أهدتني الصديقة تغريد قطريب نسخة من آخر مجموعاتها القصصية القصيرة “برغل ناعم”.
استوقفني عنوان المجموعة ولم أجد له تفسيراً إلا عندما قرأتها بتفاصيلها، لعلها أرادت أن تصوّر مسيرة القمح منذ زراعته حتى استحالته للبرغل مادة العيش البسيطة والأساسية، مروراً بالحصاد وبيادره الشاسعة الصفراء، وعملية “السلق” وما يرافقها من طقوس وأجواء تبعث على الغبطة، انتهاءً بالغربال. مسيرة يعرفها جيداً سكان قرانا شرق المتوسط. ربما أرادت مباشرة عبر كلمتين اثنتين فقط إثارة ذاكرتنا، وما أحوجنا اليوم إلى ذلك، في وقت نَدُر فيه الخبز والبرغل وصَعُب اقتناؤهما…!!
تهدي تغريد قطريب عملها إلى روح أبيها ومعلمها الأول، هذا الأب الحاضر في جميع قصصها دون استثناء، مرات كثيرة نراه معها ولها، ها هو يقلب الحنطة كأسد بعصاه الطويلة في الحلة السوداء، مرات يجالسها تحت النجوم الساطعة في صيف “المزينة” يأكل معها البطاطا المقلية الساخنة مع السردين المغمور بحمض الرمان طبق أبيها الشهيّ، يسمع معها أم كلثوم كشاعر رومانسي، هو الحنون يسهر على نومها تحت السماء العارية لا يجرؤ ولا يحب إيقاظها، وعندما تهرب من أجواء الحرب الأخيرة ترتمي في حضنه عائدة من مدرستها في 3 نيسان 1989 في سرد أخّاذ اختطفت فيه الزمان إلى الوراء، تتعلق “تغريد” بخنصر أبيها فتشعر بالدفء والأمان في طريق السهرة المظلم الوعر، عندما يعودان من سهرتهما تغفو “تغريد” في حضنه وهو يحملها بين يديه نائمة، فتُشعرها يداه برائحة سنابل القمح تحت سماءٍ نجومها لا تحصى.
عندما لا تتحدث عنه، يعود ذلك الأب كظلها يحرس خطواتها وهي تجمع مع صديقاتها “زهر الزهور”، أو لكَ أن تتخيل أنه يشتري لها البسكويت المغطس بالشوكولا عند الياس “فرويتا”، أو قد يشرب معها شراب الورد صنعته أمها…
تمتلئ قرانا بالحكايا والقصص والأحاديث والخرافات يعرفها جميع من عاش بعضاً من حياته، ويدرك كمّها الهائل وكم تشيع بين قاطنيها..
يسرد نيقولاي جوجول في “أمسيات قرب قرية ديكانكا” في قالب من الكوميديا السوداء حكايا وقصصاً لا يجمع بينها سوى وقوعها في قرية “ديكانكا” في الريف الأوكراني، تشكّل مرايا مختلفة لما يتداوله أهل القرى هناك من خرافات، سينتبه القارئ حتماً أنّ كثيراً من المشاهد تنتشر في كثير من قرى العالم فيتأكد أنّ الطبيعة الإنسانية تتشابه أينما حلّ الإنسان وعاش.
بعيداً جداً عن المقارنة، بل هو النقيض تماماً، تروي تغريد قطريب حكايا ريفية بسيطة عميقة المغزى، لا يجمع بينها سوى وقوعها في مكان واحد هو قريتها “المزينة”، أبطالها أشخاص حقيقون قد يعرفهم بعضنا، تجري الأحداث في بيوتات وطرقات نعرفها وقد سار بعضنا عليها، أحاديثها بعيدة كل البعد عن جو الخرافات والأساطير، في أسلوب سردي سلس مكثّف شيّق. يتكلم أبطالها بلغة القصص وبلغة الكلام العادي الدارج تظهره الكاتبة دون خوف أو حساب، فتجعلنا نلتصق أكثر بالواقعة، ها نحن ننفخ “أوووف” في وجه الهواء الشرقي في ساحة “المزينة” التي تغيرت كثيراً، أو نذهب معها لنأكل “صحن سليقة” وقد نسرق النظر إليها والسمع وهي تدعو حبيبها لتناول “صحن سليقة بسكر”، وقد نثني عليها هي الشجاعة تعبر (زاموقة أيوب – تركي) المخيفة، وقد نعتب عليها قليلاً عندما تتواطأ مع إيفا ضد رولا عندما يدبران مكيدة رمي “فردة الشحاطة البلاستيكية” في نهر “الناصرية”…
بارعة جداً “تغريد قطريب” في إنهاء قصصها الوجدانية، تقفلها بـ”صدمة عاطفية” تهز القلب والوجدان، تعيدك مباشرة إلى ذلك الزمان الجميل الذي عشناه جميعاً بحنان لا نهاية له، ربما تدعونا بذلك للهرب إلى ذلك الماضي الجميل بكل تفاصيله، هروب يعوضنا قليلاً عن هذا الحاضر الموحش الفقير البالي الذي لا نهاية له…
في خطف للزمان، شتاء عام 2021، على مدى عدة ليالٍ متتالية، سمع أهالي “المزينة”، أحاديث وروايات بصوت عالٍ وقهقهات يتخللها الصمت أحياناً، تدور بين تغريد قطريب وعجوز أوكراني رثّ اللحية متقد العينين يعرّف عن نفسه نيقولاي جوجول، يتسامران سوياً حول نار الحطب ينسيهما لفحات البرد على تخوم “المزينة”… فيما بعيداً أمسيات ديكانكا التي تتحلّق حول حكايات جوجول، منذ أقل من قرنين، بدأت للتو برواية حكايا: برغل ناعم.