عبر خوف الخائفين من إقامة دولة إسلاميّة في سوريا … إلى الأعضاء المختارين للحوار الوطني الشامل لرسم قواعد وشكل الدولة الجديدة المرجوة…؟
في السيرة النبويّة كلها لم يُشر النبي محمد طوال حياته إلى شيء يسمى دولة إسلاميّة. ولو أراد ذلك، لكان وضع لها كل ما يلزم من الأنظمة والقوانين. ومثلما أتمّ قواعد الدين كان يجب أن يتمّ قواعد السياسة.
لم يسمِ الرسول أحداً يخلفه وكل الاجتهادات التي تتحدث بهذا الشأن يقع عليها الالتباس ولا تتمتع بمرجعيات موثّقة، بل هي بعيدة عن الحقيقة. وليست الخلافة من الخطط الدينيّة في شيء، وكل ما له علاقة بالتنظيم السياسي للشعوب ليس في الخطط الدينيّة أيضاً، وكل ما له علاقة بالقضاء ووظائف الحكم ومراكز الدولة، كلها خطط سياسية لا شأن للدين فيها، فقد تركها الشارع لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة.
في العام 1925 أصدر الشيخ علي عبد الرازق من مصر كتاب “الإسلام وأصول الحكم” استناداً إلى دراسة فقهيّة معمّقة للنص القرآني، جاء فيه: إنَّ النبي محمد لم يكن إلّا رسولاً لدعوة دينيّة خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة دولة…وأنه لم يكن للنبي ملك ولا حكومة، وأنه لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها. ما كان إلّا رسولاً كإخوانه الآخرين من الرسل، ولا ملكاً ولا مؤسس دولة ولا داعياً إلى ملك… انتهى كلام الشيخ.
إذاً، وعلى لسان فقهاء مميزين من المسلمين أنفسهم، الدين والدولة غير متلازمين، لأن وظيفة كل منهما مستقلّة عن الأخرى وغاية الواحد تختلف عن غاية الآخر. فغاية الدين صلاح هذه الدنيا، سرّ من أسرار النفس في الخلود إلى الخالق وما وراء المادة. وتنحصر وظيفته في تشريف الحياة والسمو بها من مراتبها المتاخمة للدرجة الحيوانيّة إلى مرتبة روحانيّة تطهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بين الإنسان وأخيه في الوطنية والإنسانية.
أما غاية الدولة فهي دنيوية محض، وظيفتها تأمين الناس على أرواحهم وسلامتهم وأمنهم وسن القوانين العادلة لهم وإنفاذها فيهم. فالعقل البشري قادر على وضع القوانين المدنية للدولة دونما الحاجة إلى الشرع الإلهي. والشواهد على ذلك أكثر من أن تُعد وتُحصى، فإن تركنا تجربة التنوير الأوروبيّة التي فصلت الدين عن الدولة وأغلقت الباب على قرون وسطى مظلمة وأنشأت الدولة الحديثة التي وضعت أوروبا في مقدمة العالم… إن تركنا هذه التجربة الواضحة جانباً فلنا في الولايات المتحدة الأميركية خير شاهد على ما ذهبنا إليه. هذه الدولة التي تمتد على مساحة 10 مليون كم مربع وعبر أكثر من خمسين ولاية مختلفين كل الاختلاف في التنوع الثقافي والإثني والتقاليد والأعراف والعادات، يحكمها دستور واحد ومجموعة من القوانين تضبط الشاردة والواردة مكنتها من التربع على عرش العالم.
إنَّ مجتمعنا صار اليوم متعدد الثقافات، نتيجة التطور الهائل في التكنولوجيا ووسائل التواصل والانفتاح اليومي على ثقافات مختلف الأمم وحضاراتها. وإنَّ حالة الخلط بين مجالات المعتقدات الدينيّة الخاصة والحقل العام للأخلاق المدنية الواحدة من شأنه أن يشكّل “حالة متفجرة” بالنسبة للجميع، ومن غير الممكن وضع حواجز أمام الديناميكية الاجتماعية التي تطالب بتأسيس شرعية عامة لمواجهة تحجّر المبادئ الأخلاقية الخاصة التي تستعين بإطار عقائدي يدّعي الثبات والديمومة!