العالم الآن

سورية دولة بلا شعب…!

في تفكيك الوطنيّة السوريّة

إنَّ الهُويّة الوَطنيَّة هي تعبير عَن تراكم تاريخي حضاري، يُثمر حالة من الشّعور بالانتماء الذي يمكن توصيفه وتعريفه من خلال جملة من العناصر التي يتكون منها، ويتميز بها مجتمعة.. فالهويّة ليست شعوراً، بل عناصر ومكونات، بينما يكون الشّعور تعبيراً عنها بما يسمى “الانتماء”.
غير أنّه لا يمكننا إغفال أنَّ الحالة الشّعوريّة تلعب دوراً كبيراً في تشكل الهويّة عبر الزّمن، فالهويّة أمر متغير ومتطور لا ثبات فيه، وكما يعمل الشعور الإيجابي، كالفخر والارتياح والتّعاطف.. الخ، على تشكيل هويّة معينة، عبر تدعيم الانتماء لعناصرها، فإن الشّعور السّلبي كالنّفور والانزعاج وحتّى الكره، يعمل على هدم الهويّة وتفتيتها.
فهل حقاً تعاني الدّولة السّوريّة من اضطراب على صعيد تكوينها الطّبيعي، حيث تُعرف الدّولة في علم الاجتماع بأنّها “أرض وشعب وسلطة” وهي ستفقد معنى تعريفها، عندما تخسر واحداً من هذه العناصر؟
في بداية الأحداث الدّامية للرّبيع العربي، والتي عصفت بشكل شديد في دولٍ عربيّةٍ محدّدة، ونأت بنفسها عن بقيّة الدّول العربيّة، عملت تلك الرّياح العاصفة بشكل ثنائي الاستقطاب على مستوى الشّارع العربي في هذه الدّولة أو تلك، فبينما شدّت عصبية هذا الشّعب لأنّه لم يتم استهدافه بها، وتالياً لم يتعرّض لويلاتها ومآسيها، مما دفعه للإحساس بالامتنان لذلك، ما يعني أنّه أحسَّ “بالارتياح لكونه مواطن في دولة غير مستهدفة” بينما وبنفس الوقت بدأت آلام “الرّبيع العربي” تنهش من الحالة المعنويّة للشّعوب المستهدفة، وخاصّة في سورية، التي نالها النّصيب الأكبر من الأذى والتّدمير والاستهداف والحصار.. الخ ما قام بإشعال عدد من محاور الاحتراق والتغيير في بنية التّماسك النّفسي المجتمعي فيها.
طبعاً هذا لم يكن فقط بسبب الألم، ولكنّه كان أيضاً عرضاً منهجياً لحالة التّحشيد والتّحريض التي خضع لها المجتمع السّوري، وهو ما سنمرُّ عليه أيضاً هنا.

خلال حرب الأعوام الأربعة عشر الماضية، تمَّ وبشكل بالغ التّكثيف والقوة الاستثمار في التّحريض الطّائفي والدّيني لشريحة واسعة من المجتمع السّوري، بغية دفعها للتّمرّد على السّلطات الرّسميّة، في إطار مشروع “الرّبيع العربي” الهادف لتقويض سلطة بعض الحكومات في الإقليم، من أجل إسقاطها أو دفعها لتغيير تموضعها الجيوستراتيجي. ولكنّ ذلك وكعادة الأفعال القاسية والتّغيرات الكبيرة ذات الأبعاد النّفسيّة والاجتماعيّة، لم يكُن بالإمكان أن يمرَّ دون ارتدادات واسعة وعميقة في بنية الوعي عند المجتمع، ليس فقط لدى الشّريحة المستخدمة، ولكن عند بقيّة الشّرائح التي أثبتت التّطورات اللّاحقة أنّها كانت مستهدفة جميعها في المشروع.
إذا كان لا يمكننا الجزم بمدى درجة القصديّة لدى صاحب المشروع المهاجم، لإحداث ذلك الأثر النّفسيِّ التّراكمي، والذي سيظهر تباعاً كتغيير في طبيعة نظرة تلك الشّرائح لنفسها وتقييمها لهويتها وتعبيرها عن انتمائها، ولكنّنا يُمكننا على الأقل رصد حقيقة وواقع تلك التّغيرات والانزياحات في الوعي والقناعة بالهويّة، خاصّة وأنّها تضعضعت بشكل لم يعد بالإمكان التّغاضي عنه، وها هي الشّروخ والتّصدّعات تكبر وتزداد عمقاً بما يُهدِّد بشكل واضح، الهويّة الوطنيّة السّورية للجمهوريَّة التي طأطأت رأسها بانكسارٍ أمام الأحداث الّتي عَصَفت بها تحديداً، واستمرّت وتصاعدت بشكل مضّطرد، لم يعُد بالإمكان التّصدّي له حالياً وعلى المديين القصير والمتوسِّط.
إنّ الشّريحة الأولى الواسعة التي تم شحنها عانت بشكل متزايد من انتقال ولائها وإحساسها بالانتماء من الوطن السّوري، إلى الدّين والطّائفة، وذلك مفهوم ومنهجي فهي كانت استُهدِفَت عبر تحريضها انطلاقاً من هذا الانتماء، فتمَّت مخاطبتها بشكل غريزي وممنهج، ولفترة طويلة ليس فقط ضمن سياق الأزمة السّوريّة، ولكن قبلها بسنوات في محاولات التحضير لها، فاغتيال رفيق الحريري مثلاً في 14 شباط 2005، استُثمِرَ بقوّة في هذا الإطار، عبر الإصرار على تعريف الرّاحل كـ “زعيم طائفي” وعبر التّأكيد على أنّ “اغتياله هو استهداف لطائفته” مع التّغاضي الكامل عن خطابه هو الّذي كان يُصِرُّ فيه على “دوره الوطني”. هذا الانكفاء نحو الطّائفة من قبل هذه الفئة أفقد الدّولة السّوريّة شريحة كبيرة من مواطنيها الذين صاروا، وبكلّ ما يعني ذلك من خسارة، يتطلّعون نحو طائفتهم وليس نحو وطنهم كإطارٍ وكقضيّةٍ للالتزام.
في مقابل ذلك، وكنتيجة موضوعيّة لِسلوك تلك الفئة من الشّعب، وبدعم من ماكينة إعلاميَّة مركزة الجهد، تم دفع شرائح واسعة تعتبر نفسها مستهدفة من قبل الثّورة السّوريّة وخطابها التّحريضي، ومن أدواتها على الأرض، إلى الكفر بالانتماء العربي والإسلامي خلال سنوات الحرب التي بدأت مطلع عام 2011 باستهداف الإقليم عموماً على مستوى الحالة النّفسيّة وَالمعنويَّة، والدّولة السّوريّة كمؤسّسة وكيان. كان انفراط عقد الهوية الجامعة استجابة غير واعية وغير عقلانية لمشروع الرّبيع العربي، ولكنّها كانت تعبيراً واضحاً عن “نجاحه”.
الآن وعقب أحداث الانقلاب الدرامي في الوضع السّياسي السّوري ليلة 7-8 كانون الأول 2024، انتقل مسلسل هدم الهويّة إلى ما يبدو أنّه هدفه النّهائي، على هذا الصّعيد، حيث دخل الشّعب السّوري في متاهة فوضى أمنية وسياسيّة وّمعيشيّة، أزكت نارها ممارسات الفصائل المسلحة التي سيطرت على المشهد الأمني والميداني والسّياسي، مُحتَكِرة إياه أيما احتكار، هي وجمهورها المنفعل والمشحون بالكراهية والتّطرّف، ليس لذنب اقترفه هو، ولكن لمجمل حالة التّجييش والتّحشيد التي تعرّض لها خلال الأعوام العجاف المنصرمة، بكلِّ قسوتها على سورية دولة وشعباً وتاريخاً، فصار هذا الجمهور ضحيّة من جهة، وأداة من جهة أخرى، في يد مشروع يمسك بالفصائل المسلحة التكفيريّة وبجمهور هذه الفصائل على حدٍّ سواء، ليعمل بهما على تكسير ما تبقى من عناصر الهويّة السّوريّة، ولِيُحرِق بقايا مشاعر الانتماء ليس لِلحضارة العربيّة هذه المرّة، ولكن للوطن السّوري نفسه.
لم يكن وضع النّاس بمختلف انتماءاتهم الثّقافيّة والدّينيّة والجغرافيّة، في مواجهة ماكينة من التّطرّف والرّفض وأحاديّة الرّأي، تقوم بارتكاب المذابح والإهانة بشكل ممنهج، لم يكن إلّا تبديداً لهويَّتهم الجامعة، فالانتماء مفهوم رقيق يبنى بالشّعور، ويُهدَمُ به أيضاً.
أين وصل الأمر بأحبتنا السّوريين اليوم، بعد كل هذا الظُّلم الّذي تعرضوا له، وما يزالون؟ لقد فقدوا بمعظمهم رغبة الانتماء إلى وطن يأكلهم كأنَّهم غنائم، على يد بعض أبنائه، والبعض الآخر من الأجانب الذين يتشاركون مع هذا البعض تحديداً في عدم انتمائه لسورية، ولكن لدين ومذهب معين، كما يحسبانه طبعاً.
فلا المسيطر المهاجم اليوم يؤمن أو ينتمي إلى البلد التي يمسك بها مسك المحارب لِلسّبيّة، ولا ضحاياه من أبنائها يفعلون.. إذا فالدّولة السّوريّة أصبحت الآن فاقدة للعنصر الثّاني من عناصرها، ألا وهو الشّعب، لأن معظم أبنائها فقدوا ولاءهم وانتماءهم لها. ولكنّها أيضاً وبشكل منهجي تعاني من اضطراب في السّلطة الحاكمة فيها، وهي العنصر الثّالث، الموسوم بأنّه “سلطة أمر واقع” لم تنتجه أية آليات ديمقراطيّة أو دستوريّة، وهي تُخفق في ممارسة السَلطة، وحتى في إحكام فرضها على الجغرافيا والمؤسّسات. هذه الجغرافيا (العنصر الأول) بدورِها منقسمة ومتنازع عليها بين عدد من القوى المحليّة والدّوليَة، في مشهد يجعل من الدّولة السّوريّة مشهداً مؤلماً حزيناً، يذكِّرنا أكثر ما يذكّرنا بمطالع القصائد العربيَّة المُعلّقة وغير المُعلَّقة، التي تتحدَّث بأسى ولوعة عن الأطلال، وعن الوقوف عليها، لنجد النُّخبة العاقلة من الشَّعب السّوري سابقاً، تقف وقوف امرؤ القيس وهي وتردِّد “قِفا نبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزل”.

د. أحمد العربي

باحث وأديب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق