مقدمة
الثامن من تموز1949، بمجرياته، برموزه وعلاماته، بما تكشّف من أوراقه وبما لم يتكشّف، بما انطوى عليه من معانيَ وما أفضى إليه من نتائج، بمن شارك في حدثه من دول ومنظمات ورجال….. بالرجل الذي أبدعه/ صاغه بدمه، ونحَتَه كيوم لا يمر عليه الزمن، دون أن يتوقف خجلاً، ويعيد استئذانه بالاستمرار مع دوران الشمس.
بلى، أنطون سعادة هو التعبير المُكَثَّف عن التراجيديا السّورية في العصر الراهن.. سعادة كان الخلاص الذي لم تتمكن رصاصات ذلك الفجر من قتله، بل أكدت بألاّ خلاص إلا بنهضته، برؤياه، بفلسفته وعقيدته.
تلامذة سعادة من المبدعين، وهم كثر، كتبوا عن هذا اليوم، بعض النصوص اتخذت مكانة راسخة في وجدان القوميين الاجتماعيين، مثل نَص سعيد تقي الدين: الكاهن الذي عرّفه.
فايز خضور، شاعر كبير من أهم شعراء سورية في هذا العصر، كتب العديد من القصائد والدواوين التي قاربت شخصية سعادة وأعادت إنتاجه في حقل الإبداع، وضع القصيدة التي نقدمها اليوم، بمناسبة الثامن من تموز، في العام 1974.
في تلك الحقبة، شكّلت لنا رائعة فايز: صفحة مهترئة من قانون الجرائم.. شكّلت ( منشوراً ) استثنائياً نتباهى باقتنائه وتلاوته.
القصيدة تحمل في طياتها كل العلامات التي تشير إلى أنها لاتزال تنبض بالحياة، وكأن الشاعر وضعها اليوم تماماً.
نزار سلّوم- الأول من تموز 2020
ــ 1 ــ
نكِّسوا كلَّ هذي البيارقْ،
وارفَعوا قُبَّةَ المقبرهْ…
دَنْدَنَتْ ساعةُ الغرغرهْ،
وانحنتْ للرمالِ البنادقْ..!!
ــ 2 ــ
هيَ ذي عُنُقي تتدلَّى،
ما بينَ النصلِ المثلومِ،
وما بين الأُنشوطَهْ…
وأنا أَرتقبُ الفرحَ الراعفَ من كَرَم السجَّانْ.!!
هيَ ذي عُنُقي
هيَ ذي تتدَلىَّ….
تا، تا، دا.
ــ 3 ــ
تيمَّمْتُ بالنار ما طهَّرتْني.
فيا وطنَ الماء، قصَّرتَ عن بلِّ ريقِ العصافير والعُشْبِ.
يا وطنَ الماء، يَكثُر فيكَ المصلُّونَ.؟!.
يا وطنَ الماءِ، يَكثُرَ موتُ الظِّماءْ..؟!.
ويُضحكني، كيف يُثقلُ ظهرَ الشوارعِ جيلُ الرمادْ.
ويُضحكني، أنّ أمواجَكَ الطامياتِ، الجهولاتِ، ما طَامَنْتني..!!
- 4 –
تماديتُ، ضاءلتُ ما بين خطوي، ونوم الغُبارْ:
زماناً تلمَّسْتُهُ، واْنحنيتُ أباركُهُ.
أستجيرُ بوعد الخصوبةِ،
أغمضتُ،
أغمضتُ.
قلتُ: السّحاباتُ لابدَّ تُمطِرُ
لاشكَّ تُعشِبُ هذي المسافاتُ.
لابُدَّ،
لاشكَّ
لابُدَّ،
لاشَكَّ….
يومَ أَفَقْتُ هَلُوعاً، لأِحصُدَ زرعَ الرغائبِ،
أَغضيتُ،
«ما كان غيرُ الترابْ:
يميسُ كفاجرةٍ أفعَمْتها الشماتَهْ..!!.»
فمسَّحتُ بالخَمْر وجهي، وأَعلنتُ: كوني وُضُوئي.
وكُوني إذا هرولَ الناسُ حين الفِرارِ، مصيري، وكُوني لُجوئي..!!
ــ 5 ــ
قادمٌ من تُخوم الجريمهْ.
والدروبُ إلى واحة الحزن مغلَقةٌ.
أيها الحرسُ الأجنبيُّ اْفتَحوا مَعبرَ الموتِ
أَقبلتُ أَحمِلُ عُريَ فضائحكُمْ.
مهّدوا خَطَرَ الخطو،
والخَجَلَ الموسميَّ،
ودمعَ الخياناتِ.
هذي بلادي.
أنا «البدويُّ» الذي ضيَّعتْني القوافلُ،
في شَهْقة الشمسِ:
أرفعُ رايةَ جُرْحٍ،
من الثلجِ، أنقى بياضاً.
تعلَّمتُ سرَّ الكتابة بالقتلِ.
بيني وبينَ دمشقَ، صحارى من العِشقِ…
ويُخجلُني نهرُها،
كلَّما غَصَّ بالغرباءِ،
ويَجْرحني حَوْرُها،
كلَّما حنَّ ــ بالليل ــ للموتِ.
يا قاسَيُونْ:
لوَّثتْكَ الهزيمَهْ،
أيها الأمْرَدُ ــ الحيزبونْ..!!
ــ 6 ــ
مِنَ الوحلِ، والوَهْمِ، نَصنَعُ تيجانَنَا،
صولجانَ تعاساتنا.
ونُكابرُ:
أَنَّا ملوكٌ وآلهةٌ.
والرعايا هياكلُ من أَعظُمٍ فارغاتٍ.
من الجوع والجَلْدِ:
تحلُمُ أن تستبيحَ هناءتَها
زلزَلاتٌ تُحرِّضُ غَفْلَتَها،
كي تقولَ وصيَّتَها،
مرَّةً…
ثم تَستودعُ الحاكمينَ الرفاهَ،
وتدعو لَهُمْ بالبقاءِ «الجليلْ»..!!
ــ 7 ــ
آهِ لو مَرَّةً، زُلْزِلتْ هذه الأرضُ زِلزالَها.
أيها الهاجسُ المستحيلْ…!!
ــ 8 ــ
أمسِ ماتَ الذي «عرَّفَهْ».!!
«آخِ، يا كاهناً عَرَّفَهْ..».
كم تمنَّيْتَ ليلَ الوداع الأخيرْ
لو تنفَّستَهُ عَبْرَ نَبْضِكَ،
لو كان أَيقونةً ــ خُلسَةً ــ في قميصكَ.
لو كنتَ خبَّأتَهُ آيةً في كتابكَ،
لو خنجراً في حِزامكَ،
لو سُبْحةً كانَ،
لو أيَّ شيء..
ولكنهمْ …
«آهِ، يا كاهناً عرَّفَهْ..».!!.
ــ 9 ــ
عندما أسلموهُ إلى الموتِ، كان المساءْ،
يستحي من بريق الشعاراتِ والأوسمهْ..!!
كان تموزُ يبكي الفراتْ:
خانقاً في الرئاتِ الكظيماتِ، هَزْجَ المهاميز، والحَمْحَمَهْ….
كانتِ اْمرأةٌ في البعيد، تَقُصُّ ضفائِرَها،
بانتظار البَشَاراتِ،
ترفو قميصَ «أَليسارَ».
تُمطرُ بالدمِّ والدمعِ،
نُبْلَ الشهادةِ: مذهولةً، تُوقِفُ العابرينَ، تُسائِلُهُمْ:
هل مررتُمْ بقبر الذين تدلَّوْا عناقيد
ــ تحت المشانقِ ــ
من كَرَز ذابلٍ، يُبْهِجُ التُّركَ والرومَ،
والخَدَمَ الراضخينَ ولاءً…!!
وتسألهمْ:
أيّها القادمون من الشامِ،
هل قَبْرُ «يوسًفَ» ما زال يَضحَكُ في ميسلونِ الجريمة؟
هل أَغمدوا سيفَهُ في المجاعاتِ؟
هل شيَّدوا قصرَهمْ بالجماجمِ؟
هل أَحضروا وافراً من أسيد العمادةِ،
للحالمينَ بثورة شعب غَيُورٍ على الخبزِ،
هل وسَّعوا الأقبيَهْ…؟!
-10-
أيها العابرون سأروي لكمْ
هامشاً، من طقوس الوليمَهْ:
عندما حاكموهْ:
كان ــ شعباً ــ يُساقُ إلى المِقصَلهْ،
كان – شعباً – يُقهقهُ تحت الرصاص..!!
بعدما أعدموهْ:
كانت الجُلْجلهْ،
واقعاً ــ مضحكاً ــ للخلاصْ..!!
ــ 11 ــ
يومَها،
أشرقتْ نجمةٌ دامعَهْ
وانتخت أمّةٌ للقِصاصْ،
تُشعِلُ القِمَّةَ الخاشِعَهْ.!!
ــ 12 ــ
وقتَها،
فَتَّحتْ بَسْمَةٌ مِلءَ عينيهِ،
تهزأُ بالموتِ،
تكتُبُ بالصمتِ سِفْرَ الحياةْ..!!
ــ 13 ــ
لا تَبكوا.
ما دامتْ كلُّ الجدران ستُصبحُ «حائطَ مبكى»..!!
ــ 14 ــ
لا تَبْكوا.
صارت كلُّ مبانيكُمْ، وأهاليكُمْ، حائطَ مبكى…!!
ــ 15 ــ
هي ذي عُنُقي تتدلَّى، تَتَدَا….
والمنتظرون على خاصرة الساحات العَفِنَهْ
مَلُّوا المشهَدَ، زمُّوا أحزمَةَ مآزرهمْ
لَغَطوا،
«سَبَقَتْهُمْ سهراتُ النَّرْدِ،
وثرثرةُ السُّمارْ…».
تَرَكوا دهشَتَهُمْ لليل وآبوا.
أتُراهُمْ خَجِلوا من فَرحي الأسوانْ.؟!.
«ما هَمَّ.»
ستقول الصحفُ الرسميةُ، عندما الفجر:
غريبٌ ماتَ،
وكان شتاءْ..!!
«ما هَمّْ.» بَدَلوا الصيفَ اللافحَ بالأنواءْ.؟!
«ما هَمَّ»
بَدَلوا الصيفَ اللافح .. بالأنواء ؟
ما همَّ
يا صيفُ اْغفِرْ للضعفاءْ…!!
ــ 16 ــ
يا أزمان القهر، ابتكري لُغتي،
ابتكري قبراً شوَّهَ غيمَ الدمعِ،
اْبتكري موتاً،
أسرعَ من رَمْش الجفن الرَّمْدانْ…!!
موتاً يَسرِقني رُمْحاً،
«شاهِدَ عَصْرٍ»
رعباً،
يُنسلُ طوفاناً،
يَجتاجُ وقارَ الخِصْيانْ..!!
موتاً يقترفُ الفاجعَ، في وطن تَلْبَسُهُ الصحراءْ:
كَفَناً يفتضُّ فضولَ الأحياءْ..!!
ــ 17 ــ
ها، أَخرُجُ من لحمي، مبتهجاً:
إني أَتبرَّأ من دَمِ قتلاكُمْ.
سأحاربُ من أجل سواكُمْ.
ها. كرَّستُ ولائيَ للأشياءْ..!!
«إني اْختَرتُ، ولن أتردَّدَ، قَدَري، تعبي.»
ها. أَرفع صوتي،
رأسي،
عَصَبي.
قَبْلَ مجيء «العفوِ» ليخطِفَ منِّي
شَرَرَ الفارسِ والإنسانْ..!!
ــ 18 ــ
ها، أرفع جسدي
اْصرُخ بالأشجار: اقْتربي، اْنكسري، اْبتعدي….
لن ترحَمَ خُضرَتَكِ النيرانْ..!!
ــ 19 ــ
أَرفضُ، أرفضُ أن أَتبخترَ، رقماً مسحوقاً
عَصَباً رخواً، دجَّنهُ الذلْ…
كعبيد القصرِ، أمارسُ نوماً لم أَخترهُ،
وصحواً لم أَصنعْهُ،
وخبزاً يَستحصِدُهُ الذعرُ، ويَطحَنُهُ الإذعانْ.!!
وأنا أَملك نوءَ الطقسِ، وأسرارَ العُشْبِ النديانْ.
أعرفُ كيف يَغور الهاجسُ منتهَكاً في الصدر،
وأعرفُ كيف يُغِطيِّ الرملُ عَرارَ العُمْرِ.
وأعرف كلَّ مرارات الرعيانْ….
أعرفُ كيف يُدجِّلُ صوفيُّو زمنِ التلفيقْ.
أعرفُ ــ وأنا في ذِروةَ قَرَفي، من مهزلة النظرياتِ، الأفكار الجوفاءْ:
أن بلادي تبكي…
أن بلادي يَفْتَرِعُ بكارتُها الغُرباءْ.
تبكي، تبكي، تبكي. ويُلملمُ رَيْعَ خصوبتها الزَّعمَاءْ..؟!
ــ 20 ــ
أَضحَكُ، وأنا يَسكُنُني الإِعياءْ.
من فَزَّاعاتِ القُبْحِ ــ الفلسفةِ، طبولِ الموضةِ،
وهْيَ تُبدِّلُ أوجهَهَا،
والأحذيةَ الباهتَةَ اللألاءْ..!!
أَضحَكُ، أَضحكُ، كيف اْنمحنتْ هذي الأصنامُ الشمعيةُ، بالأسماءْ.؟!
أضحكُ، أضحكُ، أضحكُ، حتى يُسعِفَني الإِقياءْ….!!
ــ 21 ــ
أعرف كيف أُوقِّتُ زمني.
أعرفُ كيف تواتي الريحُ الغضبى سُفُني.
فأنا سيفُ جنود الرفضِ المجهولينْ.
لم أحلُمْ ،أبداً، بأكاليل الغارْ.
تكفي جسدي لغةُ النارْ.
في هذا الزمن المنهارْ،
«والفرسانِ» العِنِّينينْ..!!
ــ 22 ــ
إِرفعوني، واْفرِشوا أرضَ المِحفَّهْ
طوِّفوا بي كلَّ حاراتِ الوطنْ،
واْفتَحوا للشمس شُرْفَهْ..
واْتركوني: بين عينيَّ وبينَ الذبح، إِلفَهْ..!!
ــ 23 ــ
ها أُنزِلُ جسدي.
أُومىءُ للأشجار: اتَّحدي….
تموز ــ 1974