جماليات

اليوميّات الأخيرة لحروب الوردتين

[قد تكون أحداث هذه القصة، أو ما يشبهها، قد وقعت منذ ألفي عام أو أكثر، أو منذ ألف عام. بل وقد تكون تكررت بنسخٍ متعددة، وصولاً إلى المائة سنة الأخيرة والتي نحن في سنتها الأخيرة. تشابه الشخصيّات، هنا، ناتج، من دوران الحدث مع الزمن، وليس لسبب يحيل إلى خيار شخصيات بعينها من تاريخ معيّن.

القصّة هذه تحديداً، قد تكون (نموذجاً جاهزاً) يمتلكه القارئ، بمجرد قراءته ويضعه في المكان والزمان الذي يرغبه أو يراه مناسباً، ولكن نفضل أن يكون في المائة سنة الأخيرة. بهذا المعنى القارئ يشارك الكاتب في صياغة القصة بنسختها الأخيرة]

الفصل الاول

فتح هانيبعل باركا عينيه المتعبتين والمنهكتين متأملاً العقارب الفوسفورية لساعته الجوفيال التي كانت تشير إلى الثانية وسبع وثلاثين دقيقه بالضبط، بعد منتصف الليل. لم يستطع أن ينام من ثمان وأربعين ساعة، ويبدو أنه سيتبعها بنهار وليل آخر بدون نوم. كانت الانوار الخفيضة المنبعثة من مصباح نفطي بجوار فراشه تترك أشباحاً متراقصه على جدار الخيمة المصنوعة من الكتان السميك. أشباحٌ لا يستطيع معرفة هويتها، إلاَّ أنّها موجودة هناك مترافقة مع الإنارة الكئيبة لخيمته. أحسَّ بالهواء الثقيل يضغط على رئتيه، مع بعض الدوار الخفيف. تناول كانتين الماء المعلّقة على طرف سريره الحديدي، وتجرّع رشفة منها. لم يكن عطشاً إنما أحسَّ برغبة لا تقاوم بأخذ رشفة منها.

 شيء ما يربطه بالحياة. تأمّل السيور الجلدية السميكة لكانتينه، ولاحظ بسهولة تلك الأحرف المحفورة بشكل يدوي على النصف الأسفل المعدني للكانتين. كانت العبارة المحفورة وغير القابلة للمحو: من ممتلكات الجيش الوطني القرطاجي. أعاد هانيبعل إغلاق كانتينه وتعليقها في قائم السرير، ثم تناول مرآة موضوعة إلى جانب السرير. تأمّل وجهه وهمهم، كمن يحادث نفسه، قائلاً: حسناً يبدو لي أنَّه يجب أن أعترف أنني لم أعد قادراً على الاختباء أكثر من كل هذا الوقت الذي مضى، ما أحسّ به أنني لست أكثر من أكون حارساً لبوابات الجحيم.

وتذكّر فجأة كل تلك القصة التي روتها له أمه عن الاسطورة الاغريقية، والوحش كيربيسوس ابن تايفون وايكدنا، الذي يملك هيئة كلب عملاق بثلاثة رؤوس وتكسو جسمه الثعابين، والذي يحرس بوابات الجحيم ويمنع الموتى من التسلل للخارج.

هو هنا يحاصر مدينه بارسو فانيا، ويمنع خروج أي مواطن منها. من هذه العاصمة القوية للإمبراطورية التي تحمل اسماً غريباً وطويلاً. عرَّاب ملائكة الموت، ولما لا ؟ هذا الاسم يبدو لائقاً  بها أكثر من أي اسم اخر. لقد نشرت هذه الإمبراطورية الموت والدمار على مدى القرنين الماضيين على امتداد قارتين أو ربما أكثر، ولم تتوقف عن هواياتها الحربية إلاَّ بعد أن أصبحت عاصمتها ذاتها تحت هذا الحصار المحكم.

نظر هانيبعل لمرة أخيرة في مرآته، ثم أعادها إلى مكانها. بحركة عسكريّة معتاد عليها، قام بربط حذائه العسكري الذي يبدو شريطه ملتوٍ ومتشابك كمتاهة. تحامل على نفسه وسار إلى باب الخيمة غير المعقود. فتحه قليلاً فارتطم أعلى جبينه ببقايا الفتحة، التي لم يتم توضيبها بإحكام. شعر ببعض الألم الخفيف الذي لم يمنعه من السير إلى الخارج ليتأمّل تلك النجوم المتزاحمة التي لم تترك أي فسحة أو مكان لنجمة أخرى، في تلك الليلة الربيعية الصافية من أواخر نيسان.

كانت الأمطار قد عصفت بأرض المعسكر طيلة الأيام الثلاث الماضية، وتركته كتلة من الأطيان والمستنقعات المؤقتة، وكان الضباب الخفيف يغطّي أعالي التلال المجاورة، فيما أصوات الجنادب تصدر كدوي يجتاح الوديان والتلال المجاورة، فيبدو كتجلٍ أبدي للطبيعة.

عالق في المكان، هذا ما خمّنه وهو يتأمل آلاف الخيام الموزعة، وفق أنساق حربية، على أطراف التلال المجاورة، ومئات العربات المدرعة والدبابات التي نفذ وقودها أو قارب على النفاذ وغدت شبه معطلة وهي تتموضع في مواقع مُموهه بعناية بغصون الأشجار والشباك العسكرية المطليّة بألوان تحاكي البيئة التي هي فيها. في الواقع، لم يكن يحتاج لكل هذا الجهد لإخفاء أسلحته وعتاده الثقيل، لأنَّ سلاح طيران عدوه قد تم إخراجه من الخدمة منذ زمن بعيد، وهو يحاصر الآن عاصمته بارسو فانيا، المحاطة بأسوار عالية وكأنها مخلصة لتلك التقاليد العمرانية ذات الوظيفة العسكرية لمدن العصور الوسطى. تأمّل من أعلى التل الذي يحاذي خيمته الطريق الوحيد الصالح والذي يؤدي إلى المدخل الرئيسي لبارسو فانيا، وتأكّد أنه لن يتمكن من تغيير الوضع الميداني، وجيشه يعاني من نقص هائل بالذخائر والمؤن والوقود، فيما حكومة مملكته ترفض تزويده بأية إمدادات إضافيّة أخرى، فهي تعاني من أزمة اقتصادية مزمنة وعجز في موازنتها العامة، وتتذرع بأنَّ كلفه هذه الحرب الطويلة قد أرهقتها.

في صباح هذا اليوم، كان قد أخبره أحد أعضاء مجلس الشيوخ عبر الهاتف، أنَّ المجلس سوف يعقد جلسة طارئة ليتدارس فيها وضع الجيش وليأخذ قراراً نهائياً بصدد استمرار حصار بارسو فانيا أو سحب الجيش ووضع حد للحملة برمتها.

رفع هانيبعل عينيه باتجاه أشعة الشمس الطازجة التي أحسّ أنّها تجتاح عالمه الآن، فتحرّكت جفونه بسرعة مرفرفة لاتقاء حدة النور ووضوحه، وربما تهرباً من بريقه، ولكنه تمتم وهو يفرك عينيه الدامعتين: لا بأس… ربما، من يدري؟

كان يفكر بأنبل رجال قرطاجة، صديقه وحليفه الجنرال هاسدروبال، العضو العريق والمؤثّر وصاحب الهيبة القويّة، في مجلس الشيوخ القرطاجي. حادث نفسه وكأنه يصدر أمراً: (هذا آخر ما في جعبتي من رصاصات، وقد يكون الرصاصة الأخيرة، التي يجب أن تصيب هدفها، فإن لم يتمكن هاسدروبال من كسب تأييد مجلس الشيوخ لاستمرار حصار بارسو فانيا ودعم الحملة بالمؤن والذخيرة والعتاد، فسوف يضيع كل شيء!  المعادلة الآن، هي هاسدروبال في مواجهة الداهية هانو معارض هذه الحملة وعدو هذه الحرب، وعدوي بشكل شخصي).

الفصل الثاني

جلس هانو خلف مكتبه الأبنوسي الأسود الوثير، متكئاً بكلتا مرفقيه على مسندي مقعده المرّصّعة بالعاج كشقيقته الكبرى، لقد اشترى هذا المكتب الذي يعتبر تحفة مميزة من أحد المزادات العلنية التي تجري عادة في أحد أشهر مراكز المزادات في العاصمة. كان الثمن المدفوع في هذا المكتب خيالياً ليصبح حديث صحف المساء في ذلك اليوم وصحف اليوم التالي. كانت النقوش اليدوية التي تزين جوانب المكتب تعبّر بشكل واضح عن رحلة التيه ليوليسيس بعد سقوط طروادة، والتي ضلّ فيها الطريق إلى مملكته ايتيكا. صورت النقوش فصول حربه ضد السايكلوبوس، وعرائس البحر ومشاهد من حربه ضد الامراء، وقوسه الذي لا يستطيع أيّ أحد غيره، أن يشدّ وتره. كل هذا كان واضحاً في تلك النقوش التي تمر عليها أصابع هانو وكأنها تتفحصها أو تتأكد من وجود جزء خاص فيها. رفع هانو يده عن مسند مقعده وغمس سبابته ووسطاه في كأس نبيذه المفضّل الموجود أمامه، ثم رفعها ببطء إلى أنفه، تشممها لثوانٍ معدودة، ثم دسّها في فمه وتذوقها بتفاخر وهو يغمغم وكأنه اكتشف سراً:

هو هذا تماماً، لا يستطيع أن يشد وتر قوس يوليسيس إلاَّ يوليسيس. حسناً، لن يستطيع أحد أن يقهر هانيبعل إلاّ هانو. هانيبال هو وتر قوسي، ولن يكون قوساً وقرطاجة وتره!

رفع هانو عينيه وهو يتأمّل تلك القطع الوثيرة، التي أحضرها معه إلى مكتبه الذي يقع في بناء مركز مجلس الشيوخ. في الواقع كان قد اشتراها بماله الخاص، وأحضرها معه لتزيّن مكتبه بعد انتخابه ممثلاً عن الشعب الى مجلس الشيوخ. كان هناك رأس أسد معلق على الجدار أحضره معه بعد إحدى رحلات صيد السفاري في كينيا. تذكر أنه منح مالاً للصيادين المحليين الذين يعرفون كيف يصطادوا أسداً ويحافظوا على رأسه دون تشويه.  عاد هانو ليحادث نفسه بثقة (كل شيء في هذا العالم هو فريسه للصيد، وهانيبعل نفسه سيكون فريستي في جلسة اليوم. لقد دفعت المال اللازم للصيادين من أعضاء مجلس الشيوخ. آن لرحلته أن تنتهي).

 وبتمّهّل واضح، جمع هانو أوراقه ووثائقه ووضبها في حقيبة جلدية صغيرة ذات أضلاع مسلحة يتم فتحها وإغلاقها برقم سريّ. سيعتمد على هذه الوثائق التي أعدّها فريقه في ما سيقوله في جلسة اليوم. هذا الملف تمت مراجعته بعناية ساعة بعد ساعة وعلى مدى يومين كاملين، حتى تمكّن من إنجاز خطبته التي تدّرب على إلقائها عشرات المرات أمام المرآة الكبيرة. خطبته التي يثق بأنها تتضمن ما يكفي من أسباب كي ينال الأغلبية في مجلس الشيوع وينتزع قراراً نهائياً بوضع حد للحملة العسكرية التي يقودها هانيبعل والتي توقفت أمام أسوار بارسو فانيا المحاصرة.

وقف أمام نافذة مكتبه الواقعة في الطوابق العليا لمبنى مجلس الشيوخ، والذي بدوره يقع فوق أعلى هضاب المدينة، وأخذ يتنقل بنظره ما بين جهاتها، ثم يرمق حقيبته الجلدية المشّفرة، ويسند يده اليمنى على حافة النافذة ويتمتم بغبطة لم يتعمّد إخفاءها:

نهار رائع، شمس مشرقة، وأخبار جيدة. ماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟

كانت الاخبار الجيدة التي يعنيها والتي تم تناقلها بسرعة في ذلك اليوم، بعد إيقاظه في الساعة الخامسة صباحاً، هي وفاه الجنرال هاسدروبال، على نحوٍ مفاجئ! الأسباب الأوليّة المعلنة للوفاة صحيّة، حيث أصدر الطبيب الشرعي تقريراً يشير إلى أن سبب الوفاة يعود لإصابة الجنرال بذبحة قلبية مفاجئة بعيد منتصف الليلة الفائتة، ويرجّح التقرير أن الاجهاد هو السبب الرئيسي، حيث يعمل الجنرال لساعات طويلة تصل إلى العشرين أحياناً.

رغم وضوح هذا التقرير والثقة بمرجعه إلاَّ أنَّ بعض الجهات المقرّبة من هاسدروبال، أبدت شكوكاً بدقته، ما أنتج مُناخاً غامضاً مليئاً بالريبة في سبب الوفاة المفاجئة وتوقيتها؟!

 عموماً اتجهت النوايا لتأجيل جلسة مجلس الشيوخ، وخصوصاً أن مأتماً رسميّاً سيقام للجنرال، إلاَّ أن اتصالات واسعة ومكثّفة جرت، ويقال أنها شملت بعض الدول الصديقة والمؤثرة، أدت إلى تأجيل المأتم حتى يوم الغد بحجة إفساح الفرصة لترتيبه على نحو لائق واستقبال الضيوف المشاركة فيه، وعقد جلسة مجلس الشيوخ المصيرية التي لا تحتمل التأجيل.

كان هانو يجري مكالمة هاتفية، عندما دخل مدير مكتبه ليلّح عليه بضرورة تأجيل اتصالاته، لأنَّ الجلسة تأخرت عن موعدها ثلاث ساعات، وأعضاء المجلس بدأوا يفكرون بترك القاعة.

بدا الضيق على مدير المكتب وهو يقول: سيدي نفذ الوقت!!

وضع هانو سماعة الهاتف في مكانها، وقام عن كرسيه بتثاقل واضح، وكان لابدّ له من أن يخرج متكئاً على مرفق أحد مساعديه. إنها آلام النقرس، لم يكن هذا موعدها لتفاجئه في ذروه مجده. سلم حقيبته إلى المساعد الاخر، لا لزوم لها الآن فمحتوياتها أصبحت في ذاكرته. كل ماهناك هو ان يستعيد ما حفظه وتدرب عليه أمام المرآة. كل عبارة سوف يذكرها سيكون لها إيماءة جسدية خاصة. بدا لوهلة متذمّراً من نفسه، أحسّ ولسبب ما أن ذاكرته تتآكل بسرعة وربما تتغير، فلم تعد ذاكرة ذلك التاجر العالمي الذي يحفظ شاشات البورصات من نيويورك إلى هونغ كونغ، ويلقن مساعديه أرقاماً معقدة دون أن ينظر إلى شاشة الكومبيوتر. ذاكرته الآن مكرسّة بطاقتها العظمى من أجل هذه المواجهة التي يبدو أنها أصبحت مضمونة النتائج بعد أخبار الصباح.

فضّل هانو أن يأخذ المصعد لأن ذلك يساعده في التركيز أكثر، لا يحتاج الآن إلى بذل مجهودات جسدية لا مبرر لها. معاونوه وحرّاسه يطوقونه كمحارة. هو الآن السلعة الأثمن والأغلى في قرطاجة.

خرج من مصعده واتجه إلى ممر جانبي، يؤدي إلى قاعة المجلس الفسيحة ذات الأبواب الثلاثة العملاقة. اختار هانو الباب المركزي، عبره ببطء وهناك وبمسحة سريعة بعينيه رأى أغلبية الأعضاء تقف وهي تصفق بحراره لقدومه. في تلك اللحظة شعر هانو وكأن (الهاً) جديداً ولد لينضم إلى آلهة معبد قرطاجة. الاحتفاء الصاخب وغير المسبوق بدخوله، منحه إحساساً بأنه لم يعد يمشي على الأرض، بل وكان هناك وسادة رقيقة من الهواء والفراغ تفصله عن الأرض، لم يعد يعرف هل هو إنسان يطير أم هو إله يمشي؟

في هذه اللحظة تماماً، أغمض هانو عينيه للحظة فرأى هانيبعل بعيداً في الماضي، ورأى فروعاً لشركاته في بارسو فانيا تفتح أبوابها.

الفصل الثالث

توقّفت عاصفة التصفيق، وبدأ هانو بصعود الدرج الخاص بالمنبر، مستغنيّاً عن الاتكاء على كتف معاونه، رغم أن ذلك سيزيد إحساسه بآلام النقرس، مفضّلاً التمسّك بـ (الدرابزون) الداعم للدرج لمساعدته في الوصول إلى منبر الخطابة. تناول جرعة من الماء من كأس موجود إلى جوار إبريق من الماء المثلج مخفي بعناية عن كاميرات المحطات التلفزيونيّة التي تغطي الحدث مباشرة مع حشد من الصحفيين والمصورين الموجودين في شرفة الصحافة المخصصة لهم. فرقع أصابعه بعجرفة مبالغ فيها وهو يتظاهر بأنه يقرأ من ورقة أمامه. كان رأسه منحنياً قليلا إلى الأمام على منصة المنبر وكان لاقط الصوت قريباً جداً من وجهه، فأزاحه قليلاً ونظر بعدم تركيز إلى وجوه أعضاء مجلس الشيوخ. لم يكن يرى شيئاً محدداً فيما كانت الكاميرات الكثيرة وآلات التصوير ومصابيح الإنارة الحادة تمنعه من رؤية الوجوه وتمييزها، فلم يعرف أين يوجد الموالون وأين يجلس المعارضون. مرت لحظة ارتياب خاطفة، انتهت مع عودة نظره إلى المنبر، وكأنه استغنى عن التأكد في من يوجد في هذه الجلسة، طالما أن العالم سيحضرها عبر النقل التلفزيوني، وينتظر منه أن يقول لهم ما إذا كانت قرطاجة سوف تجتاح عاصمه ثايا أو لا؟ تأكد في هذه اللحظة أنه مسؤول عن مستقبل هاتين الامبراطوريتين، وأن مستقبل السلام في العالم مرتبط بما سيقوله الآن.

بدا أعضاء المجلس وكأنهم يمثّلون في مسرحية إغريقية بعنوان (الديمقراطية)، بلى فقد وضع الأغلبية بجيبه، بتلك الأموال التي وزعها عليهم بلوائح خاصه بالرواتب وسرية لا يعلم عن تفاصيلها إلاَّ هو فقط. ومع موت هسدروبال تكون المعارضة في أضعف حالاتها، ويتجه للقبض على القرار في الإمبراطورية بشكل مطلق. كان يرى امبراطورية ثايا زبوناً استثنائياً وقرطاجة تاجراً عظيماً. هذه المعادلة تستوي إذا تم إجلاء القوات العسكرية من تحت أسوار بارسو فانيا.

تنحنح بصوت عالٍ، وابتدأ خطابه متوجهاً إلى أعضاء مجلس الشيوخ الذين أمام أي واحد منهم يوجد ذلك الرف الذي يتوضع عليه مكبر الصوت ويتسع لزجاجة ماء مع كأس وعلبة محارم بيضاء، إضافة لرزمة أوراق بيضاء مع أقلام خاصة مدموغة بشعار المجلس. في هذه الجلسة اليوم لاحظ الحاضرون وبغرابة وجود زجاجة نبيذ صغيرة مع كأس من صناعة يدوية تشتهر بها أسرة دمشقية افتتحت معاملها في قرطاجة منذ عشرين عاماً.

بصوت يصطنع التأثر قال هانو وهو يستند بكلتا يديه إلى المنبر(اليوم صباحاً، فقدنا قائداً كبيراً  ورائداً من رواد العمل العام وزميلاً في مجلسنا. من المؤسف أن أقول لكم أننا فقدنا زميلنا العزيز الجنرال هسدروبال الدي خذله قلبه الكبير وهو نائم. أطلب من الجميع رفع كأس النبيذ ولنشرب نخب راحلنا العزيز القائد هسدروبال الذي كان مفخرة الحروب القرطاجية.)

فهم أعضاء المجلس الآن، لماذا زجاجة النبيذ موجودة أمامهم، وبحركة تلقائية أفرغوها في الكأس الدمشقية، ووقفوا بحركة متماوجة، ورفعوا الكأس وشربوا نخب الراحل، وقبل أن يجلسوا اقترح عليهم هانو التصويت على اقتراحه بتغيير اسم الجادة التاسعة والعشرين، لتصبح باسم هسدروبال تكريماً له. كانت الموافقة بالإجماع طبعاً مع تصفيق استمر لدقائق توقف أخيراً بطلب من هانو الذي اقترب من لاقط الصوت قائلاً:

كان من المفترض أن نعلن عن تعليق أعمال هذه الجلسة، بسبب وفاة زميلنا العزيز القائد هسدروبال ،لكن العالم كله ينتظر منا اليوم ما سنتوصل إليه بشأن مصير نزاعنا مع دولة ثايا. أريد أن أطمئن العالم اليوم بأن نزاعنا هذا آن له أن ينتهي.(تصفيق). لقد خسرنا كثيراً في هذه الحرب، خسرنا أبناءنا، خسرنا معداتنا، خسرنا ثروتنا، واستنزفت هذه الحرب خزائننا. وكذلك وأكثر منه مع دولة ثايا. نملك القدرة الكاملة لتدمير ثايا واختراق أسوارها، لكننا لا نريد أن نفعل ذلك أبداً. نحن نحتاج ثايا كشريكة لنا، نحن وإياها القطبان اللذان يقودان هذا العالم من غربه إلى شرقه، وبدلاً من هذه الحروب بيننا مباشرة أو بالواسطة، فالأفضل أن نتشارك للحفاظ على السلام في هذا الكوكب الذي تحيط به المشكلات من مختلف الجهات.(تصفيق)

 توقف هانو لحظة ورفع نبرة صوته مواصلاً خطابه: ماذا ينفع قرطاجة من ثايا مدمرة؟

وماذا ينفع ثايا من دولة تسعى إلى تدميرها؟

توجه هانو بإشارة يده نحو الجهة الشمالية: أيها الثاويون، نحن نريد صداقتكم، نريد بناء علاقات ثقة بيننا تساعد في بناء جسور شراكة اقتصادية وتجارية وثقافية معكم، نحن لسنا من جماعة صدام الحضارات بل من تلاقيها فأدعوكم لقبول عرض صداقتنا وسوف تتوقف هذه الحرب عليكم اليوم قبل الغد. اقبلوا عرض صداقتنا وسوف نبدأ بإرسال معوناتنا لكم غدا. اقبلوا صداقتنا وسوف نسحب فوراً جيشنا من أراضيكم، ومن باب عاصمتكم التي يطوقها. ها نمد لكم يدنا وأتمنى ان لا تعيدوها فارغة. هذا ما يسمونه: سلام الشجعان. (تصفيق مع وقوف)

رفع هانو رأسه ونظر إلى أعضاء المجلس الذين كانوا يصفقون بعنف شديد وحماس تجاوز تخميناته، فيما رأى الأقلية المعارضة تخرج من القاعة مع خيال هانيبعل … لم يطرح الموقف للتصويت… التصفيق المتواصل كان تعبيراً عن الموافقة المطلقة. المحطات التلفزيونية تنقل مباشرة الحدث… انتشر المحللون على شاشاتها… خرج هانو من القاعة دون أن يتكئ على أحد من معاونيه، لا يبدو عليه أنه يعاني من آلام النقرس!!

الفصل الرابع

تناول هانيبعل لفافة التبغ التي لفها يدوياً ورفعها إلى شفتيه بعد أن عضّ ذؤابتها وبصقها جانباً ثم أشعلها بعود الثقاب الوحيد الجاف ربما، في علبه الثقاب المبللة من جراء المطر العنيف الذي ينهمر، وكأنه في يوم من أيام سفر الرؤيا! أشعل اللفافة وأخذ منها (مجّة) ونفخها فوق رأسه وهو يتحسس ذقنه غير الحليق بأطراف أصابعه. نهض واقفاً وهو يحاول ترتيب مظهره الذي أهمله منذ سماعه بوفاة صديقه هسدروبال. مشي بخطى مترددة نحو العمود الذي يتوسط الخيمة، وانتزع الصورة التي كانت مثبتة بمسمار في أعلاه، والتي ظلت في موضعها منذ سنتين تقريباً. كانت الصورة لزوجته وابنته. كان قد وضعها على ذلك العمود بعد أيام من وصول طلائع قواته المتقدمة إلى أسوار عاصمة ثايا. لقد كان زحفاً سريعاً لم يخسر أية معركة خلاله فيها. في طريقه نحو بارسو فانيا احتلت قواته عدة دول لإحكام عملية حصار العاصمة من الشمال، بعد أن قطع قوساً هائلاً من المسافات خاض فيها تلك المعارك الأسطورية التي انتصر فيها ودمّر ستة جيوش كاملة.

سمع خطوات سريعة تقترب من الخيمة، فتحت الستارة قليلاً ودلف إلى الداخل وجه أحبه كثيراً، هو من حرسه القديم الذين رافقوه في كل حروبه أو من تبقى منهم بعد أن دفن على الطريق من قتل منهم في طريقه للوصول إلى بارسو فانيا قبل سنتين من هذا اليوم الكئيب!

تأمل القسمات الفولاذية الصارمة والجميلة لصديقه القديم الجنرال تغلاتبال، بعد أن أدى هذا تحيته العسكرية، ليشير هانيبعل عليه بالجلوس في المكان الوحيد المتاح من طرف السرير المعدني، فيما يجلس هانيبعل على الكرسي الوحيد والقديم الباقي في خيمته مع مكتب لا تزال عليه الخرائط العسكرية وبعض أقلام الرصاص، وممحاة كبيرة لتصحيح الخطوط.

(أعرف، أعرف، لا داعي لقراءتها. يمكنك التنبؤ عن الاوامر القادمة بدون الحاجة للاستعانة بأية كرة كريستالية. كانت خسارتنا لهسدربال هي صفارات الانذار التي سمعتها بشكل مبكر وحتى قبل ان تعقد جلسة مجلس الشيوخ إيذانا بخسارتنا للأغلبية من أصوات المجلس) قال هانيبعل ذلك وكأنه يلقي خطبة وداع على نفسه، وتابع وهو ينظر ساهماً:

هل تعرف خطيئتي يا صديقي؟ خطيئتي يا صديقي أن هانو كان يقتفي الأثر خلفي دائماً ،كان يتبعني دائماً، وكنت أنا أنظر إلى الامام دائماً. لم يحدث مرة واحدة أن نظرت إلى الخلف. لو نظرت مرة واحدة فقط إلى الخلف لعرفت وفهمت، لكنني لم أنظر ولا مرة واحدة أبداً. لم أفهم أبداً لماذا كانت قرطاجة تتمنع بإمدادي بما أحتاجه من الامدادات التي كانت ورقه طلباتها تطول كل يوم لأنهم لم يكونوا يلبون إلاَّ ما يعادل ثلثها، لم افهمه أبداً! تصورت دائماً أنها تلك الإعاقات البيروقراطية لمتحذلقي المكاتب، ولم أعرف أو أخمّن إطلاقاً أن هانو كان وراءها؟ لقد كان دوماً هناك، جاهزاً لإعاقة كل خطة وكل خطوة، وأنا  تحوّلت إلى مستثمر في الغضب لا أكثر ولا أقل. لقد خسرت حربي عندما لم أحولها إلى قضية. لو حولتها إلى قضية لربحتها دون هذا العناء كله. لم أكن أبدو للعالم اكثر من محارب بدون قضيه، وهذا هو الذي جعل هانو يجعل شعب قرطاجة ينفضّ عني مبتعداً.

هانو… هانو، ردد هانيبعل الاسم وهو ينظر خارجاً، ثم ضحك ضحكة طويلة وتابع وكأنه يروي حكاية: هل سمعت عن حرب الوردتين؟ ربما لا. هي حرب للاستيلاء على العرش في إنكلترا. نسيت زمنها لكنها استمرت ما يقرب من مائة عام، سميت بحرب الوردتين لأن الاسرتين المتصارعتين للاستيلاء على العرش يورك ولانكاستر كانتا ترمزان لنفسيهما في علميهما بورده حمراء ليورك وبيضاء للانكستر. هذا الان ليس مهماً، المهم الآن ما يشاع عن هذه الحرب من أنها استمرت لمدة طويلة جداً، حتى أنه لم يتبقى ذكر في كلا العائلتين ليعلن انتصاره، ويرث العرش الذي قاتل من أجله مائة عام وقتل من أجله ما يوازي ما قتل من عائلته. توقف هانيبعل للحظة عن الكلام، وأمسك بقلم رصاص طويل وأخذ يرسم دائرة ويكررها حول موقع ما على الخريطة التي أمامه، ثم التفت إلى صديقه وأحد ضباط جيشه  بصوت عالٍ، ذكّره بأيام الحرب قائلاً: هل تعرف بماذا أختلف عن هانو؟ هو مستعد لمواصلة مخاصمتي والوقوف بوجهي والحرب معي حتى ولو أزيلت قرطاجة من الوجود، ولو لم تعد باقية ليحارب من أجلها!

انتهى من كلامه فيما بدت الألعاب الناريّة تشعل سماء بارسو فانيا المحاصرة، فيما تغلاتيال يلملم أوراق وردة يابسة، وهنيبعل يواصل الرسم الدائري بقلمه حول ذلك المكان على تلك الخريطة العتيقة.

حيدر كاتبة

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق