انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918 وكان من أبرز نتائجها سقوط الإمبراطورية النمساوية الهنغارية (إضافة إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية) وتشكيل نظام دولي جديد في شرق أوروبا ووسطها تمثّل بظهور دول جديدة على أنقاض الإمبراطورية المفكّكة. ومن بين الدول التي نشأت أوكرانيا التي دخلت مع باقي الجمهوريات السوفياتية في اتحاد كونفدرالي عرف بالاتحاد السوفياتي.
ما يميّز أوكرانيا عن غيرها من الدول التي تشكّلت في حينها كبولونيا التي مُحيت عن الخريطة ثم عادت وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وغيرها، هو أنها لم تكن في التاريخ كياناً سياسياً وقومياً مستقلاً وكانت أراضيها الشاسعة تتبع لروسيا وخصوصاً العاصمة كييف وللنمسا ولبولونيا مثل لوفيف في الغرب.
عاشت أوكرانيا فترة الاتحاد السوفياتي في استقرار وسط سيطرة الحزب الشيوعي السوفياتي وفروعه وسادتها الثقافة الروسية وتزعّم رئيس الحزب في أوكرانيا نيكيتا خوروشوف الاتحاد السوفياتي لنحو عقد من الزمن. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي استقلت أوكرانيا إسوة بباقي الجمهوريات السوفياتية وعلى الفور بدأ النزاع على السلطة في الجمهورية الجديدة.
تنازعت القوى السياسية حول نظرتين، الأولى ترى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، والثانية ترى الاحتفاظ بعلاقات سياسية واقتصادية مميّزة مع روسيا تتحقّق من خلالها مصالح الشعب الأوكراني.
في العام 2014 هيمنت على الخريطة السياسية في أوكرانيا قوى يمينية متطرّفة أبرزها حزب سفوبودا (الحرية) واسمه المفصّل “الحزب الاجتماعي الوطني الأوكراني” الذي يركّز على أهمية الهوية العرقية الأوكرانية في مواجهة روسيا والشيوعية وحزب القطاع الأيمن الذي خاض مواجهات مسلحة مع قوى الأمن ودعا إلى الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح وتظاهر في الساحة الرئيسية في كييف. وسجّل أثناء إحدى التظاهرات وصول مفوضة السياسة والأمن في الاتحاد الأوروبي الليدي كاثرين أشتون وهي توزّع “السندويشات” على المتظاهرين.
إضافة إلى وحدة الحرس الوطني الأوكراني المعروفة بكتائب الأزوف وهي منظّمة نازية. سيطر هؤلاء المتشددون على الحياة السياسية وتلقّوا دعماً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ورفعوا شعار النازية وصور الزعيم النازي ستيبان بانديرا (توفي عام 1959) الذي قاتل في الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا النازية ضد الاتحاد السوفياتي.
لم تكن هناك تنظيمات سياسية أخرى سوى في الشرق، حيث الغالبية من الإثنية الروسية. وكان معظم الشعب الأوكراني أكثرية صامتة غير منظّمة ولم يتمكّن من مواجهة الأحزاب المتطرفة والمدعومة من الغرب.
بداية النزاع
تركّز السردية السياسية والإعلامية في الغرب على أن روسيا حشدت قواتها على حدود أوكرانيا وهاجمتها بهدف إخضاعها وأن ذلك اعتداء على دولة مستقلة. لكن هذه الحرب لم تبدأ كما ورد في 24 شباط/فبراير 2022، فقد سبقتها توترات ونزاعات مسلحة وسياسات متصادمة منذ العام 2010.
تسلّم فكتور يانكوفيتش الرئاسة منذ العام 2010 لغاية العام 2014، وكان معظم مؤيديه من الأقاليم الشرقية على الحدود مع روسيا. ناور يانكوفيتش في حركته السياسية الخارجية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا سعياً وراء مكاسب محتملة من الجانبين. لم يحصل على ضمانات من الاتحاد الأوروبي تعوّض عن الخسائر المحتملة للصناعة الأوكرانية التي سوف تتضرر حتماً بعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وكان يانكوفيتش يتعرّض لضغط من روسيا كي يفضّل علاقاته مع روسيا على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. وأصبحت مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والابتعاد عن روسيا قضية اهتمام وجدل في الرأي العام الأوكراني. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2013 أوقف يانكوفيتش المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي فأصيب الناس بخيبة أمل بعدما كانوا يعوّلون على عضوية أوكرانيا في هذا الاتحاد لرفع مستوى الاقتصاد والمعيشة. وهذا ما دفع الجماهير إلى تظاهرات حاشدة في ميدان الساحة الرئيسية في كييف بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومن الأوليغارشية الأوكرانية التي تخوّفت من إقدام يانكوفيتش على نقل الثقل الاقتصادي في البلاد إلى الأقاليم الشرقية معقل أنصاره.
في منتصف شباط/فبراير 2014 تصاعد النزاع في الميدان بين المتظاهرين وقوات الأمن وهذا ما دفع يانكوفيتش الى إجراء مفاوضات مع المتظاهرين. تدخّل الاتحاد الأوروبي لتسوية الخلاف لكن تنظيم القطاع الأيمن أصرّ على استقالة يانكوفيتش الذي اضطر تحت تهديد ميليشيا هذا التنظيم للفرار إلى روسيا. رفضت روسيا الاعتراف بالواقع الجديد وكانت ردة الفعل تجاه هذا التغيير الدراماتيكي قرار بوتين السيطرة على شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا.
عزلت القوات الروسية شبه الجزيرة ونظّمت استفتاء تقرّر بنتيجته الانضمام إلى الاتحاد الروسي. لم تعترف الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي ودول الناتو بسيطرة روسيا على القرم. وتعّرضت روسيا لعقوبات سياسية أبرزها إقالتها من مجموعة الثماني والتصويت ضد ضم القرم في الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تتحكّم الولايات المتحدة بأكثرية الأعضاء. لكن روسيا حافظت على أسطولها البحري في البحر الأسود الذي يتمركز معظمه في قاعدة سيباستول البحرية التاريخية على شاطئ القرم.
في غضون ذلك، أعلنت مقاطعتا دانيستك ولوغانسك استقلالاً ذاتياً وسط رفض الحكومة الأوكرانية خشية تحوّل ذلك إلى انفصال عن الدولة الأوكرانية. وحيث أن المقاطعتين تضمّان خليطاً من الروس والأوكرانيين وإثنيات أخرى. سرعان ما نشب قتال بين القوات الانفصالية والجيش الأوكراني تركّز حول مدينة ماريوبول على بحر أزوف ومطار دونيستك. تدخّلت منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا وعقدت اجتماعاً لروسيا وأوكرانيا في بيلاروسيا وتوصّلت إلى اتفاقية سمّيت “اتفاقية مينسك” تتضمن وقفاً لإطلاق النار والإفراج عن الأسرى والأهم هو إجراء استفتاء حول شكل نظام الحكم الذاتي في المقاطعتين.
لم تنفّذ هذه الاتفاقية التي كانت تشكو منها أوكرانيا وفي حزيران/ يونيو 2014 وأثناء احتفالات إنزال النورماندي عقدت قمة بين ألمانيا وفرنسا وروسيا وأوكرانيا في النورماندي لبحث الوضع في أوكرانيا من دون التوصّل إلى وقف القتال بين القوات الأوكرانية والانفصاليين.
عام 2019 عقدت قمة رباعية أخرى في باريس وبحثت أزمة أوكرانيا من دون التوصل إلى نتائج حاسمة. أسفرت المعارك والاشتباكات بين القوات الأوكرانية والانفصاليين منذ عام 2014 حتى بداية عام 2023 عن سقوط نحو 13 ألف قتيل وعدد كبير من الجرحى وإصابة مدن وقرى بأضرار بالغة.
لكن أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية التي كانت وراء اتفاقية مينسك صرّحت بعد تركها منصبها وفي أوج العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في كانون الأول/ديسمبر 2022 أن “اتفاقية مينسك كانت تهدف إلى منح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية”. وأضافت “أن أوكرانيا استغلت هذه الفرصة جيداً وهي اليوم أقوى مما كانت عليه عامي 2014 و2015”.
الحشود العسكرية الروسية تشرين الأول/أكتوبر 2021
بدأ الجيش الروسي بحشد قوات على الحدود مع أوكرانيا في تشرين الأول/أكتوبر 2021، رافق ذلك إرسال قوات إلى بيلاروسيا لإجراء مناورات تدريبية وإلى شريط ترنسنيستريا الروسي على حدود أوكرانيا مع مولدوفا وشبه جزيرة القرم. قدّرت الحشود بنحو 200 ألف جندي، كما حشدت البحرية الروسية مراكبها في البحر الأسود.
جرت مباحثات بين روسيا والولايات المتحدة وبعض القادة الأوروبيين حيث حدّد الرئيس بوتين شروط موسكو لوقف التوتر بتعهّد واضح من أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، لأن ذلك يمس الأمن القومي الروسي. كما اشترط على أوكرانيا عدم بناء سلاح نووي لأنه كان يدرك أن إمكانات أوكرانيا منذ أيام الاتحاد السوفياتي السابق تتيح لها بناء سلاح نووي يقلب التوازنات في شرق أوروبا وروسيا.
لكنّ دول الناتو اعتبرت أن الشروط الروسية تؤدي إلى هيمنة روسيا على أوكرانيا وعلى دول البلطيق ولذلك لم توافق أوكرانيا على هذه الشروط مدعومة من الناتو. فأعلنت كل من مقاطعة لوغانسك ودونتيسك استقلالهما وسرعان ما اعترف بوتين بهذا الاستقلال، وكانت ردة فعل الولايات المتحدة ودول الناتو فرض عقوبات على روسيا طالت الاقتصاد والتحويلات المالية وحركة الطيران وتجميد أصول الحكومة الروسية والبنك المركزي الروسي ومعظم الأثرياء الروس ومصادرة ممتلكاتهم ويخوتهم في أوروبا وأميركا.
بدء العملية العسكرية الروسية
يوم 24 شباط/فبراير تحرّكت القوات الروسية في إقليم دونباس المؤلف من مقاطعتي لوغانسك ودونتيسك في شرق أوكرانيا وفي مقاطعتي زاباروجيا وخيرسون في جنوبها. تحرّك رتل عسكري روسي من تشيرنوبيل في الشمال ووصل إلى غرب كييف. في هذه الأثناء أعلنت الولايات المتحدة عن وصول ثلاثة آلاف متطوّع أميركي للقتال إلى جانب الجيش الأوكراني، وكذلك أعلنت بريطانيا وكندا عن وصول متطوّعين.
كانت الخطة الروسية تهدف إلى إظهار القوة وحصار كييف ويبدو أنها كانت تعتمد على ما تتوقّعه من اختلاف في الآراء داخل أوكرانيا بين من لا يريد المغامرة بحرب تؤدي إلى دمار البلاد ويؤيد التسوية وبين من يصرّ على مقاومة الهجوم الروسي. انتصر الرأي الذي أراد المقاومة وتمكّن بمساعدة المتطوّعين الأجانب وكتائب النازية المحلية الأزوف والقطاع الأيمن من التصدي للقوات الروسية وبرز استخدام الطائرة من دون طيار الأميركية سويتش بلايد والطائرة التركية الأخرى بيرقدار.
قامت القوات الجوية والصاروخية الروسية بقصف مركّز على البنى التحتية العسكرية من مطارات وثكنات ومخازن وقواعد بحرية ودمّرت قسماً كبيراً منها. تبيّن فيما بعد أن هناك بعض القوات الجوية التي لا تزال تعمل وبشكل محدود.
تدفّق المساعدات العسكرية من دول الناتو
فور بداية الهجوم الروسي بدأت المساعدات العسكرية الغربية تصل إلى أوكرانيا ومعظمها عن طريق بولونيا التي اتخذت موقفاً عدائياً كبيراً تجاه روسيا.
الولايات المتحدة أرسلت طائرات من دون طيار من نوع سويتش بلايد المشار إليها سابقاً وصواريخ ستينغر المحمولة على الكتف المضادة للطائرات وصواريخ جافلين المضادة للدروع، كما أرسلت بريطانيا مدافع مضادة للطائرات وعشرات من أجهزة الرادار وتكنولوجيا لمواجهة الطائرات من دون طيار وصواريخ من نوع بريمستون 2.
فرنسا من جهتها أرسلت راجمات صواريخ وصواريخ كروتال ومدافع سيزار وصواريخ مضادة للدروع وناقلات جند. تردّدت ألمانيا في البداية في إرسال المساعدات العسكرية لكنها ما لبثت أن رضخت للضغوط الأميركية وأرسلت أسلحة خفيفة ولا سيما مدافع مضادة للطائرات. كما قدّمت العديد من الدول الأوروبية والأفريقية مساعدات مختلفة.
الانسحاب من غرب كييف
أصيبت القوات الروسية على طول الرتل الممتد من غرب كييف إلى تشيرنوبيل شمالاً بخسائر من جرّاء تعرّضها لقصف من طائرات من دون طيار معظمها سويتش بليد وبيرقدار. وتعرّضت قوات المظليين في الشمال في مطار هوستوميل للحصار كما أن القوات الأوكرانية هاجمت مدينتي ايربين وبوشا شمال غرب كييف.
وبما أن خطوة إظهار القوة ومحاصرة كييف لم تنجح في إرغام الأوكرانيين على التراجع، وأنهم قرّروا المقاومة العسكرية مدعومين من دول الناتو، لهذا لم تعد القيادة الروسية ترى جدوى من حشد هذا الرتل فاتخذت قراراً بسحب قواتها إلى الجانب الشرقي.
معركة ماريوبول والسيطرة على بحر ازوف
تقدّمت القوات الروسية من مقاطعة دانتيسك إلى ميناء ماريوبول على بحر أزوف وجرت معارك عنيفة بين القوات الروسية وبرز من بينها كتائب من جمهورية الشيشان وبين المدافعين وغالبيتهم من كتائب الأزوف اليمينية النازية. بعد نحو ثلاثة أشهر دخلت القوات الروسية المدينة وسيطرت على مينائها ولجأ مسلحو كتائب الأزوف إلى مصنع أزوفستال وتحصّنوا في داخله. في أيار/مايو 2022 استسلم هؤلاء المقاتلون للجيش الروسي، وبذلك حقّقت القوات الروسية السيطرة التامة على بحر أزوف وزادت مساحة إطلالتها على البحر الأسود.
ترافق سقوط ماريوبول مع قيام الدفاعات الساحلية الأوكرانية بقصف الطرّاد الروسي موسكوفا وإغراقه وغالب الظن مستخدمة صاروخ هاربون البريطاني المضاد للسفن، فيما تحدّثت القوات الأوكرانية عن استخدام صاروخين من نوع نبتون صُنعا في أوكرانيا لإغراق الطرّاد. شكّل غرق الطرّاد نكسة معنوية وخسارة عسكرية للقوات البحرية الروسية.
تراجع عسكري روسي وتغييرات قيادية واستدعاء الاحتياط
بدأت القوات الروسية الحرب في أوكرانيا من دون أن تستدعي قوات من الاحتياط وواجهت العملية مقاومة أوكرانية عنيفة مدعومة من دول الناتو لكنها تمكّنت من السيطرة على معظم مقاطعة لوغانسك وقسم كبير من مقاطعة دونتيسك وعلى ساحل بحر أزوف بكامله ولا سيما مدينة ماريوبول ومعظم مقاطعتي خيرسون وزاباروجيا، ولا سيما محطة توليد كهرباء تعمل بالطاقة النووية وهي الأكبر في أوروبا.
في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2022 بدأت أوكرانيا هجوماً معاكساً مفاجئاً وتمكّنت في فترة وجيزة من السيطرة على مناطق واسعة جنوب مدينة خاركيف القريبة من الحدود مع روسيا ومن بينها مدينة ايزيوم. وشكّلت هذه الخسارة صدمة للقيادة الروسية فهي انسحبت سابقاً من غرب كييف بعدما ثبت قرار أوكرانيا المدعوم من الناتو بالمواجهة، لكنها الآن تخسر مساحة نحو أربعة آلاف كلم2 في أعمال قتالية.
جرت إعادة نظر شاملة واتخذت بعد أيام قرارات مهمة، أبرزها قرار بوتين استدعاء الاحتياط وتحديد العدد بـ300 ألف. وفي مطلع تشرين الأول/أكتوبر عيّن وزير الدفاع الجنرال سيرغيه سوروفيكين قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا وكان قد شغل من قبل منصب قائد القوات الروسية في سوريا.
وفي خطوة سياسية دعا الرئيس بوتين إلى استفتاء في مقاطعات لوغانسك ودونتيسك وزاباروجيا وخيرسون للانضمام إلى الاتحاد الروسي. وفي منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، أعلن قائد القوات الروسية سوروفيكين سحب قواته من مدينة خيرسون. فاجأ هذا التراجع المراقبين لكنه كان مبنياً على واقع عدم توازن القوى في خيرسون إذ إن أوكرانيا كانت تحشد قوات كبيرة ومتفوّقة بالعدد وكان القتال سينتهي لصالحها فتراجعت القوات الروسية إلى مواقع في المقاطعة يمكن الدفاع عنها.
وهنا نذكر أنه منذ بداية العمليات العسكرية استدعت أوكرانيا الاحتياط ومنعت كل من تجاوز الثامنة عشرة ولم يتجاوز الستين من مغادرة البلاد وأحالت الجميع إلى الوحدات العسكرية، مما وفّر لها موارد بشرية ضخمة في الجيش والدفاع الوطني بشكل عام من دون اعتبار تكلفة هذه التعبئة الاستثنائية، كون المساعدات المالية والعسكرية تتدفّق بشكل وفير على أوكرانيا.
بانتظار جاهزية الاحتياط الروسي بعد التدريب والتنظيم في وحدات قتالية شنت روسيا هجوماً صاروخياً على مصادر الطاقة في أوكرانيا وتسبّبت بتدمير أكثر من نصف المحطات الكهربائية لكنها لم تقصف محطات توليد الكهرباء العاملة بالطاقة النووية خشية تسرّب إشعاعات نووية. كما استخدمت طائرات مسيّرة في قصف الأهداف الدقيقة وخصوصاً في كييف والمدن الكبيرة، وبرز استخدام المسيرة الإيرانية “شاهد” لتوجّه بعد ذلك اتهامات لإيران بمساعدة روسيا في الحرب.
في 11 كانون الثاني/يناير 2023 وضعت القيادة العليا للجيش الروسي يدها على قيادة العمليات في أوكرانيا وعيّن رئيس الأركان الجنرال غيراسيموف قائداً للقوات في أوكرانيا والقائد السابق الجنرال سوروفيكين نائباً له. بذلك استقرت القيادة والسيطرة في الجيش الروسي وانتقلت روسيا إلى عمليات هجومية.
بداية الهجوم الروسي المعاكس
بدأت روسيا في منتصف كانون الثاني/يناير 2023 هجوماً في مقاطعة دونتيسك وسيطرت على مدينة سوليدار ودخلت مدينة باخموت وهي تقاتل في داخلها وضغطت بشدة على القوات الأوكرانية التي أقرت بصعوبة الوضع.
بدا أن الجيش الروسي يحضّر لهجوم عام خلال الربيع أو قبله وهذا ما دفع الرئيس الأوكراني إلى الاستغاثة بدول الناتو وطلب دبابات للقوات البرية الأوكرانية لصد الهجوم الروسي وعلى الأرجح أيضاً لشن هجوم أوكراني بري.
تحوّلت الدبابات إلى قضية شغلت الرأي العام. عرضت بولونيا إرسال دبابات ليوبارد 2 الألمانية إلى أوكرانيا، فيما أعلنت بريطانيا إرسال عشر دبابات تشالنجر أيضاً. فرنسا أعلنت أنها مستعدة لإرسال دبابات أ أم اكس 11 وهي الجيل الثاني في الجيش الفرنسي وأنها لن ترسل دباباتها الحديثة من نوع لوكليرك. أما ألمانيا فقد اشترطت أن ترسل الولايات المتحدة دبابات إبرامز كي ترسل بدورها دبابات ليوبارد2.
رفض البنتاغون الشرط الألماني وبعد مناقشات قرّر الرئيس بايدن السماح بتزويد أوكرانيا بدبابات أبرامز والتي تبيّن أنها لن تكون من مخازن الجيش الأميركي بل من المصانع التي تتطلّب وقتاً لتجهيز الطلب. وبهذا وضعت دول الناتو أساساً لتزويد أوكرانيا بالدبابات في مراحل مقبلة من الحرب.
شاركت قوات فاغنر الخاصة بالقتال إلى جانب الجيش الروسي وخصوصاً في سوليدار وباخموت، فيما واصلت أوكرانيا استقبال المتطوعين من دول عديدة وأبرزها مجموعات من تنظيم القاعدة في بلاد الشام “جبهة النصرة” الذين قدموا من إدلب شمال سوريا. وسبق لهؤلاء أن قاتلوا في ليبيا إلى جانب حكومة طرابلس وفي ناغورني كرباخ إلى جانب القوات الأذرية.
آفاق الحرب الروسية الأطلسية
بعد مرور عام على بداية العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا يمكن استشراف مسار هذه الحرب ونهايتها.
1-يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصمّماً على تحقيق أهدافه بحماية الأمن القومي الروسي ومنع أوكرانيا من أن تصبح جزءاً من حلف الناتو الذي يجاهر بالعداء لروسيا، فيما يتحدث منظّرو الناتو عن تقسيم روسيا إلى ثلاث دول، دولة موسكو ودولة الأورال ودولة سيبيريا. كما لن يرضى بوتين أن تحوز أوكرانيا على سلاح نووي، معتبراً أن الدعم الغربي وتدفق الأسلحة الى أوكرانيا دليلان على العداء لروسيا ومحاولة إسقاطها وأن غياب أي مسعى دبلوماسي أو من الأمم المتحدة لتسوية النزاع يشي بأن الغرب يمضي قدماً في سعيه لإسقاط روسيا.
2-تعتبر الولايات المتحدة ومعها دول الناتو أنها لو استجابت لشروط بوتين فإن روسيا سوف تصبح قطباً ثانياً في العالم، وأن مظلة أوكرانيا ودول البلطيق التي تطبق على روسيا وتضيّق الخناق عليها ستنهار عندما يحقق بوتين شروطه.
3-تخوض الولايات المتحدة النزاع بالمال والمساعدات من دون إشراك قوات عسكرية ومن دون التسبّب بخسارة حياة جنود أميركيين. أوكرانيا هي المتضرّر الأكبر فهي تخسر جنوداً ومدنيين ومعظم مدنها وبناها التحتية تعرّضت للدمار. والأهم أنّ نحو 40% من سكان أوكرانيا تحوّلوا إلى نازحين إما في بولندا وتشيكيا ورومانيا ودول أخرى وإما في القسم الغربي من البلاد. صحيح أن الإعلام الغربي يخفي هذه الحقيقة المؤلمة لكن سيأتي حين تظهر فيه هذه الحقيقة.
4-في التوازن الاستراتيجي العام تبدو روسيا متفوّقة في الموارد البشرية والعمق الاستراتيجي ولها تجربتان في تلقّي الغزو الغربي: بونابرت في القرن التاسع عشر وهتلر في القرن العشرين وانتصرت عليهما بسبب التفوّق الاستراتيجي.
5-تبدو الحرب طويلة ولم تظهر ملامح التسوية بعد. كان الغرب يراهن على انهيار الاقتصاد الروسي وتذمّر الشعب الروسي من الحرب لكنّ بوتين أحسن استخدام موارد الطاقة وخصوصاً الغاز في المحافظة على اقتصاده واستقرار العملة الروسية الروبل. كما أن الشعور الوطني الروسي ارتفع وبات بوتين يحوز تأييداً شعبياً أكثر مما كان في بداية الحرب.
6-من الممكن أن تحضر التسوية الموعودة في حال إنهاك أوكرانيا والدول الأوروبية المنصاعة للولايات المتحدة وبداية الدعوة الأوروبية إلى تسوية مع روسيا وهذا يتطلب المزيد من القتال ولم تظهر ملامحه بعد.
———————————
تنويه: مصدر المقال موقع (الميادين).
————————————–
للاطلاع وفهم خلفيات نشوب الحرب: المقال المرجعي (اضغط الرابط): الدوغينيّة – البوتينيّة