في البداية يمكن القول إن أية قراءة موضوعية لا تأخذ في الاعتبار التركيب الاتنولوجي ـ السكاني لمنطقة سورية الطبيعية، قراءة لا تصل إلى نتيجة، لأنها تتعامى عن الواقع ولا تستعمل المنهج العلمي في تحليلها للأمور. وبالتالي تبقى النتيجة النهائية لها مجردة من الواقع وبعيدة عن التفكير العلمي في المستقبل.
ولكن من ركام تفاصيل هذه القراءة، واللهب الذي تصاعد من جراح الذاكرة، ثمّة رأي عام يؤكّد أن مشاريع إبادة الأرمن والسريان والكلدان والآشوريين والإسماعيليّين/ النزاريّين (لعل الكثيرين لا يعلمون أن الإسماعيليين كما الصابئة كانوا ملوك السريان في التاريخ السوري القديم)، في بداية القرن العشرين، استمدّت جذورها من الأيديولوجية العنصرية لتركيا الطورانية، التي وعلى رغم زعمها بأنها لا تتحمّل مسؤولية عمل قامت به جمعية الاتحاد والترقّي، منذ قرن ونيّف، إلاّ أنها تدرك جيداً أن اعترافاً من هذا النوع يعني استعادة الأراضي السليبة التي هُجّر منها السوريون بجميع عناصر مزيجهم الذهبي.
وكان قد أطلق على عام 1915، وهو السنة التي بدأت بها المجازر في منطقة طور عابدين، بـ “شاتو دسيفو”، أي “عام السيف” نسبة إلى المذابح التي ارتكبت بحق السريان، كما عرفت اختصاراً بـ “قطَلعَمّو” أي بمعنى “التطهير العرقي”، وكان من أهم المجازر المنضوية تحت اسم “مذبحة سيفو” بين عامي 1914 و1923، مجزرة ديار بكر، ومجزرة طور عابدين، ومجزرة دير الزور التي هاجر إليها عدد كبير من السريان والأرمن هرباً من القتل، وغيرها، ولا تزال العديد من العائلات السريانية تقطن في تلك المناطق، وتشكل نسبة كبيرة من السريان في الشمال السوري.
وهكذا فرغت أجمل المدن السورية القديمة من سكانها، وهي التي لعبت دوراً مهماً في التاريخ السوري: نصيبين، ماردين، حران وأورفا مركز اللغة السريانية، عدا عن “مديات” عاصمة أول مملكة آرامية تعود للقرن الثالث عشر ق.م. “مملكة بيت زماني”. إلى غيرها من المدن والحواضر التاريخية.
لسنا من الذين يمشون وراء جنازة «غودو» ولا ننتظر أحداً، بعدما تحوّلت ذكرى «شاتو دسيفو» بحق السريان، ومن ثم الكشف عن المذابح التي طالت 200 ألف من الإسماعيليّين، تحوّلت أيقونة سيضعها كلّ سوري حر على جبينه الذي تُقبّله الشمس حتى اعتراف العالم بجرائم الإبادة هذه وعودة أراضينا السليبة من الاحتلال التركيّ. فمَن سيداوي مدننا الشمالية المنائر المحتلة من قبل تركيا، من جراح وفتوق ودمامل الاحتلال؟ ومَن سيستردّ بهاءها غيرك أيّها السوري؟
ظلمان لحقا بـ “سيفو”، الاسم الذي أطلق على الإبادة الجماعية التي لحقت بأهلنا من السريان السوريين في العام 1915، والتي نفّذها العثمانيون، مستخدمين السيوف والمرتزقة (قوات الفرسان الحميدية التي شكّلها السلطان عبد الحميد في نهاية القرن التاسع عشر، والتي كانت عبارة عن تجمّع لقوات المتطوعين من الإقطاعيين الأكراد)، في هذه المجزرة الشنيعة. وقد أصبح معروفاً أن السبب الرئيسي وراء تورّط مرتزقة أكراد في المجازر هو الانسياق وراء حزب تركيا الفتاة الذي حاول إقناعهم أن المسيحيين الموجودين في تلك المناطق قد يهدّدون وجودهم، ما يشير إلى أن الحملة كانت متعمّدة ومقصودة من أجل تطهير عرقي ضد المسيحيين، وعبر استخدام الخيالة الحميدية المكوّنة من عشائر كردية للقيام بالإبادة.
الظلم الأول الذي لحق بـ “سيفو”، هو من وسائل الإعلام الدولية التي لاحقت أخبار الإبادة الأرمنية والتي قدّرت بمليون ونصف المليون شهيد، وهو رقم كبير نسبة إلى الإبادة التي لحقت السريان، والتي قدرت أيضاً بـ 750 ألف شهيد. لقد تمّ تصنيف المذبحة السريانية كجزء من مذابح الأرمن، لذا لم تحظَ مذابح “سيفو” باهتمام خاص كبير!
الظلم الثاني الذي لحق بـ “سيفو”، هو غياب الإعلام السوري عن ملاحقة الدولة التركية وفضحها على الصعيدَيْن، الحقوقي والإنساني، استكمالاً لتجريم هذه الدولة في المحافل الدولية. فهل سيتمّ تعويض هذا الغياب من قبل الدولة السورية والبدء بجمع الملفات والشهادات من أسر وأفراد أحياء بهدف توثيق هذه الجريمة بحق أهلنا وشعبنا في المناطق المحتلة من قبل تركيا، لا سيما أن بعض السريان لا يزالون يحتفظون بصكوك ملكية أراضيهم وبيوتهم التي هجّروا منها بالقوة، على أمل أن يستعيدوا بالقانون لاحقاً ما خسروه بالإرهاب والقهر وحدّ السيف سابقاً.
من المتوقع أن تعترف الإدارة الأميركية هذا العام بوقوع (الإبادة الأرمنية)، يضاف إلى أنه وفي السنوات الأخيرة شهدنا اعترافاً من دول ومنظمات وأحزاب بالمجازر، كما قامت شخصيات وأحزاب كردية بالاعتذار عن دور الأكراد في مجازر السريان والأرمن مثل عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني. وحزب المجتمع الديمقراطي.
فيما تبنّى مجلس الشعب السوري بالإجماع في جلسته العاشرة من الدورة العادية الثانية المنعقدة الخميس في 13 شباط/ فبراير 2020، برئاسة حمودة صباغ رئيس المجلس، قراراً يدين ويقر جريمة الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الأرمن على يد الدولة العثمانية بداية القرن العشرين.
وجاء في نص القرار أن مجلس الشعب في الجمهورية العربية السورية، يدين ويقر جريمة الإبادة الجماعية للأرمن على يد الدولة العثمانية بداية القرن العشرين كما يُدين أي محاولة من أي جهة كانت لإنكار هذه الجريمة وتحريف الحقيقة التاريخية حولها ويؤكد أن هذه الجريمة هي من أقسى الجرائم ضد الإنسانية وأفظعها.
وسواء في الإدانات الصادرة عن جهات خارجية أو محليّة، يتم الإشارة إلى الإبادة الأرمنيّة، دون ذكر السريان والآشوريين بالتخصيص، ما يفترض ضرورة العمل السياسي والثقافي والإعلامي، لاستحضار تلك الإبادة بضحاياها جميعهم على يد مجرم واحد.
إنَّ ثقافة سيفو تطل علينا من جديد وإن تغيّرت الوجوه والمسميات، لأن سياسة التطهير العرقي التي انتهجتها الحكومة التركية ما زالت مستمرة، ولكن ليست على يد طلعت باشا، بل على أيدي أردوغان، وهي ستبقى كالأيقونة معلّقة في أعناق أبناء الشعب السوري، لأنها لم تهرق تلك الدماء الغالية وحسب بل اختطفت الأرض وتحاول تغيير التاريخ برمته.
—————————————————–
هامش: عرفت مجازر سيفو بتسميات محلية عدة لعل أهمها «سيفو»، وهي لفظة سريانية غربية تعني «السيف» في إشارة إلى طريقة قتل معظم الضحايا. كما عرفت سنة 1915 وهي السنة التي بدأت بها المجازر في منطقة طور عابدين بـ «شاتو دسيفو»،أي «عام السيف». وسميت المجازر كذلك بالأدبيات السريانية بـ«قَطلا دعَمّا سُرايا»/»قَطلودعَمّوسُريويو» بالسريانية الشرقية والغربية، وهي عبارة تعني «مجازر الشعب الآشوري/السرياني». كما عرفت اختصاراً بـ «قطَلعَمّا»/»قطَلعَمّو» أي بمعنى (التطهير العرقي).