ثورةٌ…أتتْ… لم تأتِ… ستأتي؟
كل العيون نحو الأفق / دون الأفق؟
[في استكمالٍ توكيدي لديوانه (حزن في ضوء القمر) الصادر في العام 1959، أصدر محمّد الماغوط ديوان (الفرح ليس مهنتي) في العام 1970، الذي يتضمن قصيدة بعنوان: كل العيون نحو الأفق.
يقول هزّاع الشمالي عن هذه القصيدة أنَّها (الأروع والتي ارتداها الماغوط شمساً)، وإذ يحتفي الشمالي بها على هذا النحو، يقدم أولاً باقة ورد لصاحبها، ثم يرسل له تقريراً مفصّلاً عما كان ينتظره. الماغوط الذي صوّب العيون نحو الأفق لتترقب ذلك الصوت الإيقاعي المجلل بأصوات الأحرار الذين يكشحون الظلمة بتلك الشعلة الوقّادة… تلك العيون التي تترقب الثورة سكنها القلق والهلع من عدم قدومها، خوفاً من استجابة الله لطلب الماغوط بـ (إبادة هذه الأمّة).
في التقرير / النص الذي وضعه هزّاع الشمالي بعد أكثر من نصف قرن على انتظار الماغوط لثورة لم تأتِ، ثمة (ماغوطيّة متجددة) أسلوباً ورؤية واختصاصاً بـ (اللحظة الهاوية) وافتتاناً بـ (خيانة الخوف) مع ميل واضح لـ (تصفية الحساب) مع (الانتظار الماغوطي) وإقفاله بعد أن ينهي الله وضع لمساته الأخيرة على عملية الإبادة المنشودة.
ينتفض قلب الشمالي ولا يقوى على إقفال الأفق، حيث ينتشل (الثورة) من الغيب البعيد ويودعها بين أضلع الماغوط الجريح، علّه يستسقيها من دمائه ويمنحها تلك الروح المتمردة ليس على الظلم وحسب، يل وعلى الموت: موتها هي. ن. سلّوم]
باقة ورد إلى: محمّد الماغوط إلى الشاعر الاستثنائي المفطور خارج السياق الزماني والمكاني. إلى أبو العناية الفائقة بالتفاصيل الصغيرة… الصغيرة التي تؤلف بيئة وتشكّل وطناً. إلى احمرار خدَّ الأفق في الاستشراق والاستقراء. إلى مترقّب اللحظة الهاوية، وراصد الصورة المقلوبة. إلى خائن الدبابة والخوف والحذاء، برقة أرقُّ من الرقة وأعذب من ماء الشام. |
الآن… وبعد نصف قرن من اشتهاء الإبادة
كل العيون دون الأفق
إنَّ الثورة التي يبست قدماك في انتظارها
أتت من دموعك المحفوظة من شتاءٍ إلى شتاء…
كخواتم العشَّاق الموتى
أتت متخفية، متنكرة بِزِّي أعدائها
كمعبرٍ وحيد واتجاه إجباري،
ومن يُرشدك لمعبر آخر
كاذب إجباري.
ما إن انكشف أمرها
لم يبق أحد
مما كانوا يسترقون النظر خلسة نحو نوافذها ليلاً
إلاَّ ورجمها وشوّهّها
الجميع… بلا استثناء:
مثقّفو النخبة،
المثقفون الثوريون،
العلمانيون من أعلى الدرجات حتى أدناها…
من الطبيب حتى المستخدم.
الأحزاب الثوريَّة والعقائديَّة،
الجمعيات والنوادي الفكريَّة،
جميع أنواع النقابات والمنظماتـ
كل الجماهير الشعبية والثورية…
من الفئتين … (أ)… و … (ب)
بحجة أنَّها ساقطة
ومحلولة الغدائر.
أروي لك كل شيء وأشكو
كما كنت تتمنى أن تشكو لها،
بعد أن ترتمي على صدرها
كالطفل المذعور وتحدثها
كم عذبك الخوف وأذلَّك الإرهاب.
أروي لك وحزني طويل كحزنك
أتت …؟
ليتها لم تأت.
لكن أطمئن يا سيدي
وتشبّث بموتك
إلى جانب زميل
الحرمان والتسكّع،
لقد استجاب الله لطلبك
وها هو الآن يضع اللمسات الأخيرة
لإبادة هذه الأمة،
وها هي حبيبتك مقتولة،
ادفنها في صدرك
قبل أن تستبيحها عيون الاستهجان
كرمى لغدائرها
التي قد تنبت يوماً ما…؟
فكل العيون دون الأفق.
(هزّاع الشمالي – الهلال الخصيب 2021)
حينها… مذ كان للخبز رائحة وطن
كل العيون نحو الأفق
محمّد الماغوط
مذ كانت رائحة الخبز
شهيّة كالورد،
كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين،
وأنا أسرّح شعري كل صباح
وأهرع كالعاشق في موعده الأول
لانتظارها…
لانتظار الثورة التي يبست قدماي بانتظارها.
من أجلها
أُحصي أسناني كالصيرفي،
أُداعبها كالعازف قبل فتح الستار.
بمجرد أن أراها
وألمح سُوطاً من سياطها
أو رصاصة من رصاصاتها،
سأضع يدي حول فمي
وأزغرد كالنساء المحترفات.
سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور
وأشكو لها:
كم عذبني الجوع وأذلَّني الإرهاب…!
…..
وفي المساء
سآخذها إلى الحواري الضّيقة
والريف المصدور،
سأجلس واياها تحت مصابيح الشارع
وأروي لها كل شيء،
بفمي وأصابعي وعيني
حتى يدبّ النعاس في أجفانها
وتغفو رويداً رويداً
كالجدة أمام الموقد.
ولكن إذا لم تأت،
سأعضّ شراييني كالمراهق،
سأمدّ عنقي على مداه
كشحرور في ذروة صداحه،
وأطلبُ من الله
أنْ يبيد هذه الأمَّة.
(محمّد الماغوط – الهلال الخصيب – منذ خمسينيّات القرن العشرين)