا حديثاً من العبودية، وتساءلت يومئذ: هل سيسلمون كذلك من اليهود؟ فكرت في هذا طويلاً، وتساءلت خلال السنوات الخمس المنصرمة مرات عدة: لماذا لا نسمع شيئاً عن اليهود في أميركا؟ لماذا لا يكتبون عنهم في الجرائد؟ أليس الزنوج قوة عاملة كبيرة بالنسبة لليهود؟ هل يعقل أن اليهود سيتركون الزنوج بسلام؟!!. هكذا وبعد انتظار طويل كتبوا في الصحافة حول الموضوع الذي كنت أفكر به. وقرأت ذلك بنفسي. أما قبل عشرة أيام فقد قرأت في (الزمن الحديث) ـ رقم العدد 371 ـ مقالاً بعث به المراسل من كوفنو، يشرح فيه كيف احتكر اليهود جميع الفودكا هناك. ولولا تدخل بعض القساوسة الكاثوليك لمات كثير من السكارى المساكين. لقد جاء تدخل القساوسة في الوقت المناسب، إذ أخذوا يهدّدون بنار جهنم وعذابات جهنم من أجل خلق مجتمع من الصحو. المراسل ـ للحقيقة ـ يحمرّ خجلاً من شعبه الذي ما زال يؤمن بالقساوسة وبعذابات جهنم، ولكنه يضيف أن كثيراً من الاقتصاديين ورجال المال المتنورين حذوا حذو القساوسة فأخذوا يقيمون البنوك التجارية فقط من أجل إنقاذ الشعب من الرِبا الذي يمارسه اليهود، كما أخذوا يقيمون الأسواق التجارية التي تمكّن الجمهور البسيط من الحصول على الموارد الضرورية بسعر معقول، وليس بالسعر الذي يفرضه اليهود. لقد قرأت هذا وعرفته، والآن سوف يصرخ اليهود قائلين بأن هذا لا يدلل على شيء، وبأن سبب هذا يعود إلى أن اليهود أنفسهم مقهورون، وأنهم فقراء وأن هذا كله ليس إلّا «صراع من أجل البقاء»، وأن الأحمق وحده لا يستطيع اكتشاف الحقيقة، أما عندما يصبحون أغنياء فإنهم في تلك اللحظة ذاتها سوف يظهرون أنفسهم في أكثر المواقف إنسانية، بحيث يُدهشون العالم كله. ولكن، في الحقيقة، فإن الزنوج والليتوفيين أكثر فقراً من اليهود الذين يمتصون الآخرين حتى آخر قطرة. إن الزنوج والليتوفيين يشمئزون من تجارة كهذه التجارة التي يرتمي عليها اليهود «اقرأ ما كتبه المراسل». هذا أولاً. أما ثانياً فليس من الصعب أن تكون إنسانياً وأخلاقياً عندما تكون مُتخَماً. أما هذه الحجة: «الصراع من أجل البقاء» فلا تقترب مني بالمرة، أظن أنّ هذه ليست ميزة ملائكية. أما ثالثاً فأنا، بطبيعة الحال، لا آخذ هذين المثالين من «بشير أوروبا» و«الزمن الحديث» كحقيقتين قاطعتين جازمتين بحيث أبني عليهما موقفي النهائي من المسألة.. إذا أردنا أن نبدأ بكتابة تاريخ هذه القبيلة العالمية فإننا نستطيع فوراً أن نجد مئات الآلاف من الحقائق المشابهة لما سبق، وأقوى مما سبق، وهكذا فإنَّ حقيقة أو حقيقتين إضافيتين لن تقدِّما شيئاً خاصاً. أما ما هو شائق فعلاً، فإنك ـ سواء من أجل النقاش، أو هكذا بدافع الفضول ـ إذا أردت أن تأخذ فكرة حقيقية عن اليهود وعن أعمالهم فلا حاجة بك للذهاب إلى المكتبة من أجل المطالعة، ولا حاجة بك إلى الغوص في المجلدات القديمة؛ لا ترهق نفسك، لا تبحث طويلاً، ولا تترك مكانك، بل لا تنهض عن الكرسي، فقط مد يدك إلى أية جريدة بجانبك، وفتش في الصفحة الثانية أو الثالثة، وأنا أضمن لك أنك ستجد شيئاً ما عن اليهود، شيئاً ما يهمك، شيئاً ما شبيهاً بما قيل أعلاه، لأن الأشياء كلها عندهم متشابهة! وهكذا يجب أن توافقوني على أن هذا كلّه يعني شيئاً ما، يفتح أمامنا شيئاً ما، حتى لو كنّا نجهل تماماً تاريخ القرون الأربعين لهذه القبيلة. من البديهي أن اليهود سوف يجيبون عن هذا قائلين: إنَّ الجميع في هياج بسبب الحقد الذي يحملونه لليهودي. طبعاً، من الممكن جداً أن يكذب الجميع، الجميع دون استثناء، لأن كراهيتهم لليهود هي التي تحركهم في هذا الاتجاه، ولكن في هذه الحال، فإن السؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو التالي: إذا كان الجميع دون استثناء يكذبون بسبب كراهيتهم لليهود، فمن أين جاءت هذه الكراهية؟ لأن هذه الكراهية تعني شيئاً ما حتماً. «لأن كلمة الجميع تعني شيئاً ما حتماً» كما صرخ بيلينسكي(10) ذات مرة.
«الحرية في اختيار مكان الإقامة».. ولكن هل الإنسان الروسي حر تماماً في اختيار مكان إقامته؟ ألا تقوم حتى الآن تلك الحواجز والمعيقات المتبقية من زمن القنانة، والتي تمنع الإنسان الروسي البسيط من اختيار مكان إقامته؟ حتى الحكومة نفسها منشغلة بهذه المسألة. ولكن ماذا عن اليهود؟ لم يعد خافياً على أحد أن حقوقهم في اختيار مكان الإقامة قد توسعت كثيراً، بل كثيراً جداً، خلال السنوات العشرين الماضية، فقد ظهروا في أماكن مختلفة من روسيا لم يكن باستطاعة أحد أن يراهم فيها سابقاً. ومع هذا فإنهم ما زالوا يتذمرون من كراهية الآخرين لهم، ومن تحديد مكان الإقامة. لا أريد الادعاء بأنني أعرف الواقع اليهودي تماماً، ولكني أعرف بالمقابل شيئاً ما أستطيع النقاش حوله بثقة مع الجميع: لا توجد عند الشعب الروسي البسيط أية كراهية مسبقة لليهود. لا توجد مثل هذه الكراهية القبليّة أو الطوباوية أو حتى الدينية. لا توجد كراهية من نوع «يهوذا، كما يقال، باع المسيح». ومع أنك قد تسمع هذا من طفل أو من رجل سكران، فإني أذكر هنا أن الشعب الروسي كلّه ينظر إلى اليهود ـ وأكرّر هذاـ من دون أية كراهية مسبقة. أنا رأيت هذا خلال خمسين سنة. أنا عشت مع الشعب، بين جماهير الشعب البسيط، عشت هذا في معسكرات الجيش، حيث كان بيننا عدد من اليهود. ولم يحتقرهم أحد. ولم يطردهم أحد. حتى عندما كانوا يصلّون «واليهودي يصلّي بصراخ مرتدياً مسوحاً خاصة به»، حتى في هذه الحال فإن أحداً من الروس لم يجد ذلك أمراً غريباً، ولا أزعجهم بشيء ولا سخر منهم. ماذا كنتم تنتظرون من شعب جلف ـ حسب مفهومكم للشعب الروسي؟ كانوا عندما ينظرون إلى اليهود يقولون: «هكذا هي ديانتهم، وهكذا هم يصلون». ثم يتابعون سَيرَهم بهدوء وباستحسان تقريباً لصلاة الآخرين. ثم ماذا؟ فإن اليهود أنفسهم كانوا يبتعدون عمداً عن الروس.. كانوا يرفضون مشاركتهم الطعام.. كانوا ينظرون إليهم من عَلٍ، وأين يحدث هذا؟ حتى في المعتقل، وبشكل عام كانوا يظهرون اشمئزازاً وتقززاً تجاه الروس، أي تجاه سكان البلاد الأصليين. الشيء نفسه في كل مكان من روسيا. انظروا بأنفسكم واسألوا: هل يُغضبون اليهودَ في المعسكرات كيهود؟ كـ«شايلوك»؟ هل يغضبونهم بسبب معتقداتهم؟ هل يغضبونهم بسب عاداتهم وتقاليدهم؟ أبداً، لا أحد يُغضب اليهود على هذا. وليس فقط في الجيش، بل وبين الشعب عامة. والعكس هو الصحيح، فالإنسان الروسي البسيط يرى ويدرك ـ حتى اليهود أنفسهم لا يُخفون هذا الأمر ـ أن اليهودي يرفض مشاركته الطعام ويتقزز منه ويبتعد عنه قدر استطاعته. ومع هذا فإن الروسي بدلاً من أن يغضب منه فإنه يقول بهدوء ووضوح: «هكذا هي ديانة اليهودي، وهو إنما بسبب معتقداته يسلك هذا السلوك وليس بسبب شرٍ ما». والروسي الذي يعرف هذا السبب فإنه يسامح اليهودي من صميم قلبه. وأنا، تأتيني أحياناً، مثل هذه الفكرة الخيالية: ماذا لو لم يكن عدد اليهود في روسيا ثلاثة ملايين؟ ماذا لو كان العكس هو الصحيح، بحيث يصبح عدد اليهود ثمانين مليوناً بينما عدد الروس ثلاثة ملايين؟ ماذا كان سيفعل اليهود بالروس؟ هل كانوا سيعطونهم نفس الحقوق التي يتمتعون بها؟ هل كانوا سيسمحون لهم بالصلاة بحرية بينهم؟ أما كانوا سيحولونهم إلى عبيد؟ وأسوأ من هذا كله، أما كانوا سيسلخون جلودهم جميعاً؟ أما كانوا سيضربونهم حتى الإبادة كما فعلوا مع الشعوب الغريبة عنهم في تاريخهم القديم؟ لا.. أؤكد لكم أنه لا توجد كراهية مسبقة عند الشعب الروسي تجاه اليهود، ولكن من الممكن أنه يوجد عدم ارتياح لهم، ومن الممكن أن عدم الارتياح هذا قوي للغاية. أوه.. لا يمكن من دون هذا الشيء، هذا موجود، نعم موجود، ولكنه لا يأتي بسبب أن اليهودي يهودي، ليس لسبب قبلي، ليس لسبب ديني، وإنما مبعث هذا أسباب مختلفة تماماً، هذه الأسباب ليس الشعب الروسي مسؤولاً عنها، ليس سكان البلاد الأصليون.. وإنما اليهود أنفسهم.
الكراهية المبنية على معتقدات خرافية ـ هذا هو الاتهام اليهودي للسكان الأصليين. وطالما جاء الحديث حول المعتقدات الخرافية، فكيف أنتم تفكرون؟ هل يتغذى اليهودي بالخرافات أقل من الروس؟ لقد وضعت أمامكم أمثلة عن كيفية النظرة التي يحملها الروسي البسيط لليهود، أما الآن فتوجد أمامي رسائل عديدة، ليس من بسطاء اليهود، ولكن من المتعلمين بينهم، وكم تحمل هذه الرسائل من كراهية لسكان البلاد الأصليين!! وأسوأ ما في الأمر أن اليهود أنفسهم لا يدركون ذلك.
Status in statu(11)
لاحظوا معي، أنه من أجل البقاء أربعين قرناً في الوجود ـ أي على مدار التاريخ البشري كله تقريباً ـ وفي مثل هذه الوحدة المتماسكة غير المنفصمة، أن تضيع أرضك وحريتك السياسية مرات عديدة، أن تضيع قوانينك وتقريباً معتقداتك، ثم أن تعود وتتوحد وتنبعث في الفكرة السابقة ذاتها، حتى ولو بشكل آخر، ومن جديد تصنع لنفسك القوانين والمعتقدات ـ إن مثل هذا الشعب غير العادي، القوي، الحيوي، الذي لا نظير له في العالم لا يمكنه أبداً أن يعيش دون Status in statu. وعند الحديث حول Status in statu لا أسعى إلى أية إدانة أو اتهام للآخرين. ولكن فيم يكمن جوهر هذا الـStatus in statu وما هي فكرته السرمدية غير المتغيرة؟
من الصعب الحديث تفصيلياً حول هذه النقطة في مقالة قصيرة كهذه، بل ومن الصعب عموماً الحديث عنها لسبب آخر هو أن جميع الأزمان والمواقيت لم تَحِنْ، هذا بغضّ النظر عن القرون الأربعين المنصرمة، لأن الكلمة النهائية للبشرية عن هذه القبيلة لم يحن وقتُ قولها. أما الآن فإن كنا عاجزين عن الغوص في جوهر هذه المادة وعمقها، فإننا، على الأقل، قادرون على تحديد بعض الملامح لهذا الـStatus in statu. أقول، على الأقل، ولو بعض الملامح الخارجية له، وهذه الملامح هي: عدم التبدل أو التحول على مستوى المعتقد الديني، عدم الامتزاج مع الآخرين، الثقة العمياء بأنه لا يوجد على الأرض سوى شخصية واحدة هي الشخصية اليهودية، أما الآخرون، وبالرغم من تواجدهم، إلّا أنه يتوجب عدم أخذهم بالحسبان: «اخرج من الشعوب واحتفظ بشخصيتك المتفردة، واعلم أنك الوحيد عند الرب، اِسْحَقِ الآخرين، أو حَوِّلْهم إلى عبيد أو استغلّهم كما تشاء، ثق بأن جميع الشعوب سوف تخضع لك، أعرِضْ عن الجميع باشمئزاز، ولا تختلط بأحد، وحتى عندما تُطرد من الأرض وتفقد شخصيتك السياسية، حتى عندما تتشرّد في مختلف أنحاء المعمورة وبين مختلف الشعوب ـ سيّان ـ ثق بما وُعدتَ به مرة وإلى الأبد، ثق بأن كل شيء سينصلح، وحتى يتحقق الوعد، عش، أعرض عن الآخرين، توحّد، واستغل و.. انتظر، انتظر»(12) هذا هو جوهر فكرة Status in statu، وعدا هذا فإنه توجد حتماً قوانين أخرى باطنية محيطة بهذه الفكرة الجوهرية.
أنتم أيها السادة المتعلمون اليهود تقولون: إنَّ هذا كله خطل وسخف، وإنه إذا ما وجد هذا الـStatu in statu ـ بالأحرى كان موجوداً ولم يبق منه سوى آثار واهمة ـ فإن السبب الذي قاد إليه إنما هو الاضطهاد. إنَّ الاضطهاد الديني المتراكم منذ العصور الوسيطة، وحتى من قبل ذلك التاريخ، هو الذي صنع Status in statu، من أجل مساعدتنا على الحفاظ على هويتنا، وإذا كان Status in statu مستمراً في التواجد، وبخاصة بين يهود روسيا، فالسبب في ذلك هو أن اليهودي حتى الآن لم يحصل على الحقوق التي يتمتع بها سكان البلاد الأصليون.. وإليكم ما أراه أنا: حتى لو حصل اليهودي على كامل الحقوق التي يطالب بها، فإنه ولا بحال من الأحوال سيتنازل عن Status in statu لأننا لو ذيّلنا Status in statu بتوقيع الاضطهاد والحفاظ على الذات فقط لكنا مخطئين. هذا وحده غير كاف، لأننا بهذه الحال كنا سنفتقر إلى المثابرة والمواظبة على المحافظة على الذات خلال أربعين قرناً، ولأصابنا الملل من هذه المحافظة في مثل هذه المدة الطويلة، فحتى أقوى الحضارات في تاريخ البشرية لم تستطع أن تحافظ على ذاتها نصف هذه القرون الأربعين لأنها سرعان ما كانت تفتقد قوتها السياسية وهيئتها القبلية. إذن ليس الحفاظ على الذات هو السبب الأول، وإنما توجد فكرة ثانية، فكرة مندفعة ومتحركة، فكرة عميقة لها طابع عالمي، فكرة لن تستطيع البشرية الآن أن تقول بحقها الكلمة الأخيرة، كما سبق وكتبت أعلاه. إنَّ الهوية الدينية تحتل ـ من دون شك ـ مكان الصدارة في المسألة. إنَّ الخالق اليهودي والذي كان يسمّى في البدء «يهوه» هو الذي ما زال يقود شعبه بمثله الخاصة ووعده الخاص.. إنه يقود اليهود إلى هدف قاس جداً. هذا أمر واضح كل الوضوح. من الخطأ القاتل، أعود وأكرر، أن نتصور اليهودي من دون إله، وأقل ما يمكنني قوله هنا هو أنني لا أثق مطلقاً بهؤلاء اليهود المتعلمين الذين يتظاهرون بالإلحاد: إنهم من العجينة الجاهلة نفسها، والله وحده يعلم كم ستعاني البشرية من هؤلاء اليهود المتعلمين.. عندما كنت طفلاً قرأت وسمعت أسطورة يهودية تقول: إنَّ اليهود كانوا ومازالوا ينتظرون، بثباتٍ، ظهور المخلّص. جميع اليهود بلا استثناء، من أكثرهم فقراً حتى أكثرهم علماً، وأكثرهم جوراً واستعباداً للآخرين، هم جميعاً يعتقدون بأن المخلّص سوف يلمّهم ويعيدهم إلى أورشليم. وأنه «أي المخلّص» سوف يُخضع شعوبَ الأرض كلها بسيفه، وسوف يقطع رقاب الجميع بحدّ هذا السيف. ولهذا فإن اليهود قاطبة لا يجيدون سوى مهنة واحدة، تجارة الذهب وتصنيعه، وهذا لكي لا يكون أيٌّ من اليهود، حين يَظهر المخلص، مرتبطاً بأية أرض غريبة ولا يكون لهم وطن آخر، وإنما يجب امتلاك الذهب وكل ما هو ثمين فقط من أجل سهولة الرحيل عندما:
«يظهر ويلمع شعاع الفجر..
سوف نحمل الدفّ والمزمار..
والخير والمقدسات
سوف نحملها إلى بيتنا القديم، إلى فلسطين..»
أكرر القول بأن هذا كله قد سمعته كحكاية من حكايات الطفولة، ولكنني واثق الآن من أن جوهر الأمر هو كذلك فعلاً، وبخاصة بالنسبة إلى جماهير اليهود الواسعة التي تتجاذبها غريزة جارفة لهذا الأمر. ولكن من أجل بقاء هذا الجوهر حياً، فمن الضروري أن يبقى الـ Status in statu في أكثر أشكاله قسوة وصرامة، وبما أنه موجود فعلاً في هذا الشكل، فإذن، ليس الاضطهاد وحده سببَ بقائه… وإنما، بالتأكيد، فكرة مختلفة.. إذا كان يوجد عند اليهود مثل هذا النظام القاسي، المتميز، الباطني، الذي يوحّدهم جميعاً في هدف خاص ومتكامل، فإنه ينبغي علينا التفكير جدياً بمسألة المساواة في الحقوق بينهم وبين السكان الأصليين. من البديهي في هذا الحال، أن كل ما تحتاجه الإنسانية والعدالة وكل ما يحتاجه خير البشرية والقانون المسيحي إنما يجب أن يكون مصنوعاً خصيصاً من أجل خدمة اليهود.. ولكن إذا كان اليهود بكل ما في نظامهم القاسي من خصائص وعزلة دينية وقبلية، سواء على المستوى المعاشي اليومي أو على مستوى المبادئ العامة، إذا كانوا سيحصلون على الحقوق نفسها التي يتمتع بها العالم الأوروبي، أفلا يكونون في هذه الحال قد حصلوا على شيء أكبر، أو أكثر، أو شيء زائد، أو شيء أعلى مما للسكان الأصليين أنفسهم؟ هنا يمكن لليهود أن يشيروا إلى مختلف الأجانب قائلين:
«إنَّ الأجانب متساوون، أو تقريباً يتساوون في الحقوق مع السكان الأصليين، أما نحن فنملك حقوقاً أقل من الجميع، والسبب في ذلك أنهم يخافوننا كما لو أننا أكثر ضرراً من مختلف الأجانب.. وبالمناسبة، بماذا اليهودي ضارٌّ؟! إذا كانت توجد نوعية سيئة من الشعب اليهودي، فهذا فقط لأن الشعب الروسي نفسه يريد ذلك بفظاظته وجهله وعدم قدرته على الاستقلال، وبانخفاض مستواه الاقتصادي. الشعب الروسي نفسه يبحث عن الوسطاء والأوصياء والسماسرة، وهو نفسه يبحث عن المرابين ويدعوهم إليه، ويرتمي عليهم حيثما وجدهم.. انظروا في الطرف الآخر من أوروبا: هناك الشعوب قوية ومستقلة روحياً، ومتطورة قومياً، وعندها تقاليد عريقة في مجال العمل، ولهذا فإن تلك الشعوب لا تخاف إعطاء اليهود جميع الحقوق. هل سمعتم شيئاً عن مضار الـ Status in statu في أوروبا من قبل اليهود المحليين؟..»
إن التحليل السابق يبدو في الظاهر قوياً، ولكن في الوقت نفسه تلوح أمامنا ملاحظة بين قوسين: «يكون الوضع أفضل لليهودية حيث يوجد شعب فظ غليظ، غير متحرر، وقليل التطور اقتصادياً»، فبدلاً من أن تعمل على تقوية التعليم، وبدلاً من أن تعمل على تطوير الفعاليات الاقتصادية، بدلاً من هذا كله فإن اليهودي يعمل حيثما وُجد على إضعاف هذا الشعب وتحطيمه.. حيثما وُجد اليهودي تدنت الإنسانية، وهبط مستوى التعليم، وتوسَّع بشكل مقرف البؤسُ الذي يبدو كما لو أنه لا مخرج منه، وكذلك سيطر اليأس والقنوط.. اسألوا السكان الأصليين في بقاعنا النائية: ما الذي حرّك اليهود ومازال يحرّكهم طوال القرون الماضية؟! أؤكد أنكم ستحصلون على إجابة واحدة من الجميع: اللا شفقة، (إنَّ المحرك الأساسي لليهود خلال القرون الطويلة الماضية هو: اللا شفقة، والعطش الأبدي لشرب عَرقنا ودمائنا). وفي واقع الحال، فإن عمل اليهود كلّه في بقاعنا النائية إنما ينحصر بربط السكان الأصليين ـ قدر الإمكان ـ بعجلتهم الاقتصادية، مستفيدين من القوانين المحلية. أوه… إنهم في هذه المسائل قادرون دائماً على الإفادة من الحقوق والقوانين. إنهم قادرون دوماً، على إقامة علاقات حميمة مع أولئك الذين يرتبط بهم الشعب، وفي هذه الحال فليس هم الذين يتوجب عليهم التذمر والتأفف من الحقوق القليلة بالمقارنة مع السكان الأصليين. لقد أخذوا حقوقاً منا أكثر مما عندنا. ماذا حدث للشعب الروسي في السنوات العشر الماضية وحتى في السنوات المئة الماضية في تلك الأماكن التي يتواجد فيها اليهود؟! عن هذا يجيبكم تاريخ مناطقنا النائية.. وماذا بعد؟! دلّوني، لو سمحتم، على ملّة واحدة من الملل الأجنبية التي تسكن روسيا والتي يمكن مقارنتها باليهود من حيث امتلاكها مثل هذا النفوذ الهمجي.. لن تجدوا ملّة كهذه مطلقاً. وفي هذا المفهوم بالذات يحتفظ اليهودي بأصالته الخاصة مقارنة مع بقية الأجانب في روسيا، والسبب في ذلك يرجع بالطبع إلى الـ Status in statu… إلى روحه التي تتغذّى بها هذه اللا شفقة الملعونة… اللا شفقة تجاه كل من هو ليس يهودياً، اللا شفقة وعدم الاحترام لكل الشعوب، ولكل الوجود الإنساني باستثناء اليهود طبعاً. فهل كون الشعب الروسي أضعف من شعوب أوروبا مبرر لاستغلال هذا الشعب الذي عانى خلال قرون طويلة من أوضاع سياسية لا تطاق؟ وهل يجب سَحْقُ هذا الشعب أم تجب مساعدته؟!!.
ولو تحدثنا عن أوروبا، عن فرنسا مثلاً، فإن الـ Status in statu ضارٌّ حتى هناك.. مما لا شك فيه أن المسيحية والفكر المسيحي قد سقطا وما يزالان في سقوط ليس بسبب اليهود وإنما بسبب المسيحيين أنفسهم. ولكن يجب ألا ننسى أن اليهودية المسيطرة في أوروبا قد استبدلت الكثير من الأفكار والمفاهيم هناك بأفكارها ومفاهيمها الخاصة.. لقد كان الإنسان على مرّ العصور يَعبد المادة، وكان دائم الميل إلى رؤية وفهم الحرية عن طريق تجميع المال بكل الوسائل وبكل القوة الاحتياطية التي يملكها، لكن هذه الرؤية وهذا الفهم لم يكونا واضحين مثل هذا الوضوح الذي هما عليه اليوم، ولم يكونا مشيّدين ـ كمبدأ أعلى ـ كما هما عليه في قرننا التاسع عشر: «كل واحد لذاته، ولذاته فقط، وكل علاقة مع الآخرين هي فقط من أجل الذات». هذا هو المبدأ الأخلاقي لغالبية أناس زماننا الحاضر، هذه هي الفكرة الأساسية للبرجوازية التي حَلّت منذ نهاية القرن الماضي محلَّ الشكل السابق في النظام العالمي، والتي وضعت فكرتها الرئيسية لقرننا الحاضر في العالم الأوروبي كله، ليس فقط بالنسبة للناس السيئين، بل على العكس، حتى بالنسبة للشغّيلة واللا قتلة، واللا لصوص. أما انعدام الشفقة تجاه الجماهير الدنيا، أما انهيار الأخوة، أما استغلال الغني للفقير، أوه! هذا كله كان موجوداً فيما مضى، ولكنه لم يكن قائماً على مستوى الحقيقة العليا، هذا كله كان مداناً من المسيحية، أما الآن فعلى العكس تماماً: لقد تحوّل إلى فضيلة. وهكذا فليس صدفة أن اليهود يسيطرون في أوروبا على البنوك وأسواق البورصة والودائع، وليس صدفة أنهم يحركون رأس المال، وليس صدفة، أكرر هذا، أنهم يتحكمون بالسياسة كلها.. وماذا بعد؟!. الإجابة واضحة: إنَّ القيصرية اليهودية تقترب.. القيصرية المطلقة.. وسوف تحلّ بشكل احتفالي الأفكارُ التي سيتحطم أمامها حبُّ الإنسان للحقيقة، والأحاسيس المسيحية، وحتى الشعور القومي والعزة القومية لشعوب أوروبا، وسوف تحلّ مادية عمياء، وعطشٌ حسيٌ مجنون لادخار النقود بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة. هذا ما صار متعارفاً عليه الآن كهدف أعلى، هذا ما أنجبه العقل، هذه هي الحرية. بهذا كله استبدلوا الأفكار المسيحية المنقذة لأخوّة البشرية عامة. سوف يضحكون ويقولون إنَّ هذا الذي يحدث في غرب أوروبا ليس اليهود مسؤولين عنه.. طبعاً ليس اليهود وحدهم، ولكن إذا كان اليهود قد ازدهروا وسيطروا بصفة نهائية في أوروبا تحديداً، في الوقت الذي سيطرت فيه هذه الأفكار الجديدة، حتى إلى درجة بنائها على المستوى الأخلاقي، فمن الخطأ إذن ألاّ نؤكد بأن اليهود قد وضعوا نفوذَهم في هذا الأمر.. الذين يحاورونني من اليهود سوف يقولون: إنَّ اليهود على العكس فقراء، في كل مكان فقراء، وبخاصة في روسيا، وإنَّ القمّة فقط هي الغنية، أي أصحاب البنوك وأسواق البورصة، بينما فقراء اليهود يشكلون نسبة تسعين من المئة، وإنَّ هؤلاء جميعاً شحاذون يسعون في الأرض وراء لقمة الخبز، يعرضون القيام بعمليات «الكورتاج» ـ (الإجهاض ـ المترجم). يبحثون عن أي عمل يكسبون منه كوبيكاً واحداً ثمناً لرغيف.. هذا الأمر، كما يبدو، حقيقة. ولكن على ماذا تدلل هذه الحقيقة؟! ألا تعني تحديداً أنه في صلب الجهد اليهودي «غالبية اليهود على الأقل» يوجد شيء ما غير صحيح، شيء ما غير سويّ، شيء ما غير طبيعي، شيء ما يحمل العقاب والقصاص في نفسه؟! اليهود يَعرِضون السمسرةَ ويتاجرون بعمل الآخرين. رأس المال هو تراكم العمل، واليهودي يحب المتاجرة بعمل الآخرين. هذا كله لن يغيّر شيئاً بعد: لأن القمّة اليهودية تسيطر من يوم إلى يوم على البشرية كلها بشكل أكثر قوة وأكثر قسوة، وهي تسعى لإعطاء العالم هيئتها وكذلك جوهرها.. اليهود دائماً يصرخون أن بينهم أناساً جيدين. يا إلهي! وهل المسألة هنا؟!. فنحن الآن لا نتحدث عن أناس جيدين وأناس سيئين. ألا يوجد في الطرف الآخر أناس جيدون كذلك؟!. وهل كان الباريسي الهادئ البال «جيمس روتشيلد»(13) إنساناً سيئاً؟!.. نحن هنا نتحدث عن الكل، نحن نتحدث عن الشايلوكية وعن الفكرة الشايلوكية التي تحلّ في العالم تدريجياً محلّ المسيحية «الخائبة».
ولكن فلتحيا الأخوّة
وماذا أقول، ولماذا؟ أم إنني عدوٌّ لليهود؟ هل صحيح أنني كما كتبتْ لي إحداهن ـ ولا أشك بحرارة وصدق الكلمات التي بعثت بها إليّ فتاة يهودية متعلمة ـ هل صحيح أنني، كما كتبت هذه الفتاة، عدو لدود لهذه القبيلة «التعسة»؟! «هذه القبيلة التي لا أنفكُّ عن مهاجمتها بمناسبة أو دون مناسبة»؟ «كراهيتكم للقبيلة الشايلوكية التي لا تفكر إلا في نفسها.. الخ».. «من الواضح أن.. الخ..». لا.. إنني أحتج على هذا الوضوح.. لقد سبق وقلت: إن كل ما تتطلبه الإنسانية والعدالة، كل ما تتطلبه البشرية والقانون المسيحي، كل هذا يجب أن يكون مصنوعاً من أجل خدمة اليهود. لقد سبق وقلت هذا.. أما الآن فإنني أضيف شيئاً ما، فبغض النظر عن كل الآراء التي وضعتها أنا بخصوص اليهود فإنني وبشكل مبدئي، أقف وبحزم مؤيداً إعطاء اليهود كامل الحقوق، وأن تكون هذه الحقوق مشرَّعة ومثبتة في دستور البلاد، وأقف بحزم مؤيداً المساواة الكاملة بينهم وبين السكان الأصليين في مختلف المجالات «على الرغم من أن اليهود، في كثير من الحالات، يملكون حقوقاً ـ أو على الأصح ـ يملكون إمكانيات أكبر بكثير مما يملك السكان الأصليون».
بالطبع، وفي الحال، تأتيني مثل هذه الفكرة الخيالية: إذا اهتزَّ لسببٍ من الأسباب مجتمعنا الزراعي المحيط بفلاحنا الفقير منذ أزمان بعيدة، فلاحِنا الجاهل المتحرر حديثاً من القنانة، فلاحنا الذي لا تجربة له، والذي لا يستطيع كبح نفسه عن المغريات المختلفة، والذي لم يتعود بعد على العيش دون قيّم أو وصي على أموره، فماذا عندئذ لو أن اليهود تدفقوا وطغوا على هذا الفلاح؟! هنا تكون النهاية: لأن قدرات فلاحنا وقوته ستتحول غداً إلى سلطة اليهودي.. وعندئذ سيأتينا زمن بشع، زمن سوف نترحم فيه على أيام القنانة.. بل سوف نترحم فيه على أيام التتار.
لكن وبغض النظر عن هذه الأفكار الخيالية كلها، فإنني أقف بحزم مؤيداً إعطاء اليهود مطلق الحقوق التي للسكان الأصليين، لأنه هكذا هو قانون المسيحيين، لأنه هكذا هو المبدأ المسيحي العام.. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كتبت أنا هذه الصفحات كلها، وماذا أردت أن أقول طالما أنني أناقض نفسي؟! لا، ليس من تناقض هنا: لأنه ليس عند الإنسان الروسي أي تحامل أو ظنٌّ مسبق فيما يتعلق بمسألة توسيع الحريات لليهود… أنا أؤكد هذا، وأؤكد بالمقابل أن التحامل والظن المسبق قابع في طرف اليهودي أكثر بكثير مما هو في طرف الروسي، وإذا لم يقم بعد هذا الصرح من الأخوّة، فإن ذنب الروسي في هذه النقطة لا يقارن بذنب اليهودي.
لقد أحضرت لكم أمثلة عن اليهودي البسيط الذي يرفض أن يشارك الروسي الطعام. فماذا كان رد الروسي؟ إنه لم ينتقم ولم يغضب، بل على العكس فقد فكر بعقله وعذره قائلاً: «هكذا هي ديانة اليهودي، وإنما بسبب معتقداته يسلك هذا السلوك». وليس اليهودي البسيط، بل حتى اليهودي المثقف فإنه يملك بداخله تحاملاً لا حدود له ضد الروسي.. ومع هذا فاليهود يصرخون بأنهم يحبّون الشعب الروسي حتى إن أحدهم كتب لي يقول: «أنا حزين لأن الشعب الروسي لا يملك ديانة أو معتقداً، ولأنه لا يفهم شيئاً من مسيحيته». وفي هذا الحال يتولد عندي السؤال التالي: هل يفهم شيئاً من المسيحية هذا اليهودي المثقف جداً؟! إن التشكيك والتعالي الموجودين في الطبع اليهودي إنما يشكلان عندنا نحن الروس أعقَدَ الخصائص وأبشعها في الشخصية اليهودية.
مَن مِنّا إذن مهيأ أكثر لعدم فهم الآخر: الروسي أم اليهودي؟! أقسم لكم بأنني أميل إلى تبرئة الروسي من هذا، ففي أقل تقدير، لا توجد كراهية دينية عند الروس لليهود. أما الظن السيء المسبق فعند مَن هو أكثر؟! ها هم اليهود يصرخون قائلين إنهم اضطُهدوا وظُلموا كلَّ تلك القرون المديدة.. مضطَهدون ومظلومون حتى في هذا الوقت(!!). حسناً، يجب أن نأخذ بالحسبان كيف يحاكم الإنسان الروسي المسألة اليهودية.. سوف نأخذ هذا بالحسبان، ونحن قادرون هنا على إثبات شيء ما: لقد ارتفعت في أوساط المثقفين الروس ومازالت ترتفع أصوات عديدة في تأييد اليهود، فماذا عن المثقفين اليهود؟ هل أخذوا، أو هل يأخذون بالحسبان، عندما يتشكّون متهِمين الروس، الظلمَ والاضطهاد الذي عانى منه الشعب الروسي نفسه؟! هل من الصعب التأكد من أن الشعب الروسي عانى من الاضطهاد والفقر «في تاريخه» أكثر من اليهود أينما وحيثما كانوا؟! هل من الصعب التأكد من أن اليهود أنفسهم قد كانوا حلفاء لأولئك الذين مارسوا القهر والاضطهاد على الشعب الروسي؟! ارجعوا إذن إلى سجلات الضرائب ـ هذا كله حدث، هكذا يقول التاريخ ـ هذه كلها حقائق دامغة. ومع هذا فإننا لم نسمع صوتاً يهودياً واحداً يعلن ندمَه على هذه البشاعة التاريخية.. نعم، لم نسمع ولو صوتاً واحداً.. أما الشعب الروسي فإنه لا يذكر شيئاً من هذا كله.. إنه يحصر احتجاجه ضد اليهود بفكرة واحدة: اليهود لا يحبوننا إلا قليلاً(!!).
ولكن «أيقِظ، أيقِظ!!» سوف تكون وحدة روحية واحدة لكل الشعوب، ولن يكون في هذه الوحدة أية فروق تذكر! ومن أجل هذا فإنني أرجو المراسلين والمحاورين اليهود أن يكونوا تجاهنا نحن الروس أكثر تسامحاً وأكثر عدلاً. إذا كان تعاليهم، وإذا كان «تأففهم الواجم» الأبدي تجاه الروس مجرد تحامل فرضته علاقة عابرة، وإذا لم يكن متجذراً في القوانين الباطنية لليهودية، فإنني واثق من أن الخلافات كلها ستذوب قريباً، وسوف نتوحد جميعاً في أخوّة كاملة، في أخوّة تساعدنا على عمل الأعمال العظيمة، تساعدنا في خدمة بلدنا وحكومتنا ووطننا المشترك.. سوف تخفّ حدة الاتهامات المتبادلة.. بل سوف تختفي هذه الحماسة المفرطة لحب الاتهام، والتي تعيق الفهم الواسع للأشياء. يمكنني الرهان على أن الشعب الروسي سيستقبل اليهودي كأخ له بالمعنى الكامل لمفهوم الأخوّة، بغض النظر عن الاختلاف العقائدي القائم، بل وسينظر باحترام كامل لحقيقة هذا الاختلاف التاريخية، ولكن من أجل الأخوّة، من أجل الأخوّة الكاملة فإنه تلزمنا أخوّة من الطرفين، فليُظهر اليهودي شيئاً ما من المشاعر الأخوية تجاه الشعب الروسي كي يشجعه. أنا أعلم أن بين اليهود وجوهاً غير قليلة تبحث متعطشة عن سبيل مناسب لإقصاء عدم التفاهم الحاصل بين الناس، وهذه الوجود خيّرة ومحبة للآخرين دون شك.. ولست أنا من يصمت عن مثل هذه الحقيقة. وهكذا، ومن أجل ألاّ تنهار معنويات هؤلاء اليهود الخيّرين ومن أجل تمكينهم من الإمساك، بسهولة، بطرف الخيط المؤدي إلى الأخوّة، من أجل هذا أقف دون مساومة مع إعطاء اليهود مطلق الحقوق التي للآخرين، وليبرهِن اليهوديُّ على أنه قادر على الإفادة من هذه الحقوق دون أن يوقِع الضرر والإجحاف بحق الآخرين.. ولكن السؤال يظل قائماً: هل يستطيع هؤلاء اليهود الخيّرون عمل الكثير؟ وإلى أي حدّ هم مستعدون للعمل الجديد الرائع الحقيقي؟! إلى أي مدى يستعدون للوحدة الأخوية الحقيقية مع غيرهم من الشعوب الغريبة عنهم بالدم والمعتقد الديني؟!
الهوامش:
(*) فيدور دوستويفسكي: (1821 ـ 1881) ـ كاتب روسيا الأكبر، والذي ربما كان الكاتب الأكبر في تاريخ البشرية جمعاء. من أبرز مؤلفاته الكثيرة: روايات (الفقراء ـ قلب ضعيف ـ الليالي البيضاء ـ مذلّون مهانون ـ المقامر ـ الجن ـ الجريمة والعقاب ـ الأبله ـ الأخوة كارمازوف).
(1) نُشرت هذه المقالة أول مرة في مجلة «يوميات كاتب» عدد آذار/ مارس سنة 1877 وهي المجلة التي كان يصدرها دوستويفسكي نفسه، ومصدر هذه النسخة هو مجلد «يوميات كاتب» من مجموعة الأعمال الكاملة لفيدور دوستويفسكي والمطبوعة في بطرس بورغ سنة 1886، أي بعد وفاة الكاتب بخمس سنوات، والتي صدرت عن دار آس سوفورين للطباعة والنشر، وأهميتها أنها كُتبت قبل عشرين عاماً من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، وهو المؤتمر الذي اتخذ فيه قرار إقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية.. وقد اختفت هذه المقالة فجأة من أعمال دوستويفسكي. ولعل ظهورها الأخير في وسائل النشر الروسية يعود إلى عام 1912، ثم لا نعثر لها على أي أثر في أية طبعة جديدة لأعمال الكاتب الكاملة، بما في ذلك طبعة عام 1971، والتي جاءت غاية في الأناقة ضمن احتفالية كبرى أقامها الاتحاد السوفياتي بمناسبة مرور مئة وخمسين عاماً على ولادة أعظم كتاب روسيا. وأنا أظن بأن الأمر نفسه قد تكرر مع طبعات أعمال دوستويفسكي باللغات الأجنبية، بما في ذلك الطبعة العربية التي ترجمها عن الفرنسية الدكتور سامي الدروبي في سبعينات القرن العشرين ـ المترجم.
(2) يهوه إله «إسرائيل».
(3) توجد في اللغة الروسية كلمتان تعطيان معنى «يهودي»، وإحدى هاتين الكلمتين لا تعني «يهودياً» فقط، بل تحمل في داخلها صفات غير محببة، ولعدم توافر مثل هذه الكلمة في اللغة العربية، فقد ارتأيت أن أضع مكانها كلمة «شايلوك» نسبة إلى بطل مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، وذلك لما تحمله كلمة «شايلوك» من معان وانطباعات محددة في أذهان القراء. أما الكلمة الروسية التي لا نظير لها في العربية فتُكتب هكذا: «جيد». وتلفظ بكسر الجيم ومد الياء وتسكين الدال.
(4) من عادة الشعب الروسي مخاطبة المفرد الغريب بصيغة الجمع كدلالة على الاحترام. وقد فضلّت في الترجمة الإبقاء على هذه الصيغة كما هي.
(5) بنامين دزرائيلي (1804 ـ 1881) كاتب وسياسي بريطاني من أصل يهودي. كان يقود في أربعينات القرن الماضي حزب «إنكلترا الفتيّة»، وهو الحزب الذي انتقده كل من ماركس وإنجلز عندما وصفاه بـ«الإقطاع الاشتراكي». شغل منصب وزير المالية لفترة طويلة، وساهم بفعالية في صنع السياسة الخارجية للإمبراطورية البريطانية، فقد لعب دوراً كبيراً في إخراج مشروع قناة السويس إلى النور، كما لعب دوراً أهم في احتلال مصر من قبل بريطانيا، وذلك عندما أصبح على رأس حزب المحافظين، أما من أجل الوصول إلى مواقع جديدة في الشرق الأدنى فقد وافق على التغاضي عن التواجد التركي في البلقان مقابل أن تسمح الإمبراطورية العثمانية للإنكليز باحتلال جزيرة قبرص.
(6) ميخائيل سالتيكوف شيدرين (1826 ـ 1889) كاتب روسي كلاسيكي، كان من أشد الكتاب الروس عداء لنظام الحكم القيصري، سُجن في عصر القيصر نيكولاي الأول ما بين عامي 1848 ـ 1853.
(7) ورد هذا المصطلح باللاتينية في النص الروسي، وترجمته الحرفية: (مع وضد)، أما دوستويفسكي فيقصد: ما لليهود وما عليهم.
(8) يقصد بالمسالة «السلافية» التواجد التركي في البلقان، والمعروف أن بريطانيا وقفت إلى جانب تركيا في هذه المسألة، والمعروف أيضاً أن دوستويفسكي كان ينادي بضرورة تدخل روسيا، عسكرياً، من أجل تحرير سلافيي البلقان. وقد قامت الحرب بين روسيا وتركيا بعد شهر واحد من نشر «المسألة اليهودية»، أي في النصف الثاني من نيسان ـ أبريل سنة 1877.
(9) اللورد بيكونسفيلد هو بنيامين دزرائيلي نفسه. والمعروف أن والده كان قد اعتنق المسيحية.
(10) فيساريون بيلينسكي (1811 ـ 1848): ناقد أدبي روسي.
(11) ورد هذا المصطلح باللاتينية في النص الروسي، وترجمته: «الوضع القائم في الدولة»، لكنه في هذه المقالة يخرج من نطاق المصطلح ليأخذ شكل اسم العلم، كدلالة على وضع معين؛ التجمعات المغلقة لليهود في الدول المختلفة: «الغيتو»، الذي يحاول دوستويفسكي أن يحدد ملامحه العامة على الأقل.
(12) هذا النص ـ كم هو واضح ـ مأخوذ من «العهد القديم»، ولم أعثر عليه بحرفيته في النسخة العربية، ولهذا اكتفيت بترجمته عن النص الروسي، كما ورد في مقالة دوستويفسكي.
(13) جيمس روتشيلد: من أكبر رجالات المال في العالم، وهو من يهود فرنسا.
——————-