منذ كتابة ملحمة جلجامش والإنسان يسعى ويفكر بكل طاقته للحصول على الخلود، ذلك لأن الخوف من الموت والنهاية الحتمية هو أعظم دافع لدى الإنسان ليتطور ويكتشف ويخترع.
لكن على مر الزمن وبتطور الحضارة تحول هذا الهدف من الحصول على الخلود للإنسان نفسه كفرد، إلى الحصول على الخلود للإنسانية ككل، فالحفاظ على النوع (species) بحد ذاته يعني بشكل ما الوصول إلى الخلود.
وفي هذا السياق فإن إحدى أهم محطات السعي للخلود في تاريخ الإنسانية وقعت في العشرين من تموز من العام 1969 حيث تهدمت حدود المعرفة القديمة الى الابد، فقد لمست أقدام الإنسان القمر في أعظم إنجاز للبشرية من بعد اختراع الأبجدية.
إذ قبل اختراع الابجدية كان الإنسان العاقل (homo sapien) محدوداً بالزمن وغير قادر على مراكمة الخبرات، فمتوسط عمره 79 سنة يستطيع فيها جمع ما أمكن من معلومات بهدف التطور ثم يموت ليعيد الجيل اللاحق نفس العملية من الصفر.
هذا بالإضافة إلى محدودية الكم، إذ أنه كان يجمع المعلومات وحيداً كفرد. ولكن بإختراع الأبجدية أصبح جمع المعلومات فعلاً تراكمياً ملك المجتمع بحد ذاته، و أصبحت المعلومات تنتقل من فرد إلى فرد أفقيا في نفس الفترة الزمنية وعامودياً عبر الزمن، وبهذا تغلب الإنسان بواسطة الأبجدية على الزمن نفسه.
ولكن برغم ذلك ومهما بلغ الإنسان من قوة ومعرفة وإمكانيات إلا أنه بقي محدوداً بالمكان، أي بإمكانيات ومقدرات وموارد هذا الجسم الفضائي الذي نسميه الكرة الارضية. إذ أن مصيرنا كإنسانية مرتبط بمصير هذا الكوكب، فلا حياة بدونه وكل الآفاق محصورة في حدوده، فالأرض عملياً هي حد المكان الذي صارعناه طويلاً حتى تجاوزناه في عام 1969 بالهبوط على جسم فضائي آخر.
يقول الراحل ستيفين هوكينغ أحد أعظم العقول في زماننا: “على الإنسانية أن تسرع وتستوطن كوكب آخر في المائة عام القادمة وإلا فإنها ستواجه خطر الإنقراض”
فإن أصبحنا كنوع بشري نوعاً متعدد الكواكب (multiplanetary species) (أي أن نستوطن عدة كواكب أخرى) سيتدنى إحتمال الإنقراض إلى ما يقارب الصفر وهذا بحد ذاته هو الخلود للإنسانية.
فالوعي البشري لم يجد حلاً لخلوده إلا بغزو الفضاء والإنتشار عبر الكواكب للتقليل من إحتمالية وقوع حدث إنقراضي في المستقبل يكاد يكون حتمياً على كوكب الأرض مهما بعد زمن حدوثه.
إن الوصول إلى الفضاء من قبل الإتحاد السوفيتي ثم إلى القمر من قبل الولايات المتحدة هو أعظم ناتج للحرب الباردة، لا بل أنه أعظم ناتج لكل حروب التاريخ. حيث أنه وفي عام 1969 وبعد هبوطنا على القمر كان العلماء يعتقدون أننا وبحلول 1980 سنكون قد استوطنا المريخ، ولكن هذا لم يحدث، لا بل بعد رحلات Apollo أبولو لم نعد للقمر أبداً، فما الذي حدث؟ أهي ضعف إمكانيات التكنولوجيا في ذاك العصر؟ أم ضعف الموارد الاقتصادية؟ أم عدم وجود قيادة تقودنا؟ أم كل الأسباب مجتمعة؟
لحسن حظ البشرية أنه وفي كل زمان ياتي إليها أفراد متبصرون رؤيويون visionaries يستطيعون بوعيهم شمل جوانب الحياة فتكون لديهم القدرة لحل مشكلاتها ودفعها للأمام.
اذ أن أغلبنا لديه الإمكانيات لتتسع دائرة وعيه فتحيط بعائلته وأصدقائه، ومنا من يتسع وعيه ليغطي كامل مجتمعه أو مدينته أو دولته، وقلة منا تستطيع أن تغطي بوعيها العالم بأسره، إلا أن وعينا يبقى مقيداً بالزمان والصنف أي أننا نستطيع أن نقرأ الحاضر والماضي فحسب، ووعينا يغطي صنفنا البشري فقط، إلا انه في عالمنا أشخاص متنورين يستطيعون أن يعبروا بوعيهم كل الأزمنة والأنواع مثل إيلون موسك، فعلى سبيل المثال يقول إيلون موسك حول جعل الصنف البشري متعدد الكواكب: “إذا نظرنا إلى الأمور عبر مقياس كبير جداً من الزمن فإن الأمور الهامة جداً تظهر لنا والأمور أقل أهمية تمحى. وإذا نظرنا إلى الأمور عبر أكبر مقياس ممكن للزمن بما يعني الحياة نفسها، فإن تطور الحياة قد بدأ بالحياة البدائية منذ حوالي 3.5 مليار سنة وبعدها وقعت الأحداث المهمة لتطور الحياة، كتطور كائنات الخلية الواحدة ثم تطور الحيوانات والنباتات وتحول الحياة من المياه إلى الأرض ثم ظهور الثدييات وأخيراً ظهور الوعي . وبالنتيجة يمكننا وعلى نفس هذا المقياس أن نضع حدث تحول الحياة إلى حياة متعددة الكواكب . فللحقيقة إنها الخطوة الطبيعية اللاحقة إذ أنه من الضروري أن يظهر الوعي ليصنع المركبات لتنقل الحياة من كوكب الى كوكب وتتمكن هذه الحياة من البقاء والاستمرار في كوكب لم يكن مهيئاً لتوجد فيه أساساً“
لكن لماذا توقفنا بعد مهمات أبولو من غزو الفضاء؟ في الواقع إن العقبة كانت في الكلفة المالية، إذ أن الهدف ليس فقط إيصال عدد معين من الأشخاص إلى القمر أو المريخ بل إيصال عدد كبير يكفي لبناء نواة لحضارة جديدة على ذلك الكوكب.
في العام 2016 لم تكن هناك إمكانية لإيصال أي شخص إلى المريخ حتى لو توافرت كمية لا نهائية من المال، لكن بتطوير الإمكانيات والتكنولوجيا التقليدية (أي بتطوير تكنولوجيا مهمات أبولو) تصبح كلفة إيصال شخص واحد للمريخ 8 مليار دولار.
أما في الحقيقة فإن المطلوب هو أن تكون كلفة إيصال الشخص للمريخ ككلفة شراء منزل حتى يقوم بهذه القفزة أكبر عدد من الاشخاص.
فالحل لهذه المعضلة هي إعادة الاستخدام reusability، ولفهم هذه المعضلة يجب علينا أن نعود قليلاً في التاريخ إلى ستينيات القرن الماضي حيث التنافس على أشده بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي للوصول إلى القمر. حينها كانت كل المؤشرات تدل على أن الإتحاد السوفيتي سيكون السّباق في الوصول الى القمر فقد كان يوري غاغارين أول رجل يصل إلى الفضاء في عام 1961، وفي نفس الوقت كان برنامج الفضاء الأميركي يعاني الكثير من التعثر.
لكن في الحقيقة كان لدى الولايات المتحدة واحد من أهم العقول الهندسية في ذلك الزمان وهو النابغة الألماني وارن فان بروان، وبجانبه فريقه المكون من المئات من العلماء الألمان الذين جلبتهم الولايات المتحدة من ألمانيا الى أراضيها في عام 1946 بعد الحرب العالمية لتستفيد من خبراتهم التي اكتسبوها في ألمانيا النازية في بناء الصواريخ. فقد قام فان براون بتصميم الصاروخ ساتورن خمسة Saturn V والذي يعد إلى يومنا هذا أكبر وأضخم وأطول آلة طائرة تم بناؤها في التاريخ ومن أهم الإنجازات الهندسية عبر العصور.
قام فان براون بتصميم هذا الصاروخ لإرضاء حكومة الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك بهدف ربح السباق نحو القمر، إلا أن فان براون لم يكن يعطي أهمية للقمر، فكان يعتبره محطة لا غير، أما الهدف الأساسي هو الوصول للمريخ، لذلك صمم صاورخ ساتورن خمسة القادر بقوته الوصول للمريخ وليس للقمر فقط واستخدمه في مهمات أبولو لتجربته وزيادة فعاليته.
إلا أن المشكلة التي وقع فيها كل من فان براون والولايات المتحدة هي التكلفة الباهظة لكل عملية إطلاق فكل عملية كانت تكلف 185 مليون دولار في ذلك الزمان أي ما يعادل 1.23 مليار دولار في 2020.
هذه التكلفة الباهظة تأتي من كون الصاورخ لا يمكن استخدامه إلا مرة واحدة، أي أن في كل إطلاق يقوم الصاورخ بإيصال الحمولة إلى المدار الفضائي ثم يسقط في قعر المحيط الهادئ ويتكسر. هذا الأمر جعل من الاستمرار بمهمات أبولو شبه مستحيل، وقضى كلياً على إمكانية وصول االإنسان المتكرر إلى كواكب أخرى.
فلنتخيل لو أنه في كل سفرة نقوم بها بالطائرة من مدينة إلى مدينة نقوم بإتلاف الطائرة بعد أول رحلة وقد كلف صنع هذه الطائرة ملايين الدولارات، أو عندما تقوم سفينة برحلة من ميناء إلى ميناء نقوم بتدمير السفينة. لو أن هذا هو الواقع لما قام الإنسان باكتشاف الأمريكيتين واستوطنهما ولكان بقي العالم القديم هو كل ما نعلم.
ان أساس السفر والاستيطان هو إعادة استخدام المركبات التي أوصلتنا الى وجهتنا ولهذا قام ايلون موسك في العام 2000 بانشاء شركته SpaceX والتي كان هدفها الوحيد هو بناء صاروخ قابل لإعادة الاستخدام.
لقد تحدى إيلون موسك العالم بأسره بهذه الشركة، فقد كانت صناعة الفضاء حكراً على الحكومات والدول، فكيف ستقوم شركة حديثة خاصة بامكانيات محدودة بانجاز ما عجزت عنه الولايات المتحدة عبر عقود.؟!
بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة وفي عام 2015 تحقق أول نجاح للشركة لهبوط صاروخ دافع على الأرض بعد الوصول إلى المدار الفضائي في أعظم إنجاز لتكنولوجيا الصواريخ في العصر الحديث.
وفي 2019 كان أول هبوط لصاروخين في آن معاَ على الأرض بعد إيصال حمولة ثقيلة إلى الفضاء (وهي سيارة تسلا TESLAعلى متنها دمية إنسان وكتب عليها “صنع على الأرض من قبل البشر” وستبقى السيارة عائمة في الفضاء الى الأبد).
وفي 2020 كان أول هبوط لصاروخ مُعاد استخدامه للمرة الخامسة بعد إيصال رواد فضاء إلى محطة الفضاء الدولية .
إن تواتر الإنجازات في هذا المجال إنما يدل على أن المخطط لاستيطان الكواكب الأخرى سيتحقق، فالخطة موضوعة للعودة الى القمر في 2022 باستخدام المركبة starship والصاروخ super heavy والذي سيكون حينها أضخم صاروخ بُني في التاريخ وستتجاوز قوة دفعه ضعف قوة دفع صاروخ ساتورن خمسة.
وفي عام 2024 ستكون هناك أول مهمة فضائية لإيصال الإنسان إلى المريخ في رحلة ستدوم تسع أشهر والتي ستكون بداية لبناء مستعمرة صغيرة على المريخ .
على المقلب الآخر يقوم أحد الروئيويين الآخرين المتمول الكبير جيف بيزوس (أغنى رجل في العالم) ببناء صواريخ قابلة لإعادة الاستخدام، فقد أسس لهذه الغاية شركته blue origin وهدفها الأول هو إنشاء سياحة فضائية حيث تقوم هذه الشركة ببناء صواريخ ستقوم بإيصال الركاب إلى المدار الفضائي في رحلة سياحية تدوم نصف ساعة بتكلفة بطاقة سفر تصل إلى 300 ألف دولار.
إلا أن هذه مرحلة أولى فقط، فالمرحلة الثانية في نظر بيزوس هي بناء مستوطنات عائمة لاستعمار الفضاء وليس الكواكب، فهذه المستطونات ستطفو في الفضاء بمساحات هائلة تصل إلى مساحات مدن وبلاد كاملة وتقوم بالدوران حول محور لتولد جاذبية إصطناعية كما تقوم بانتزاع المواد الأولية من الكواكب المحيطة ويكون فيها الطقس معتدلاً دائماً بدون أمطار أو رياح، فنتخيل كيف ستكون العمارة ونمط الحياة إذا نزعنا من المنازل المهمة الأساسية لها وهي الحماية من الجو ونزعنا من نمط الحياة المهمة الأساسية فيه وهي تأمين الموارد الحياتية.
لعل هذا الكلام يبدو كأنه مشهد من فيلم خيال علمي لكنه لن يكون خيالاً عندما تقوم الإنسانية في العشر سنين القادمة ببناء البنية التحتية اللازمة لتسهيل الوصول إلى الفضاء، فقد يصبح الوصول إلى الفضاء أمراً يوازي بسهولته سهولة ركوب طائرة وعبور المحيط.
هناك أيضاً شركة Virgin Galactic لصاحبها المليونير ريتشارد برانسن والذي يهدف إلى جعل الرحلة إلى الفضاء القريب بسهولة الركوب في قارب للنزهة لمدة ساعة من الزمن حيث يختبر المسافرون روعة منظر الأرض والجاذبية الصفرية لعدة دقائق ثم يعودون للهبوط في أي مطار حيث لا تحتاج هذه التكنولوجيا لمنصات إطلاق أو مطارات خاصة.
هذا التنتافس أصبح يسمى في قطاعات صناعة الفضاء “سباق المليونريين إلى الفضاء” Billionaires space race
إن دخول القطاع الخاص خط التنافس على الفضاء والكواكب وابتكار وصفات رخيصة مادياً للوصل اليها حدث يوازي في أهميته اختراع الترانزستور في علوم التكنولوجيا حيث أن سرعة التطور بعد هذا الحدث ستتزايد بشكل أسي كل عام، وبحلول عام 2035 سيكون الفضاء والكواكب جزءاً من حياتنا اليومية حيث يمكن أن تجد نفسك تودع صديقك أو فرداً من أفراد عائلتك الذاهب في رحلة سياحية إلى القمر أو المريخ لعدة أسابيع أو أشهر، وقد تجد نفسك تتصفح الانترنت للحصول على أفضل بطاقة سفر للمريخ لقضاء عطلة الصيف.
في عام 2024 ستكون المهمة المفصلية متمثلة في وصول أول إنسان إلى المريخ وزرعه نواة حياة جديدة على الكوكب الأحمر وهذه المهمة ستكون حادثة مفصلية في تاريخ الحياة نفسها، إذ وعلى حد علمنا، في كامل مجرتنا لاتوجد أي حياة استطاعت التغلب على جبروت حتمية الكواكب إلا الحياة البشرية وبهذا الإنجاز يكون الوعي البشري قد نال هدفه الأزلي في الحصول على الخلود.
فهل نعتبر أنفسنا حينها الإصدار الثاني والنسخة المحدثة على الصنف البشري وهل يكون هذا الحدث بداية التطور من الهوموسابينز(homo sapiens) إلى صنف آخر جديد من الهومينينز (hominins).
فيديوهات متعلقة بالموضوع: