قد تكون الأبواب مجرد تفاصيل صغيرة وسط هذا الكم المرعب من الخراب الذي نعيشه وقد نكون شركاء في حدوثه، أو قد يكون مجرد ترف وبذخ لغوي لم يعد براقاً وسط هذه القتامة التي تحيط بنا.
لكن للأبواب حكايات وأسرار وحنين ومفاتيح ومقابض وألوان وتجاعيد وشروخ تجعلنا نقف عند عتباتها لنتأمل ما تبّقى من حكاياتها.
باب الحنين
عندما اقترح صديقي أن يحمل كتابي الذي صدر عام 2012 عنوان (أبواب الحنين) وقررنا تغيير عنوان الكتاب. لم نكن ندري أن لهذا العنوان بريق آخاذ لدى الجميع، ربما جاء في لحظة فارقة من تاريخ السوريين وهم يحزمون حقائبهم للرحيل ويغلقون أبواب بيوتهم ويفتحون (أبواب الحنين).
عتبة الحنين الأولى تقف عند عتبة الأبواب المغلقة، فهو الحد الفاصل ما بين الذكريات والأسرار المتعربشة على جدران المنازل، لكنها تبقى حبيسة الجدران بانتظار مَنْ يفتح (أبواب الحنين) لتنهمر كل الذكريات دفعة واحدة.
باب الطفولة
الباب حاجز يفصل طفولتنا عن عالمها الطري. أبواب خشبية تعاند الزمن والريح يوشحونها بطبقة داعمة من “التوتيا” مثبتة بمسامير كبيرة ومتينة لتتماسك الأبواب وتحمي براءة الطفولة مما يَمور في الخارج، لكن أبواب الطفولة هذه كانت للبعض فاصلاً ثابتاً بين طفولة مؤودة وصخب يتعالى في الخارج، وعلى عتبتها جلس الكثيرين ينتظرون من يسمح لهم بدخول عالم طفولتهم، لكن انتظارهم طال حتى سبقهم الزمن وغادروا الطفولة وعتبات الأبواب التي بقيت حاجزاً بينهم وبين طفولتهم المستباحة.
باب السجن
باب السجن جدار خامس في الزنزانة. حديد ثقيل ومزلاج بصرير يصم الاذان، في السجن الباب ثقيل كثقل الزمن الذي ينهمر بهدوء في ساعة رملية بطيئة، يفصلك عن نسمة حرية تتعمق يوماً إثر آخر كحلمٍ بعيدٍ يتجدد كل مساء مع صمت الباب.
باب الأسرار
خلف الأبواب الموصدة حكايات وأسرار وأحلام وخيبات وضحكات ودموع، وخلفها غياب متحفز ليعبر الحاجز الخشبي ويصبح حقيقة موجعة، ففي الغياب نرمي من على أكتافنا كل الغبار الذي تشبث بأيامنا سنين طويلة، ربما ننفض هذا الغبار من الذكريات عند عبورنا باب الأسرار وخبيئة الأعمار الرمادية.
باب الصمت
طرقات خفيفة على الباب … طرقات متسارعة… طرقات لاهثة… تهرع بسرعة… تمسك المفتاح بلهفة… يدك ترتجف… قلبك يخفق… تفتح الباب…ترتطم عيناك بالخواء… وإصغاءك بالفراغ … تطلُّ على الممر الطويل الممتد والمضاء بكثافة… إنه نظيف جداً… هادئ جداً… موحش جداً…!
ترى من كان يطرق بابك…؟؟
لا أحد… فراغ… خواء… وحدة… صمت مطبق… تعود منكسراً… تغلق الباب بهدوء… تكتم صوت التلفاز… تنتظر طرقات جديدة… لا شيء… صمت… لعله حلم ما يراودك، أن يطرق أحد ما بابك… ليقول لك “مساء الخير… صباح الخير… لا فرق”. يسألك عن أحوالك فتتكلم معه بحرية وتفضفض له باستفاضة، مثلاً تقول له: ((لماذا تأخرت؟ أنا أنتظرك… سأعد لك فنجان قهوة، ألا تحبها…؟ نعم الوقت متأخر والمنبهات تسرق النوم وتزرع السهاد في الأجفان… إذاً كأساً من الشاي… هل لاحظت مثلي أن هذا البناء الكبير صامت خاو…؟ لم أصادف أحداً ما في ممراته منذ شهر وأكثر، حتى المصعد لم يجمعني مع أحد، أصعد وحيداً وأهبط وحيداً، دعني أُخبرك أنني أفتقد وقع الأقدام في الممر لدرجة أن هذا الصمت يصبح مريباً مع الزمن، المهم دعني أخبرك أن العمل لا يرحم وأن ساعاته طويلة وأن الرطوبة خانقة والحرارة قاسية… وأن … وأن… وأن… وماذا أيضاً… مللت من شكواي أليس كذلك؟، لكن دعنا نتقاسم وحدتنا ووحشتنا في هذه المدينة المعلبة)).
————–
(الصور بعدسة: هوبيك خجادوريان ).
استوقفتني هواجسك
و أعادتني لبيوت مهدمة
و بيوت خالية
و ابواب خلفها ذكريات الطفولة و الف قصة و قصة
عندما يستطيع الكاتب ان يخاطب ما في داخلنا و يعبر عن هواجسنا بكلمات تشبه لحن موسيقي ياخذا إلى اللا بعيد عندها نقول
انه أنسان مبدع
و أنت أنسان مبدع
تقول كاتيا راسم ”ستأتيك الحكمه بعد أن تأتيك كُل الحماقات، بحيث يُصبح وجودها وعدمه واحد، كأن تحصُل على المفاتيح بعد أن تخلع الريح كُل أبوابك”
لقد خلعت الريح كل أبوابنا و لم تفلح كل التمائم التي تعلوها من حدوة حصان و خرزة زرقاء على ابقاء شمل تشبث بالمستحيل و تلاشى .. لم يصمد ألا تلك العبارة المقيتة ” الدار برسم البيع ” و الحقيقة المرة ان أحلامنا و ذكرياتنا و لحظاتنا السعيدة لم يشملها السوم لا أحد يسوم السراب .. .