من أشهر قصص الإذلال، التي تروى بتراثنا الشرقي الذي تخلّينا عنه، حادثة إذلال الملك السلوقي، المعروف بكرمه أنطيوخوس الرابع (175 ق م – 164 ق م)، من قبل الرومان، الذين كانوا قد ظهروا في تلك الحقبة، كقوة متنمّرة شرق المتوسط. كان السلوقيّون، من عاصمتهم أنطاكية، يتصارعون مع البطالمة حكّام مصر، على سهل البقاع وفلسطين الذي كان البطالمة يطالبونهم به، وخاض الطرفان في ما بينهم حروباً كثيرة، سمّيت بالحروب السورية، وكانت هذه الحرب هي الحرب السادسة بينهم. هنا تمكّن السلوقيون، بجيش ضخم من المرتزقة المدرّبين، من اكتساح مصر وقبرص، ولم يبق سوى الإسكندرية فحاصروها.
وبينما الملك أنطيوخوس الرابع يتابع أعمال الحصار، ظهر له من بعيد القنصل الروماني في مصر بوبيليوس لايناس، فسلّم عليه من بعد، وما إن اقترب منه، حتى مدّ الملك يده ليسلّم على القنصل، ففاجأه القنصل، بأن سلّمه كتاباً فيه مطالب روما منه، ورسم حول الملك خطاً دائرياً في الرمال، وقال له: لن تعبر هذه الدائرة قبل أن تجيب على مطالب روما. المطالب كانت واضحة، إمّا أن يتابع ضم مصر وقبرص رسمياً لملكه، ويكسب عداوة روما، أو أن ينسحب من مصر وقبرص، ويكتفي بما نهب وتعويض مالي. رضخ الملك أنطيوخوس الرابع لهذا الطلب المهين، قائلاً إنه لن يرفض طلب مجلس الشيوخ الروماني، وسيقرّر الانسحاب ممّا غنم، فقبل القنصل لايناس مصافحته. عاد أنطيوخوس بجيشه لعاصمته أنطاكية، وكسب بذلك سمعة الملك الذليل طوال الحقبة الكلاسيكية (Polybius 29.27.4/ p405 Fridericus Hultsch).
ما يجري اليوم في أوكرانيا مؤرّق لكل قادة العالم المتورّطين بهذا النزاع المهلك، فكل قائد منهم يسأل نفسه، من ذا الذي سترسم حوله دائرة بخط في الرمال، فيذل ويجيب مطالب أعدائه صاغراً، من غير أن يعرّض البلاد لحرب عالمية. بوتين أم زيلينسكي أم الغربيون؟
حدود الأمن والازدهار
في نصيحته الختامية لطلاب جامعة أكسفورد البريطانية، حرص مدير الاستخبارات الخارجية البريطاني الأسبق السير جون سورز (2009 – 2014)، على أن يوصي شباب النخبة المتعلمة بأن يفهموا أن أمن المملكة المتحدة لا يبدأ ولا يقف عند منحدرات دوفر الساحلية البيضاء، بل على بعد آلاف الأميال. وكلام الرجل سديد وسليم، كما أن أمن المشرق المحتل لا ينتهي بجزيرة الأرانب اللبنانية على المتوسط، بل بالجزر اليونانية على أقل تقدير، إن شئنا أن نكتب تاريخ المنطقة بأنفسنا. ما يؤكد كلام السير سورز، أن مواطنه الفَهِم الحذق السياسي البريطاني المفوّه نايجل فاراج، شرح مرة في البرلمان الأوروبي، أن بلجيكا انتزعت من هولندا، لتضمن بريطانيا أن لا تسقط موانئ هذا البلد الصغير في يد أعداء بريطانيا. هذه النظرية، يؤيدها الجنرال ديغول، إذ كان يرى أن لا معنى لخلق بلجيكا من العدم لولا مصالح الأمن القومي البريطاني. لكن هذه النظرية فيها نظر، وحولها نقاش تاريخي، يرفضه البلجيكيون طبعاً، وهو أمر قد لا يهمّنا، لكن الحقيقة أن الدول العظمى تعبث بخرائط الكوكب كما تراه مناسباً لمصالحها. ولنا بإنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين من العدم دلالة ودرس لن ينساه شرقنا، حتى لو انقرضنا نحن العربَ، وجاء من يحل محلنا.
هنا طرفة تقول، إنه لو أن وقع الأوروبيون من السماء على جزيرة، وسعى كل شعب منهم لاختيار موطنه، لربما اختار الطليان أجمل البقاع، وصيّروها كعبة السياحة والعبادة، ولفضّل الألمان الغابات والمناجم، ليقيموا الورش والمصانع، بينما سيختار الفرنسيون مركز الجزيرة وقلبها ليظهروا أنهم صرة العالم. أمّا الإنكليز، فسيختارون على الأغلب أعلى بقعة في الجزيرة وأمنعها، ليبنوا عليها حصناً، وليضمنوا أمنهم قبل كل شيء، وليحفظوا خصوصيتهم، ويراقبوا الجميع، ومن بعدها قد يفرضون سطوتهم على بقية المغفلين، ما إن تصعد بينهم نخبة طموحة فطنة.
كما هو واضح، أن هذه القصة تنميطية، ولا يجوز طبعاً أخذها بحرفيتها، فلم يختر أي من هذه الشعوب وطنه اليوم، والبريطانيون متنوعو الآراء والتصورات والطباع، ولا يجوز اختزالهم بطبع واحد. لكن القصد هنا، هو أن النخبة الإنكليزية المهيمنة على العالم منذ نهاية القرن الـ18 تقريباً، ليست ساذجة، ويعرف عنهم أنهم يحسبون موازين الربح والخسارة بدقة، ولهم نظرة بعيدة تجعلهم أحياناً غير محبوبين بين أقرانهم، أو كما ينسب لرئيس وزرائهم ونستون تشرتشل، تلك المقولة «صاحب النظرة البعيدة تعيس»، ذلك لأنه يرى الخطر قبل كل من هم حوله، فلا يفهمه هؤلاء أو لا يصدقونه. في حين أن أفضل وصف، لطريقة إدارتهم لصراعهم مع خصومهم، هو ما زُعم أن الفرنسيين، أو نابليون، قالوه فيهم، وهو أنهم «أمة بقالين»، أي أمة تجار دهاة، ومن الصعب أن تهزم أمة كهذه.
فهم لم يبنوا أمتهم ولا رسموا حدودهم على الأوهام الثقافية، كما يفعل القوميون عادة، أو على العاطفة الدينية وحدها، أو على المطامع الاقتصادية المباشرة في رأيي. وأمامنا من تاريخ أمة البقالين هذه، بحسب وصف نابليون، الكثير لنتعلمه، لا لنطبّق سياستهم، بل لكي نفهم العالم. الحكومات البريطانية مثلاً، غزت جزيرة إيرلندا وارتكبوا المذابح تلو المذابح فيها، وظلت إيرلندا، المستعمرة الأوروبية الوحيدة في تاريخ الغرب الحديث، يعامل أهلها كسكان المستعمرات الأفريقية والآسيوية لفترة قريبة! البريطانيون ما فعلوا ذلك لأنهم لم يكونوا ليبراليين، أو لأنهم وحوش، لكن هذه كانت السياسة حول العالم حتى القرن العشرين على أقل تقدير. البريطانيون كانوا حريصين على أن يُفهموا العالم، وأوّلهم الإيرلنديون، أن جزيرتهم ضمن الأمن القومي للجزر البريطانية، وأن إيرلندا ضمن خط أحمر لا يتجاوزه أحد.
ارتكبت بريطانيا المحظور لتمنع استقلال إيرلندا مجاورة مستقلة قد تعاديها وتحالف أعداءها فتطوقها من الغرب. بينما بالمقابل في بلادنا، من يتطوع ببلاهة من ساسة ومثقفين لتقسيم البلاد، والرضوخ لمؤامرات الانفصاليين. كما حصل عقب سقوط الموصل بيد «داعش» عام 2014، ظهر ساسة شيعة من جنوب العراق، يطالبون بفك الارتباط بالموصل والمحافظات السنية شمال وغرب بغداد. هؤلاء كانوا عملياً يورثون أبناءهم كيانات صغيرة ضعيفة، وجيراناً جدداً تحكمهم نخب معادية لأهل العراق الجنوبي!
وخذ على سبيل المثال الحركة الانفصالية الكردية في شمال العراق، التي حظيت بتعاطف ودعم من نخبة المثقفين لدينا لاستقلالها منذ الستينيات، ليبني الملا القبلي مصطفى البرزاني لنفسه مشيخة كردية معادية للعرب تتحالف مع الشاه وإسرائيل. لم يفكر هؤلاء أن هذه الدويلة سرعان ما قد تبني سدوداً على أنهر العراق الموحّد فيعطش جنوبه، وقد تنهب نفط الشمال كما يحصل اليوم، لصالح سلالة رجعية أخرى في شرق المتوسط، لن يستفيد منها عامة الكرد المظلومين.
يحدث هذا حين لا يحدد لك أمنك القومي موظفو الدولة المتمرسين والمطلعين على حقيقة التوازنات الدولية وموارد الوطن وثغراته، بل يحددها مثقفون هواة نصفهم شعراء، يرى أن علاقة الكرد ببغداد كعلاقة الجزائريين بباريس، علاقة استعمار واحتلال. لدي ملاحظة مهمة هنا، أنا لا أدعو لتطبيق حل التجربة البريطانية في إيرلندا مع الكرد أو غيرهم، لكن بالمقابل، لننضج سياسياً جميعاً، حتى لا نتبرع من تلقاء أنفسنا لتقسيم بلادنا، وتوزيعها صدقة وكفارة لوجه الله!
اللعبة الأوروبية
الآن، إن كنا سنتحدث عن أمم أوروبا حصرياً، فعلى برّها أمّتان هزمتا نابليون وهتلر، هم البريطانيون والروس، ومنذ ذلك اليوم حتى هذه الأيام، لم تتغير المعادلة جذرياً، رغم صعود الألمان ومن ثم إقصاؤهم، وعودة الفرنسيين الذين يتبعون المنتصر اليوم، وبالرغم من مجيء الأميركان، الذين يبدو أنهم ينسحبون باتجاه المحيط الهادئ، تبقى لندن وموسكو من يجب أن تأخذ في حسبانك هنا. البريطانيون هم الذين أقنعوا الأميركان بعيد الحرب العالمية الثانية، أن يتخلوا عن سياسة روزفلت التعاونية مع ستالين، لصالح سياسة أكثر عدائية أدت إلى الحرب الباردة، وهو ما تحقق بموت روزفلت المفاجئ وصعود ترومان. كما كانت خطط لندن وواشنطن حول الأراضي الألمانية المحتلة بعد 1945 متطابقة بشكل ما، وفرضت نفسها في النهاية على كل من باريس وموسكو وبرلين.
من ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى الاتحاد الأوروبي، الذي تشكل ألمانيا قلبه الاقتصادي، هو في الحقيقة نادي المنهزمين في الحرب العالمية الثانية. ألمانيا شهدت سنوات مجد تُدرس في عصر مستشارها بسمارك (توفي 1890). بسمارك هو من أسس ألمانيا ووحّدها، وقاد الألمان من خلال بروسيا، فألمانيا بعدها، منذ عام 1862 حتى 1890. ترك بسمارك وصية ثمينة للألمان، لم يحترموها فدفعوا الثمن، وهي أن السياسة الخارجية السليمة لألمانيا تكمن بضمان علاقة ودية مع روسيا.
وصية بسمارك هنا، لا تخص الألمان وحدهم، بل كل دول وممالك البر الأوروبي، وهو ما لا يناسب لندن، لأنه يقوي روسيا، ويوحد الأوروبيين، ويهمشها. لذا فإن حرباً أوروبية باردة أو دموية مع روسيا قد تكون دائماً مفيدة لبريطانيا، مدمرة للأوروبيين ومضعفة لهم. يجدر هنا التذكير أنه منذ نصر واترلو عام 1815 حارب البريطانيون الروس مرتين، انتصروا فيها لدرجة أن روسيا تغيرت بعدها إلى الأبد. الحرب الأولى كانت حرب القرم (1853 – 1856)، خسرها الروس وأجبرتهم الهزيمة على إعادة تحديث أنفسهم، فحرروا الأقنان الروس، وضُرب نفوذ الأرستقراطية في الجيش والبيرقراطية. أمّا الحرب الثانية، فكانت الحرب الباردة، التي خاضها البريطانيون بقيادة الأميركان ضد السوفيات، وانتهت بتفكك الاتحاد السوفياتي وتحول روسيا لنظام الرأسمالية النيوليبرالية الوحشية.
هناك تصور مغلوط بخصوص علاقات القوة في القارة الأوروبية، فالبريطانيون، على ما يبدو، لم يروا في ألمانيا، منذ ظهورها موحدة عام 1871، سوى تهديد ثانوي لهم مقارنة بالروس الذين يشكلون التهديد الجدي. يمكن في هذا المجال مراجعة كتاب كيث نيلسون «بريطانيا وآخر القياصرة»، وفيه عرض مفصل لوثائق الأرشيف البريطاني بخصوص التهديد الذي تمثله روسيا على مصالح بريطانيا. (Neilson: 1995(
توسّع الاتحاد الأوروبي و«الناتو» والحرب الأوكرانية، يستهدف ألمانيا بشكل أساسي، وهي الدولة التي عارضت مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا، توحيدها حتى آخر لحظة. سياسة لندن الخارجية نحو القارة، كما يلقن طلبة الجامعات في بريطانيا في العام الجامعي الأول، كانت دائماً تقوم على مبدأ «إبقاء الأميركيين في القارة، وإبقاء الألمان منقسمين، وإبقاء الروس خارج القارة». تأسيس الاتحاد الأوروبي عقّد المشهد قليلاً، فهذا المشروع يخضع جميع الأوروبيين للألمان الأغنياء والموحدين اليوم، وتختلف أجنحة النخبة السياسية البريطانية حول كيفية التعامل مع هذا الوضع.
في شرقنا يقال اعرفوا أسرارهم من صغارهم، في السياسة العالمية أحياناً تعرف أسرارهم من موتوريهم. ومن هؤلاء المؤرخ البريطاني اليميني ديفيد ستاركي، الذي يبغض النموذج الألماني الحالي، فيقول إن ألمانيا ليست دولة، بل تجمّعاً للصناعة والتصدير، وفق مصلحة ميركنتالية صارمة، محددة مصالحها العليا، لا بحقوق ثقافوية أو جغرافية، كما يفعل الروس والإيرانيون والسوريون وغيرهم.
كيان كألمانيا وفق ستاركي، لن يعرض نفسه لعقوبات مقابل أن يحمي أقلية ألمانية هنا، أو ليسترجع أرضاً تاريخية هناك، كما يفعل الروس اليوم مع الدونباس، أو الإيرانيون مع سلاح المقاومة وفلسطين. لأن عقيدته المركنتالية تحتم عليه أن يبقي دوران عجلة الإنتاج، بتدفق الغاز من خصوم كروسيا مثلاً، وأسواق عالمية مفتوحة لتصريف إنتاجها!
الأسوأ عند ستاركي، أن الألمان يقدمون أنفسهم للعالم أمةً مدجنة غير قومية، معتزين بهويتهم الأوروبية، يؤمنون بالسلام والعمل والإنتاج، ولا جيش كبيراً ولا ميزانية أمنية حقيقية، ولا روح عسكرية مستعدة للموت والتضحية. ويقدم هذا النموذج المخصي نفسه مثالاً يحتذيه سائر الأوروبيين، ليرخوا زمامهم لطبقة البيرقراطيين الأوروبيين في بروكسل كما يرى ستاركي! ما يقلق ستاركي أكثر أن الحرب الأوكرانية كشفت عن ضعف الأوروبيين اللاقوميين، أمام الروس الجدد، الشديدي الاعتزاز بقوميتهم وتراثهم الحربي!
يرى ستاركي، وهو من دعاة البريكست، أن لا حل لأوروبا إلا بعودتهم لهوياتهم القومية، بدل المشاريع الأوروبية الكبرى.
على أي حال، لا يمكن أن نعتبر أن ستاركي يمثل رأي صناع القرار ببريطانيا، لكن تصوراته تخدم بريطانيا التي تريد مواجهة روسيا. لذا، فإن وجود نخبة ألمانية حكيمة رشيدة، تتفاهم مع الروس، تستورد غازهم، تحترم جوارهم، سينهي عمل «الناتو» في أوروبا عملياً. وسينهي الحرب الأوروبية الطويلة، والمشتعلة منذ قرون لأول مرة، إن طبّق كل الأوروبيين هنا نصيحة بسمارك، وهي أن السياسة الخارجية الصحيحة علاقات ودية مع روسيا. بمعنى ما، إن ما يطلبه ستاركي هو أن يرمي الألمان بأنفسهم وازدهارهم في تهلكة الحرب الروسية.
لذا، فإن وصية بسمارك لا مستقبل لها على ما يبدو، فقد ورط الاتحاد الأوروبي بقضية توسيع حلف «الناتو» لضم الأمم الأوروبية شرق الألب، من البلطيق حتى أوكرانيا، مما وضعهم أمام فوهة مدافع الروس. حرب أوكرانيا يراد لها أن تتحول لما يشبه الحرب السورية، إن لم يحسم الروس هذه المأساة عاجلاً. خلاف ذلك سيعني، تحوّل البلاد لأكبر مفرخة للإرهاب في القارة، بخاصة مع تدفق المتطوعين اليمينيين، والسلفيين، وغيرهم من المغامرين والمجرمين، على هذا البلد المنكوب، سيحول معظم شعبه للاجئين في أوروبا.
يبدو هنا أن بريطانيا استبقت الأحداث المتوقعة، وأقصد تحول شرق أوروبا لجبهة مشتعلة مع الروس، بخروجها من الاتحاد الأوروبي. فلربما فهم البريطانيون أن أهوالاً ستضرب أوروبا لا محالة، ولا تريد بريطانيا أن تكون ملزمة تجاه أي طرف فيه، لا اقتصادياً ولا قانونياً، باستثناء التعاون الأمني، ولذلك بقيت في «الناتو» حتى الآن.
يلاحظ المرء أن لندن وموسكو كلتيهما كانتا قطبين للقارة، ولم تسقط بلادهما تحت احتلال غيّر شكل الحكم، خلال الـ500 عام الأخيرة، وذلك لمزايا معينة لن نخوض فيها الآن. تمكنت هاتان القوتان، المستقلتان فعلاً، من الظهور كقطبين مؤثرين، على الأقل منذ الحروب النابليونية، وسحبا دولاً وشعوباً لنفوذهما في الساحة الأوروبية، برسمهم خطوطاً حمراً، وبتلاعبهم بخرائط وأنظمة كثير من الدول.
تاريخ النفوذ الروسي كان دائماً كبيراً في شرق أوروبا منذ القرن الـ19، في حين أن بريطانيا كانت الدولة الأنشط في تشكيل تحالفات وتوازنات القارة. بريطانيا ما زالت الدولة الوحيدة التي تحيط أوروبا بقواعد نفوذ عسكرية من أربع زوايا وفي القلب. جزيرة إيرلندا، جبل طارق في غرب المتوسط، وقبرص في شرق المتوسط، وليتوانيا وإستونيا والنرويج في شمال شرقي أوروبا، وألمانيا في قلب القارة. الوجود العسكري البريطاني في ألمانيا سابق لتأسيس حلف «الناتو» وقوة منفصلة عنه. بريطانيا لها اليوم قرابة 145 قاعدة عسكرية في 42 دولة حول العالم، مما يجعلها القوة الثانية عالمياً من حيث الانتشار العسكري بعد الولايات المتحدة.
صحيح أن بريطانيا خسرت إمبراطوريتها القديمة، لكني لا أشاطر أصدقائي الحديث عن أن البريطانيين يظهرون أكبر من حجمهم الحقيقي. بريطانيا احتلت نصف العالم وهي الدولة الصغيرة نسبياً، ويمكن لها أن تظل قوة عظمى معتبرة أيضاً كدولة صغيرة مقارنة بأميركا، وروسيا، والصين، والهند، إلخ. في اعتقادي أن الأميركيين سيظلون يحتفظون بعلاقتهم الخاصة مع بريطانيا، أكثر من أي دولة أوروبية أخرى، فهي القوة الأوروبية الأكثر استقراراً على مدى القرنين الماضيين، أحب الناس ذلك أم كرهوه.
حمل الصداقة
لكن هل يحق لنا أن نستنتج أن بريطانيا تخلت عن حلفائها؟ يجيبنا على ذلك رئيس وزراء بريطانيا السابق اللورد بالمرستون (توفي 1865)، وله مقولة مشهورة أن «لا حلفاء أبديين لبريطانيا ولا أعداء دائمين، بل مصالح أبدية واجبة علينا حمايتها» (في خطاب له بمجلس العموم 1848). وهو يشرح هنا فكرة تملص بريطانيا من نادي الزواج «الكاثوليكي» لمهزومي الحرب المسمّى بالاتحاد الأوروبي، في حين أن البريطانيين كما تعلمون أمّة «آنجليكانية»، لا تؤمن بمثل هذه الالتزامات «الكاثوليكية» الثقيلة. لكن، بالرغم من كل ذلك، يبقى الأوروبيون حلفاء لبريطانيا، التي ستراهم يغرقون في وحل مشاريع التوسع الأوروبية في أوكرانيا، ولن يكون عليها تحمّل الكثير سوى التبرع بقليل من الأسلحة والمتطوعين، مقابل استقبال بعض اللاجئين الأوكران المتعلمين ربما لتعويض البولنديين الذين رحلوا، مع فارق أن بريطانيا غير ملزمة لأوكرانيا بشيء، بعكس بولندا التي ستغرق وغيرها من أعضاء الاتحاد الأوروبي بأزمة لاجئين وتوتر اجتماعي.
لربما كان المنطق السليم والحظ أخلص أصدقاء بريطانيا، بينما يقال بأن أتاتورك أوصى الأتراك، عقب انهيار السلطنة، أن يفهموا أنه منذ هذا اليوم لا صديق للتركي إلا تركي، في حين رأى هارفي موريس أن لا صديق للأكراد سوى الجبال، ولا أدري إذا كان هذا تصوراً فلكلورياً كردياً أم مقولة استعمارية أخرى زرعت في رؤوس أشقائنا الكرد. ولعل للعرب صديقين اليوم، الله وإيران، التي تآمروا عليها عقوداً وخذلوها، إلا من رحم الله. طبعاً آخر ما يجب أن يتعلّمه العرب من الأوروبيين هنا، هو خذلان حلفائهم، كما حصل مع الأوكرانيين.
يقول تولستوي ساخراً بما معناه بخصوص الصداقة بين الشعوب في السياسة الخارجية، أن أخلص أصدقائنا كانوا أولئك البيلاروسيين الرائعين، الذين غدروا بنا مرتين. لكن بالنسبة لوجهة النظر الرسمية بروسيا فهناك حلفاء حقيقيون لها، قلما يخذلونها، لخّصهم القيصر ألكسندر الثالث (1881 – 1894) بمقولة (إن لروسيا حليفين اثنين فقط، الجيش والأسطول).
لكنّ الغربيين يفهمون التحالف بطريقة مختلفة عنا، نحن نتصور أن من سيحالفك في السياسة الدولية سيظل «معك للموت»، كما يقال في حديثنا الدارج، لكن الدول لا تعمل هكذا. هنا لن تفني دولة نفسها من أجل أخرى، روسيا لن تموت جماعياً من أجل شقيقتها الصغرى صربيا، إيران لن تجلب الويلات على شعبها لإنقاذ البحرين من براثن آل خليفة، فهذا كمن يلقي بنفسه في التهلكة اليوم.
المقاومون اللبنانيون والعراقيون، ذهبوا إلى سوريا للقتال إلى جانب أشقائهم وفاء لسوريا كموقف أخلاقي نعم، ولكن قرار الذهاب كان عقلانياً قبل كل شيء، لأن سقوط سوريا سيعني انتقال المعركة للعراق ولبنان. لكن هذا لا يعني أن إيران قصرت معنا، بل على العكس، هي تبنت أيديولوجيا ورؤيا تربط مصيرها بنا، وقدّمت التضحيات في سبيل ذلك، بعكس سياسة الشاه، وهذا هو جوهر التحالف بيننا.
الآن دول كفرنسا وبريطانيا لهم نوع آخر من التحالفات، في ما يخص علاقتهم بدول شرق أوروبا، وهي أن الغرب أوروبيين يبدو أنهم يرون أن لا مجال حقيقياً لنمو وتطور شرق أوروبا، «ولغربنتهم»، لسبب بسيط، وهو أنهم على بلاد طرفية لا موارد فيها ومعرضة للحرب مع روسيا.
في تصوري، أن الشرق أوروبيين لن ينجح مشروع غربنتهم واندماجهم الكامل بالغرب، ليتسع مفهومه جيوبوليتيكياً، ليشمل بولندا، ورومانيا، وبلغاريا، والمجر، إلخ، ما دامت روسيا قوية. لأن بعض الغربيين يعلمون أنه، عاجلاً أم آجلاً، قد تقتحم المجنزرات الروسية مدن وارسو، وبراغ، وبودابست، التي لن يحميها الغرب. ما يحصل الآن من تعاون أو تحالف غربي شرقي في أوروبا، هو لمنع الشرق أوروبيين من البحث عن بديل اقتصادي وثقافي لهم مع روسيا مستقبلاً أو في ما بينهم. بمعنى أنا أعطيك جزرة لتظل معي، ولا تتحالف مع الروس، لكن هذا لا يعني أني أحبك وأراك جزءاً مني، وسأضحي ببلادي من أجلك.
في هذا الشأن يقول المؤرخ الأميركي ستيفن كوتكن «إن التحالفات غالباً ما تفرض لتكبح جماح الدول لا لتقويها»، وهذا كان جوهر التحالف البريطاني الفرنسي البولندي عشية 1939 (Kotkin: 2018, p 612). البرلمان والصحافة البريطانية، هاجمت في حينها «الاتفاقية البولندية» التي وقعها رئيس وزراء بريطانيا نيفيل تشامبرلين مع وارسو وباريس، للدفاع عن بولندا في حال غزاها النازيون الألمان. لم تكن بريطانيا مهيأة للدفاع عن بولندا بأي شكل من الأشكال، حقيقة بريطانيا لم تدخل الحرب دفاعاً عن أي بلد أوروبي في الـ200 عام الأخيرة، سوى بلجيكا وفرنسا المحاذيتين، ففكرة أن تفزع لنجدة بلد أوروبي شرقي كبولندا أمر مجنون من تشامبرلين. هنا علق ديبلوماسي بريطاني مخضرم، هو ألكسندر كادوغان، (بطبيعة الحال، ضماننا لا يقدّم أي مساعدة لبولندا. ويمكن القول إنه كان وعداً مجحفاً بحق بولندا، بل مثيراً للسخرية).
يبدو أن كل ما أراده حلفاء بولندا الغربيون منها هو أن يقيّدوها بحلف أمني حتى يفاوضوا هتلر عنها، من موقع أنهم حلفاؤها ومن سيرفع قميصها إن هي احتلت. لكن هذا لا يعني أنهم سيحمونها. وهو ما يحصل مع أوكرانيا اليوم، وقد يتكرر مع أعضاء «الناتو» الجدد غداً، يضحون بك، ويقاتلون قاتلك لسنوات مقبلة. لتروتسكي تعليق ظريف هنا، وهو أن بريطانيا مستعدة لأن تضحي بكل ديموقراطيات العالم، مقابل عشر الهند (كانت مستعمرتهم)! لذلك كان الفرنسيون والبريطانيون يخشون من أن يخسروا الكثير في حرب مع الفاشيات الصاعدة، من أجل لا شيء. (Kotkin: 2018, p 614(
نهاية «الناتو»؟
في تصوري أن حلف «الناتو» يواجه تحدياً خطيراً، فهو فشل حتى الآن في حماية أوكرانيا، وهي بلد كانت تنتشر فيه قوات «الناتو» واستخباراته بقوة، وكان يعد كرأس حربة ضد روسيا، إذا كنا سنصدق السردية الروسية، التي هي على الأغلب صحيحة. مشكلة «الناتو» أنه توسع بعيداً من أراضي الأمم الأساسية المؤسسة له. فـ«الناتو» ليس هنغاريا وإستونيا، ولا مقدونيا والجبل الأسود، التي عارضت شعوبها ضمهم لـ«الناتو» أصلاً، «الناتو» هو أميركا وغرب أوروبا حصراً، وأنا لا أصدق أن ما كتب في ميثاقه وما فيه من فقرات ستطبق حرفياً، لأن ذلك سيؤدي لفناء العالم!
المسألة أن «الناتو» تأسس على أنه إن تهور قادة الاتحاد السوفياتي، وقرروا مثلاً غزو أوروبا الغربية لإسقاط نظمها وفرض الشيوعية عليها. عندها تستعمل الأسلحة النووية لردع السوفيات، الذين أصلاً لن يفكروا بذلك، إن عرفوا أنك دولة نووية. والعكس صحيح، إن فشلت الأسلحة التقليدية الروسية اليوم في هزيمة الغربيين وهم يدافعون عن حدودهم وجوارهم، عندها فقط ستستعمل أسلحتهم النووية.
لكن هنا يكون استخدام السلاح النووي وتلقي ضربة نووية، منطقياً وأنت محشور بزاوية، كما يحصل بروسيا التي تحيط بها قواعد «الناتو»، لكن ما حجة الحكومة الغربية التي تبني قواعد عسكرية حول روسيا النووية، أين يريدون أن يصلوا؟ هذا طريق مسدود! إن فشل الروس بالوسائل التقليدية بكسب ما قد يكون حربهم الوطنية الثانية، فقد يضربون بولندا أو رومانيا مثلاً، حيث تتجمع قوات «الناتو» فيها، وقد يقتل مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء. عندها كيف سيرد «الناتو»؟ هل ستخاطر فرنسا وأميركا مثلاً بالتراشق نووياً مع روسيا؟ لتتساقط القنابل النووية على مدنهم من أجل حلفائهم أو أشقائهم الأوروبيين الشرقيين؟
الحكومة الغربية التي ستدخل بمواجهة عدمية مثل هذه أتوقع أن تكون من شعب شديد الغيرة على أشقائهم الأوروبيين الشرقيين، لأن أرضهم غير مهددة بشكل مباشر، ولا مصادر الطاقة ولا الأسواق استراتيجية هنا. لذا أنا لا أظن أن المجتمعات الغربية الكبرى مستعدة لخسارة ملايين البشر من أجل أحد، حتى لو كانت أستراليا أو السويد، الأقرب إليهم لغوياً وثقافياً.
لنأخذ بريطانيا مثلاً، من عاش من البولنديين فيها سيخبركم كيف كان «السباك البولندي» يطلق عليه جمهور اليمين لقب «عدو الشعب رقم واحد!»، جمهور اليمين هذا هو الذي قرر مصير بريطانيا بقضية الـ«بريكست». هذا الجمهور، لربما يكون محقاً بحساسيته من السباك البولندي الذي، بحسب الصورة النمطية على الأقل، يعمل ساعات أطول، بأجر أقل، وأكثر كفاءة ويعرف كيف يدخر ليطلق مشروعه الشخصي. بمعنى آخر، منافسة الأيدي العاملة الأوروبية الشرقية للبروليتاريا الغربية، هو ما استفز الحساسية الوطنية وسمح لمشروع الـ«بريكست» أن ينجح، أو هكذا قيل للناس وقتها.
القائمون على مشروع «بريكست»، كانوا واضحين في خطابهم، الذي كان يحذر بريطانيا من قرب انضمام بلغاريا ورومانيا الفقيرتين للاتحاد. وأنهم بهجرتهم سيغمرون سوق العمل البريطانية، مزاحمين العامل الوطني في رزقه. الآن إذا كان وجوده كمهاجر يزاحم معيشتك ويستفزك، فكيف ستضحي بوجودك من أجله بمواجهة قد تتحول لنووية؟
خاتمة روسية
الروس لا يمزحون بخصوص أمنهم وموقعهم في هذا العالم. فلاديمير بوتين علّق مرة ببرنامج وثائقي على من سيهدد بمحو روسيا، فيقول «لدينا الحق القانوني في الرد. نعم، ستكون كارثة على البشرية والعالم. لكنني مواطن روسي، ورئيس دولتها. لماذا نحتاج إلى عالم من دون روسيا فيه؟». هذا كلام جدي ومخيف، إذ علّق عليه ديمتري موراتوف مشتكياً، وهو روسي حاز جائزة نوبل للسلام، ورئيس تحرير صحيفة «نوفايا غازيتا»: «لم يكن بوتين يتصرف مثل سيد الكرملين، بل سيد الكوكب… كان بوتين يدور حول الأسلحة النووية. زر. لقد قال عدة مرات: إذا لم تكن روسيا، فلماذا نحتاج إلى الكوكب؟ لم ينتبه أحد. لكن هذا تهديد بأنه إذا لم يتم التعامل مع روسيا كما تريد، فسيتم تدمير كل شيء» (BBC, 28 Feb 2022). أنا أتفهم أن يأخذ بوتين خيار شمشون، إن خطت دائرة حوله في الرمال، لكن ما علة الغرب يلقي بنا وبيديه إلى التهلكة؟
————————————————
تنويه: مصدر النص، جريدة الأخبار اللبنانيّة، الثلاثاء 15 آذار 2022.