[أخبرني عن أعدائك الذين لا تستطيع القضاء عليهم، وأنا أسلّمهم لك بالطريقة التي ترغب فيها. السير جون هوكوود]
يتقدم المشهد تلك الزبائنية المفرطة، لأنظمة وحكومات ودول تتدافع وتقف بالصف للحصول على الخدمات العسكرية الخاصة، لتلك الشركات التي تطغى وتطفو على سطح الفوضى والبُنى الرخوة، التي صنعتها فوضى الرعب من فائض الخوف الأميركي، من تراجع دور واشنطن في العالم الذي نتج عنه ذلك الأداء الكارثي للإدارة السابقة، التي حاولت ضبط انهيار دورها بفائض القطيعة بالمعنى الفعلي مع دول العالم، ابتداء بأوروبا مروراً بروسيا والصين ودول أميركا اللاتينية.
هذه الشركات شبه العسكرية، التي كان وجودها منذ نصف قرن مضى فقط، يصنّف كحقل من حقول الجريمة المنظّمة، حيث تمت مطاردة أشهر عرابيها في القرن الآفل الماضي، الفرنسي بوب دينار، دون توقف، في كل أنحاء العالم قبل أن يموت سعيداً في فرنسا بعد العفو عنه.
نحن نعرف هذه الشركات باسم آخر أكثر تداولاً وفظاظة، هو شركات المرتزقة، الذي يطغى وجودها العسكري على مشهدية كل الحروب في جغرافيا الاقتتال المزمنة خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، من أرمينيا وناغورني كاراباخ إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا وتشاد ومالي واوكرانيا وكرميا والدانسك، كشريك عسكري أصبح وجوده ثابتاً في النزاعات بغض النظر عن القوى المتقاتلة نفسها. وأكثر من ذلك على المشهد المعاصر للاشتباكات والحروب الممتدة على مساحات جغرافية واسعة من الكرة الأرضيّة (لا نعرف عنها الكثير لأنها سرية ومسكوت عنها، في كولومبيا وفنزويلا مثلاً).
في مشهدية حروبنا المعاصرة، يتوسّع ويتبلور استخدام آخر كان غير تقليدي حتى الآن، هو اصطلاح الحرب غير المتماثلة، أو الحرب الهجينة، باصطلاح مستحدث آخر يشير إلى نفس المعنى، مضمراً في الوقت نفسه فهم أن آخر حرب عرفها العالم بين جيوش بالمعنى الكلاسيكي لمفهوم الحرب وآلياتها وأطرافها وخططها، هي حرب الخليج الثانية، بين ما تم تعريفه باسم الحلفاء من طرف والعراق من طرف آخر. بعدها افتقد العالم تلك المسودة من الحروب التقليدية، وبزغ محلها فجر الحروب الهجينة، التي تبناها الطرف الأضعف بالقوة النارية، إزاء جبروت الآلة العسكرية المقابلة.
هي حروب، لا يوجد أي تعريف رسمي لها متفق عليه بعد من قبل الخبراء العسكريين أو الأكاديميين السياسيين، لكن الخبراء حاولوا تفكيكها لفهمها على نحو أوضح.
هي حروب تجمع تقاليد الحرب الكلاسيكية وحروب الأنصار والحرب السبرانية في رزمة واحدة متزامنة ومتسقة، وتسير في سياق عملياتي واحد، يخدم ربح المعركة. بحيث لا يمكن التمييز بدقة بين أطياف كل منها، لأنها مجدولة في سياق واحد.
كانت الحرب الاسرائيليّة على لبنان في 2006، هي المناسبة الأولى الميدانيّة لوضع آليّة التعريف هذه بالخدمة، من قبل الأكاديميين السياسيين والعسكريين الغربيين، الذين فوجئوا بمقدار الخيال الذي حكم إدارتها من قبل حزب الله، بحيث يؤخذ بتكتيكات حزب الله وخططه وعملياته في تلك الحرب، على أنها النموذج الذي يمكّن من فهم هذا النوع من الحروب. إلاّ أنَّ التعريف إلى هنا، لا يلاحظ، في إطار المفهوم العام للحرب الهجينة، القوى الأخرى التي طفت متزامنة على السطح، في الزمن نفسه الذي ابتدأت فيه الحرب الهجينة تأخذ حيزها. هذه القوى هي ميليشيات المرتزقة، أو شركات الخدمات العسكرية الخاصة. بتعبير أكثر دقة، القوى التي أصبحت شريكاً حقيقياً في كل الحروب منذ 2003 وحتى الآن في أغلب جغرافيا النزاع في العالم.
يرتبط ظهور قوى المرتزقة بتاريخ الحروب نفسها، هذا في التعريف الأولّي لها، إلاّ أنَّه في التعريف الرسمي لها، يرتبط وجودها عموماً بـ (الجغرافيا الرخوة) للدول وتراجع دور جيوشها الوطنية المحليّة، كما يرتبط بالفوضى السياسية والاقتصاد المأزوم وعدم رغبة أبناء تلك الدول بالحروب.
المثال الافضل لملاحظة بداياتها، يظهر في العصور الوسيطة بعد انهيار الامبراطورية الرومانية عام 476 ميلادية، تحت ضربات قبائل الشمال الجرمانية الفيندال والهونس والفيسغوت. أدى انهيارها إلى سقوط الدولة المركزية المهيمنة على أوروبا، مما دفع إلى قذف أوروبا بمجملها في عتمه دهاليز ما عُرف بالعصر المظلم أو القرون المظلمة أو المعتمة. حيث انقسمت أوروبا على ذاتها، إلى إمارات واقطاعات صغيرة، بعد تبخر الجيش الروماني وانحلاله بسقوط سلطته المركزية، ولم تعد أية دوقية أو اقطاعية أو إمارة أو كونتية، قادرة على بناء جيش خاص بها لقلة مواردها البشرية، أو لاقتصادها البدائي، الذي لا يسمح ببناء جيش محلي يظل بالخدمة. كما ومن جهة أخرى، استعانت تلك الدول بخدمات متعاقدين عسكريين خاصين أوقات الازمات والحروب فيما بينها ألقت عليها عبء الدفاع عن تلك الإمارات الصغيرة.
كان التعاقد غير مرهق مالياً، بالمعنى الحرفي، لذلك استمرت تلك القوى الطفيلية بالهيمنة على المشهد العسكري العام في اوروبا حتى نهاية العصور الوسطى، ويعتبر السير جون هوكوود 1323-1394 مؤسس الفرقة البيضاء، والذي قاتل من أجل فلورنسا وتزوج دونينا فيسكونتي ابنة حاكمها العظيم برنابو فيسكونتي، أحد المؤسسين لعصر لاحق عرف بعصر النهضة، واحداً من ألمع الأمثلة على ما قدمته خدمات الارتزاق من مجد خاص لأصحابها (من يصدق الآن أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت كان نفسه جندياً مرتزقاً قدم خدماته لكلا الطرفين المتقاتلين، البروتستانت ممثلين بموريس دي ناسو والكاثوليك ممثلين بماكسميليان الأول، خلال حرب الثلاثين سنة، وجوزيبي غاريبالدي نفسه أب الوحدة الايطالية عمل كمرتزق في البرازيل والاوروغواي قبل عودته إلى أوروبا، لكن ذلك كان في عصر اكتفت اوروبا فيه من قوى الارتزاق وباستثناء أميركا اللاتينية، لم يكن أحد يرغب بشراء هذه السلعة).
منذ حرب الخليج الثانية، والخسائر البشرية المريعة التي تكبدتها قوى التحالف، حيث شكلت ضغطاً داخلياً هائلاً داخل دولها غير المستعدة في الأساس لتحمل خسائر بشرية لا يمكن تبريرها في حرب لا يمكن فهمها ولا سبب حدوثها أساساً؟
أحد أشهر الخبثاء في أعلى هرم السلطة في الولايات المتحدة، عمل في وقت فراغه نائباً للرئيس وما تبقى من الوقت أمضاها في مؤامرات هي أجندة عمله الرئيسية وهوايته، هذا الشخص اسمه ديك تشيني انتبه إلى المخاطر المحدقة بالنظام إذا استمرت الخسائر الانسانية بتصاعد خوارزمي غير قابل للضبط. ما فعله تشيني هو أنه انتشل شركة فاشلة على وشك إغلاق أبوابها، معنية بتوظيف العسكريين كعناصر حماية أمنية. انتشلها من مستنقعها وأوكل لها أعمالاً في العراق، نجحت فيها نجاحاً بارزاً، (عانت هذه الشركة من خسائر بشرية جسيمة، إلاَّ أنَّ جل متعاقديها من دول مثل تشيلي وباراغواي وكولومبيا وتايوان وغركا النيبال، وهذا يفسر لماذا أولت إدارتها المهمات الخطرة إلى غيرأميركيين، لأنها لا تستطيع إخفاء القتلى من الجنسيّة الأميركيّة).
اسم هذه الشركة كان الأكاديمية، ونعرفها أكثر الآن باسم بلاك ووتر. هذا المثل الميداني الذي حقق نجاحاً ملفتاً، جرّ الدول الكبرى، من أنفها، إلى هذه الظاهرة المستجدة. ظاهره الوز الوحشي (الاسم الرسمي للمرتزقة في بريطانيا).
انتبهت الدول الكبرى إلى الفوائد التي تجنيها من تبنيها شركات التعاقد العسكري الخاصة بها سراً، وبالرغم أنه لا يوجد أي إعلان رسمي للدول حول مسؤوليتها وتبنيها لهذه الشركات، إلاَّ أنها أي هذه الشركات تخدم الأجندات الخاصة بهذه الدول، إذ انها تشكل معولاً عسكرياً ضارباً لها تتفادى به أي حرج لاتهامها بالتدخل، أو تتحاشى عبره التدخل العسكري المباشر، مما يضع في يدها أوراق قوى تفاوضية تحتاجها على أية مائدة سياسية. ولنتذكر معاً سلافيك كورب وواغنر غروب الروسية في أوكرانيا وكارميا وليبيا وسوريا، وسادات غروب التركية في ليبيا وناغورنو كاراباخ وسوريا واليمن، والأكاديمية التي تملك اسماً أشهر هو البلاك ووتر في اليمن وسوريا والعراق وكولومبيا.
على السطح، يبدو الآن أن أكثر الدول المرشحة لطلب خدمات المتعاقدين العسكريين، هي اسرائيل بالذات، لعدة أسباب داخلية، أهمها نضوب الموارد الانسانية لديها، وخصوصاً أن قطاعاً واسعاً من اليمين الديني يرفض أي شكل من أشكال التجنيد والحرب، لأنها منافية لرغبة الله بحسب وجهه نظرهم، إضافة إلى الحرج السياسي الداخلي الكبير الذي يصيب قادتها إذا سقط لهم قتلى، في ظلّ استمرار الوهن الديموغرافي. واسرائيل بالذات هي واحدة من أكثر الدول حساسية في العالم، إزاء الخسائر الإنسانية، وهي غير مستعدة عملياً لتحمل موت جنودها للسبب الآنف الذكر، أي الوهن الديموغرافي، إضافة إلى تخفيف عبء النفقات العسكرية اللازمة لإدارة جيش واسع منظم بثكناته ولباسه وطعامه وتدريبه ورواتبه الشهرية وطبابته، لأن كل هذا تقوم به شركات المتعاقدين العسكريين معها، التي بدورها ترتكز في إدارة مواردها الإنسانية بالاعتماد على جنود مدربين سلفاً، مستقدمين من دول مشهود لها بإدارتها التدريبية العالية، مثل دوله تشيلي أو كولومبيا، يعملون بعقود مؤقتة لدى الشركات المستضيفة لهم، والتي بدورها تعمل بعقود مؤقتة مع الدول التي تحتاج خدماتها، ( قبل نشوء قضية الارتزاق المعاصرة، استعانت اسرائيل بجنود من الاتحاد السوفييتي السابق بعد انهياره للعمل لديها، وربما مازال العديد منهم في الخدمة حتى الآن)؟
المستذئبون هنا… وبيننا.