[العالم مكان ملعون وشرير، الأقوياء يفترسون الضعفاء، والأغنياء يستحوذون على أرواح الفقراء، لكن مع كل هذا سأمنح نفسي أملاً ما بوجود الله المخلص، ذلك لأنني لا أزال أطرح على نفسي نفس السؤال: كيف يمكننا الإيمان بوجود الجنّة والجحيم إذا كان كل ما نراه هو الجحيم فقط؟
*ارون باول في كتابه: يوميات يوم القيامة، الجزء الثالث المعنون: لوقا الحامي]
[نحن طليعة التنوير، دائماً هناك أحد ما في المقدمة يقود اللعبة ويتبعه الآخرون، الرّواد، المغامرون، المستكشفون. هؤلاء من يخطون الخطوة الأولى في المجهول على طريق لم يسلكها أحد من قبل ومحاطة بالظلمة من كل اتجاهاتها. هؤلاء أنفسهم يجب أن يكونوا استثنائيين، محبين للمعرفة، لا يعرفون التراجع ويملكون الشجاعة للاستمرار.
*ثوماس ستارك في كتابه: الوجود الأبدي]
هو تمّرّد، عصيان مسلح ضد النظام العالمي القديم / الجديد الذي كتب بول وولفويتز بيانه في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم مؤسساً لعالم أحادي الايديولوجيا والعقيدة السياسية كما يراها من منصّة أكروبوليس المنتصرين، على عالم عتيق تهاوى وتشظّى بانهيار أحد قائمتيه الإمبراطوريتين، البيت السوفييتي والدول الملحقة بمداره.
فوكوياما كان الأسرع لتثبيت الانتصار النهائي عبر نهاية تاريخه (كتاب نهاية التاريخ). لا شيء بعد الآن يعلو على مظلة الايديولوجيا المنتصرة. كان نهاية تاريخ فوكوياما تحطيماً ممنهجاً لأية رؤية أخرى تريد أن تقول سياقها. كان هذا تدويلاً مركّزاً ودعاية مسبقة لانزياح وتمركز قرار وإدارة العالم في مركز واحد يعلو على كل سياسات الدول ويقبض بتصميم على مستقبل العالم ومصيره، والذي أصبح برمته بعدها مجرد حديقة خلفية يرمي بها صانع القرار هذا مخلفاته واستبداده وأنانيته وعجرفته وأثرته ولصوصيته.
كان وقتاً مراً لروسيا. يكفي أن نعرف أن الولايات المتحدة وضعت مراقباً أو مجموعة مراقبين مرتبطين بمؤسساتها السياسية والأمنية في المركز، في كل وزارة روسية إبّان عصر الرئيس يلتسين بذريعة المساعدة على تحويل وزحزحة الاقتصاد الروسي من نظام تذرر وتشظّى الى نظام السوق الحرة المسيطر عليه لنعرف معها حجم الإلحاق الذي امتهن كل حسابات الفخر و(الأنا) الروسية. كان تصنيعاً ممنهجاً للذل قبلته روسيا الذي قذف بها تفكك الدولة الفجائي إلى ما يشبه الدولة الفاشلة.
كان مشروع مارشال جديد، في الحسابات الأميركية للسيطرة والإلحاق بنفس الخطوات التي تم إلحاق أوروبا ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة بالولايات المتحدة. لكن الزمن لم يسهّل أمر هذا المشروع.
ثمّة رجل يتقدم إلى الأمام ليتصدر مشهد السيطرة على الموارد الروسية. لم ينتظر طويلاً قبل أن يطيح بكل هؤلاء المسننات والتروس التي كانت تعمل لصالح المركز العالمي الجديد، إلى خارج دائرة صناعة القرار.
ما حصل بالضبط في البدايات أن صناعة عقل فلاديمير بوتين كان سببه مشاعر الامتهان والذل والإلحاق التي سببته السياسات الأميركية للاتحاد الروسي لما كان يوماً إمبراطورية عظيمة، وجاءت كتابات القومي العتيق المفكر ايفان ايلين لتبلورها رغم مضي ما يقرب من القرن على وفاته في المنفى، إضافة الى جيش كامل من الفلاسفة والاستراتيجيين والمفكرين المعاصرين الذي يجمعهم كراهية ايديولوجيا الليبرالية الجديدة ودياناتها الجديدة التي خلقتها مثل حريه المثليين جنسياً التي تحولت إلى ديانة تعلو ما فوق الحياة، وعولمتها، واحتقارها للحدود القومية والنزعات المحافظة والموروث الوطني، وهجومها المنهجي على الديانات. كانت مهاجمه صرييا وهزيمتها من قبل الأميركيين والأوروبيين هي القطرة التي فاض الكأس عندها لتكرس مشاعر كراهية دفينة، وتصميماً لا يتزحزح لدى الرئيس الروسي لدفن النظام العالمي برمته ودفعة واحدة.
ما حصل في شيشنيا وجورجيا كان لعبة جس نبض متبادل، وهو لمعرفة أين يقف كل طرف بالضبط؟ وأين الخطوط الحمراء التي يمكن أن يقطعها كل طرف من طرفي اللعبة: روسيا والغرب؟
الأميركيون أدركوا ومن زمن بعيد أن بوتين لا يخضع لإدارة الخطوط الحمراء، وربما عرفوا عن قرب أن نيته تتجه باتجاه واحد، وهو مواجهة النظام العالمي برمته والإطاحة به. كان ذلك مرئياً لهم. كانت تجمعات كبرى تبنى في مواجهة امبراطورية هذا العالم، تجمعات تتمتع بكتلة سكانية هائلة واقتصاد ينمو بخوارزمية مذهلة. كانت كل المؤشرات تشير إلى قرب انتقال تمركز الثروة من دول الشمال إلى دول الجنوب (مؤشرات العام 2020 تشير إلى قرب اضمحلال نفوذ الشمال لصالح دول الجنوب). كان الانتاج الإجمالي لدول الجنوب الكبرى (الصين، الهند، المكسيك، الأرجنتين، اندونيسيا، روسيا، إيران، جنوب أفريقيا، ماليزيا، تركيا فيتنام والبرازيل) يتجاوز 76 تريليون دولار، والناتج الإجمالي لدول الشمال الأوروبية برمتها والولايات المتحدة توقفت عند حاجز 52 تريليون دولار. صحيح أن الكتلة السكانية الهائلة في دول الجنوب تلعب دوراً حاسماً، لكن ليس لهذا التحدي ما يمكن أن يواجهه في الشمال.
أميركا المرتطمة بجدار الحقائق الجديد، كانت تميل إلى الإطاحة بالنواه المركزية لما يمكن أن يكون تحالفاً ناشئاً، الصين وروسيا، يقود ويلحق بقية الدول الكبرى في الجنوب بها، ومن جانب آخر كان هناك طرفاً آخر يرى الحقائق الجديدة التي بدأت تتبلور، وكان الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من افغانستان اشارة لا تحتاج إلى كرة كريستالية لقراءة مستقبلها. كانت أميركا منهكة وتعبة. كانت منهكه بديونها في داخلها ومنهكة للعلاقات المرة التي نسجتها مع العالم في خارجها.
في الميتولوجيا الإغريقية يتجمع أنصاف الآلهة التيتان لطرد زيوس من عرشه في قمة جبل الاوليمب، ينجح التيتان في ذلك، لكن العالم غاص في الفوضى والتيه والضياع لقرون بعدها.
ما حدث في أوكرانيا هو تمرد مسلح بكل معنى الكلمة يقوده بوتين، يشبه مثيله في التمرد على السفينة بونتي التي كانت تبحر في صيف 1787من بريطانيا إلى تاهيتي. أطاح الرجل الثاني في السفينة الليوتانت فليتشر كريستيان بمعونة بحارة السفينة بالضابط الأول ويليام بلاي الذي كان يمثل كل ما هو فظ ومستبد وقاس ولا يرحم وأعوانه معه. سيطر فليتشر على السفينة وقادها إلى إحدى جزر الكاريبي وهناك تركها.
السفينة بونتي هي النظام العالمي القائم الذي سيستولي قادة العصيان المسلح الجديد عليه بمعاونة دول الظل في ذلك التحالف اللا مرئي لدول الجنوب في مواجهه دول الشمال.
لكن السؤال الأكبر: هل سيتخلى هؤلاء عنها كما فعل كريستيان فليتشر أو يبنون عالماً جديداً يكونوا هم أنفسهم سادته، وربما طغاته الجدد وربابنته؟