مقدمة
تعود فصول استهداف الكنعانيين وتاريخهم أدراجها إلى حقب قديمة حين شرع أحبار اليهود بكتابة أسفار التوراة والتلمود، بالإضافة إلى بعض مؤلفات المؤرخين الكلاسيكيين، ممن خدموا –خاصةً- في بلاط بعض الأباطرة الرومان، وصولاً إلى العصر الحديث حيث اكتسى استهداف الكنعانيين السوريين ثوب الصهيونية الدينية والسياسية، التي ترى في محو المنجز الحضاري الكنعاني ومفرداته إنجازاً يختلق للكيان اليهودي تاريخاً يتناسب وخرافة التوراة الخاصة بما سمي بـ”الوعد الإلهي” (اليهواوي)، ذلك الوعد الذي يرسم تطلعات الكيان اليهودي في المنطقة وخططه، والتي أفرز لها هذا الكيان مجموعة من السياسات والإجراءات والمجنّدين على الأرض، يعملون تحت عنوان ضخم وخطير هو التهويد.
وقد لازمت الصفة “الكنعانية” تراثنا السوري المسطور والمعزز بالأدلة والمعطيات الأثرية في شرق المتوسط وغربه ما يزيد على الألفين وخمسمئة سنة، وميّزت تلك الصفة جزءاً من هويتنا التاريخية التي تتّحد في مكوناتها عدة تسميات تشير إلى “السوريين القدماء” في مراحل مختلفة…وفي هذا الصدد فإن بعض الآراء المخالفة للمعطيات المذكورة لا يجب أن يؤثّر على الدراسات الخاصة بالهوية السورية ومكونات الشعب السوري القديمة (أي شعب المشرق القديم)، أما تلك الآراء فإنما تنضم –بشكل أو بآخر- إلى حرب مفتوحة على التراث الكنعاني بكل معطياته، انطلاقاً من الأرض السورية، ووصولاً إلى كل محطاته العالمية، ولا سيما في مناطق غرب البحر الابيض المتوسط.
حرب على الأصالة الكنعانية الفينيقية
تعرّض مصطلح “فينيقيين” –والذي يعني الكنعانيين- إلى الطعن، وصُنِّف “الفينيقيون” في بعض الدراسات العربية –وهم الكنعانيون أصلاً- على أنهم “من الموجات الدخيلة على بلادنا”(1)…لكن اسم “الفينيقيين” يشير إلى الكنعانيين –كما ذكرنا-، لذا لا يمكن اعتبارهم موجة دخيلة، كما أن ثبات الحضارة الكنعانية الفينيقية واستمرارها عبر العصور وصولاً إلى عصر السيد المسيح، وهو عصر كان تحت الاحتلال الروماني للمنطقة، يضيف أدلّة هامة على أصالة الجذور الكنعانية الفينيقية، ومن المثير –على سبيل المثال- أن يذكر كتاب الإنجيل في وقت متأخر هوية المرأة التي استنجدت بالسيد المسيح في منطقة صور وصيدا لكي يعالج ابنتها، وهي “الكنعانية” أو “الفينيقية السورية” كما سمّاها الإنجيل، الأمر الذي يلقي الضوء أيضاً على مصطلحيْ “الكنعاني” و”الفينيقي”، حيث يوحّد بينهما الإنجيل، مؤكداً المعلومات التي تفيد بأن اسم الكنعانيين كان يُطلَق على الشعب الذي سكن منطقة فلسطين القديمة والساحل السوري اللبناني الفلسطيني، وبعض مناطق الداخل السوري منذ مطلع الألف الثالث ق.م، أما تسمية “فينيقي” -التي استخدمها اليونانيون إشارة إلى الكنعانيِّ السوريِّ بدءاً من أواخر الألف الثاني ق.م- فهي مشتقة من الاسم الأصلي –أي “كنعاني” سواء بصيغته المصرية القديمة “فني خو” ، أو من المهنة التي برع فيها الكنعانيون وهي استخراج الصباغ الأرجواني “فونيكس Phoinix” ، وبالتالي فإن عصر السيد المسيح –بمعطياته التاريخية والأثرية واللغوية- هو أحد مصادر البحث الهامة عن الحضارة الكنعانية وتأكيد ثباتها واستمراريتها(2).
الاستهداف الممنهج للحضارة الكنعانية عبر المشاريع والمنشورات
ومن جهة أخرى فقد تعرّض تاريخ الكنعانيين إلى سلسلة مدروسة من الادعاءات الزائفة والمشاريع المسيئة والمحرِّفة لمعطيات تراثهم في المنطقة، بدأت –في العصر الحديث- منذ وعد “بلفور” عام 1917، واستمرت في القرن الواحد والعشرين… وننوّه فيما يلي إلى أخطر تلك المشاريع خلال السنوات السابقة، والتي تؤثر سلباً -وفي مراحل قادمة- على الدراسات الخاصة بالحضارة الكنعانية ووحدة العناصر الحضارية بين المشرق والمغرب، وحسب اطّلاعنا، ففي السنوات الأخيرة تجلّت مقولة “التوراة” حول مزاعم “حدود الكيان اليهودي”، في منهج إسرائيلي مدعوم من قبل الصهيونية العالمية، تمخّض عن مشاريع خطيرة تتعلق بالتراث، نفّذتها أحياناً جهات أجنبية بالوكالة.
وهدف بعض تلك المشاريع هو وضع تعاريف جديدة للحقب التاريخية المختلفة تقصي مراحل حضارية بأكملها بغرض خلق وجود تاريخي لما سمي بـ”إسرائيل” في المنطقة، مع إنجاز قواعد بيانات تتضارب مع أية قواعد بيانات يُفترض أن تكون موجودة سابقاً، وعلى سبيل المثال –لا الحصر- المشروع الدولي الخطير–بمشاركة ضخمة من قبل الكيان اليهودي-: ARCANE(2002-2011):
Associated Regional Chronologies for the Ancient Near East and the Eastern Mediterranean. الذي هَدَفَ إلى وضع تسلسل زمني {“توثيق”–كرونولوجي-} لمنطقة “الشرق الأدنى القديم” وشرق المتوسط انطلاقاً من الألف الثالث ق.م…مع ملاحظة أنه تم استثناء وإقصاء المواقع الكنعانية في الساحل السوري من التسلسل الزمني للشرق القديم بشكل مقصود!…
وهناك أيضاً أحد المشاريع التي أطلقها الكيان اليهودي لغرض تهويد مدينة يافا الكنعانية في فلسطين المحتلة، وذلك قبل حوالي 11 عاماً وبدعم أميركي أوروبي وهو “مشروع التراث الثقافي ليافا” Jaffa Cultural Heritage Project (JCHP) ويحتوي هذا المشروع على كثير من مفردات التهويد (3)، فيما تدحض معطيات مدينة يافا الأثرية كل المزاعم الصهيونية، وتقدّم أدلة هامة على وحدة عناصر الحضارة التي جمعت مدن المشرق القديم وممالكه في بلاد الرافدين وسوريا القديمة، وثبات تلك الحضارة قروناً طويلة من الزمن (4)، الأمر الذي يتصدى لطروحات خطيرة قلّصت الجغرافيا التاريخية لسوريا القديمة وعملت على فصلها عن محيطها الطبيعي والحضاري كبلاد الرافدين وفلسطين القديمة، وهذا ما سعى إليه عالما الآثار “بيتر أكرمانز” و”غلن شوارتز” اللذان قدّما سوريا القديمة -في كتابٍ عن “الآثار السورية”- كأقاليم منعزلة حضارياً، وابتعدا تماماً عمّا يجمع السوريين القدماء من عناصر حضارية ثابتة ومستمرة منذ أقدم العصور (5)، كما لم يأتيا على ذكر الحضارة الكنعانية أو الكنعانيين ضمن عصور سوريا القديمة، ولم يقدّما “الفينيقيين” على أنهم استمرار للكنعانيين في سوريا، بل على أساس الشراكة المتوسطية مع الإغريق، أما المملكة السورية الكنعانية “أوغاريت” – إحدى أهم المدن الكنعانية- فيعرّفها المؤلفان بأنها مدينة على البحر الأبيض المتوسط كانت تتبادل التجارة مع “قبرص” و”سوريا” (6) –وكأنها ليست سوريّة!
ومن ناحية أخرى يسلّط المؤلفان الضوء على أبجدية أوغاريت المسمارية على أنها تعبّر عن “لغة سامية محلية” (7)، دون الحديث عن أنها الأبجدية الأولى في التاريخ التي طوّرت النظام الكتابي القديم، ومنها تطورت الأبجدية الهجائية الكنعانية ثم سائر حروف أبجديات العالم القديم…
إن محاولة المؤلفيْن المذكوريْن في كتابهما –الذي أرادا له أن يكون مرجع المتخصصين الأول في مجال آثار سوريا القديمة- كانت واضحة في فك الارتباط بين عناصر الحضارة السورية، هذا فضلاً عن ظهور اتجاهات جغرافية جديدة وخطيرة في كتابهما، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فهما يتحدثان عن مدينة “إبلا” -في محافظة إدلب- كمدينة تقع غرب سوريا(8)!…كما يتحدثان عن أن الشريط الساحلي المتوسطي الضيّق يحدّه من الشرق “لبنان” و”جبل الأنصارية” وسلسلة “الأمانوس” (9) !
بعض الدراسات المحلية الرسمية الحديثة –الصادرة عام 2015- ارتكب خطأً حين أقصى الكثير من المدن الكنعانية المنتشرة على طول الساحل السوري اللبناني (10)، كما أخطأ حين أغفل ذكر هوية مدينة أوغاريت كمدينة كنعانية سورية تقع على الساحل السوري، مستبدلاً ذلك بوصفها “ميناءً عالمياً” (11)، ذلك أن أي تعريف -ولو مختصر- للمدينة يغفل سوريّتها وكنعانيتها، يعتبر منقوصاً ولا يعبّر بشكل صحيح عن هوية المدينة التي بلغت عالميتها من خلال كونها مملكة كنعانية سورية أبدعت إنجازاتها في ضوء الإبداعات السورية القديمة وعبر مراحل طويلة شهدتها الأرض السورية.
وعموماً، فمسيرة التاريخ الكنعاني –كجزء من تاريخ المشرق القديم- تتعرّض للاستهداف الغربي الممنهج الذي لا يجوز السهو عنه أو الانقياد إليه، ولهذا الاستهداف أسبابٌ واضحة في تفاصيل بعض المشاريع الأجنبية، وتتلخّص في مساعٍ لإزاحة الحقائق الكنعانية عن بساط البحث التاريخي بما يغطّي على اعترافات كُتّاب التوراة –سواء الصريحة منها، أو تلك التي بين السطور-والتي تؤكد–إلى جانب غياب الشواهد الأثرية والكتابية- على أنه لا توجد حضارة أو دولة قديمة تحمل اسم “إسرائيل“، وذلك بكل ما تحمله “الحضارة” و”الدولة” من معانٍ تطابقت فعلياً مع حضارات المشرق والمغرب القديم ودوله، من خلال الأصول الحضارية والجذور اللغوية والمنجزات على الأرض والتركة الانسانية المتميزة، الأمر الذي لم يتحقق تاريخياً لمن يدّعون زوراً وبهتاناً ملكية أجزاء من الأرض في فلسطين وسوريا والعراق على وجه الخصوص، والذين تتلخص إجراءاتهم منذ عقود في السطو على الأصول الحضارية السورية ومحو جذورها.
وبالتالي فإن العبث بمعطيات المشرق القديمة –وعلى رأسها المعطيات الكنعانية (12)- يهدّد منظومة البحث الخاصة بتلك الحضارة بالخلل والتشويه في كل مكان وصلت إليه، وسجلت شواهدها حضورها فيه، الأمر الذي يدعو مراكز البحوث والمؤسسات الثقافية والأكاديميات المعنية، إلى تحصين معطيات سوريا الأثرية والتاريخية ورصد المحاولات الاسرائيلية والغربية المضادّة وضبطها والتصدي العلمي لها وتعريتها محلياً ودولياً، وتعزيز التواصل العلمي بين تلك المراكز والأكاديميات وإقامة ورشات العمل الخاصة بالموضوع.
إسهام بعض المناهج العربية في استهداف الحقائق الكنعانية
إن ضبط ما ورد في بعض مناهج التاريخ والآثار الأكاديمية العربية، من طروحات وأخطاء استراتيجية وجوهرية، تكرّس ما ذهبت إليه المدارس الغربية من طروحات وأفكار تغطي على الحقائق الكنعانية في تركة المنطقة، هو عملية ضرورية مع ما يرتبط بها من محاولات لإصلاح الأخطاء، فما يراه بعض تلك المناهج من مسلّمات تاريخية قديمة في تاريخ سوريا القديمة، إنما يستند إلى معلومات خاطئة ومصادر ومراجع يمكن إخضاعها للنقد العلمي، فضلاً عن أنها ذات توجهات سياسية وأيديولوجية واضحة، أما ملخص ما قمنا بضبطه في بعض المناهج والمؤلفات المذكورة، فهو اعتبار ما يسمى بـ”المملكة العبرانية” أو “إسرائيل” أو “يهودا” ممالك حقيقية في المنطقة، يتم إدراجها بشكل مؤسف في خرائط بحثية تخص سوريا القديمة- بل إن بعض المناهج أغرق في الحديث عن “إسرائيليين قدماء” في فلسطين، وأسهب في تكريس نموذج الإله الخرافي القومي لليهود “يهوه”، كإله على غرار آلهة الشرق القديم، بالرغم من عدم تمثيل هذا الإله في التركة الأثرية والكتابية في المنطقة…وكذلك الأمر بخصوص بعض شخصيات ملوك التوراة الوهميين، كداود وسليمان، فقد اعتبرهما بعض المناهج والمؤلفات ملكين حقيقيين، كما درج بعض الأكاديميين على اعتماد التسميات التوراتية لمناطق جغرافية في فلسطين، فيما اعتبر بعض تلك المؤلفات اللغة العبرية أصيلة في المنطقة، وذلك في مخالفة خطيرة لكل الاثباتات التي تدحض تلك المزاعم (13)…
أما ما وقع فيه بعض المناهج والمؤلفات المذكورة –والذي من شأنه الاضرار بالتاريخ الكنعاني عموماً، والفلسطيني بشكل خاص- فمردّه الاعتماد على المصادر القديمة دون مناقشة ما ورد فيها، وعلى رأسها ما سمي بـ”الكتاب المقدس”، وخاصة كتاب “العهد القديم” (التوراة)، علماً أن الكتاب المذكور –بتناقض رواياته وما ورد بين سطورها، بالإضافة إلى المكتشفات القديمة والجديدة- إنما يعتبر من أهم المصادر التي تدحض قراءات التوراتيين وتفاسيرهم له، تلك القراءات التي تعمّدت التزوير والتحريف لمعطياته، والتوظيف السياسي والأيديولوجي لها، واستغلال قانون “معاداة السامية” ضد كل من يتطرق إلى نقد أو نقض الروايات التوراتية وما ارتبط بها من حجج صهيونية واهية…لذا لا بد من تجاوز إشكالية ما سُمي بـ”الكتاب المقدّس” وعدم اعتباره كتاباً يمثّل اليهود والمسيحيين معاً، أو اعتبار معلوماته كاملة المصداقية.
ضرورة التمييز بين “الكنعاني” الاصيل و”العبري” الدخيل:
تعرّضت مفردات الحضارة الكنعانية لإشكالية التسميات والخلط بين ما هو كنعاني أصيل وبين ما هو عبري دخيل… ولعبة التسميات العبرية وانتحال الصفات يختص بها الكيان اليهودي، فهو يلجأ إلى إطلاق أسماء “عبرية” على المناطق التي يحتلها، وجل هذه المناطق له تاريخ كنعاني أصيل، ومن ضمن هذا التاريخ الأسماء الكنعانية الأصلية التي ترد بالعبرية في كتاب التوراة، أما ورودها بالعبرية فلا ينفي الأصل الكنعاني، والأمثلة أكثر من أن تحصى…وعلى سبيل المثال، يربط بعض المستشرقين والأكاديميين العرب اسم “سوريا” بـ”صور” زاعماً أن الأصل عبري للاسم باعتبار الزعم القائل بأن “صور” كلمة عبرية بمعنى الصخرة…والحقيقة أن اسم “صور” كنعاني الأصل والمعنى، وذكره باللغة العبرية، بلفظه ومعناه الكنعانييْن، لا يعني أنه عبري، لاسيما وأنه يرد في نصوص كنعانية سابقة لنصوص التوراة.
وتعود مزاعم الكثير من المستشرقين والأكاديميين حول الموضوع المذكور، إلى تأثرهم بآراء المدرسة التوراتية المتعلقة بتاريخ الكنعانيين ولغتهم، تلك الآراء التي أضحت تقليداً في الدراسات الغربية –والكثير من الدراسات العربية-حول الحضارة الكنعانية الفينيقية، نتيجة اعتمادها على معلومات التوراة دون التعمق فيها ومناقشتها، ولعل من أحدث المستشرقين الواقعين في هذا المطب، هو المؤرخ والآثاري البريطاني “غلن ماركو”، الذي تحدث في أحد مؤلفاته عن تفوق الفينيقيين والقرطاجيين في المتوسط والأطلسي، مذكّراً بدوران الفينيقيين حول أفريقيا في مطلع القرن السادس ق.م قبل البرتغالي “فاسكو ديغاما” بحوالي ألفيْ سنة، وعلى متن سفن “ترشيش” أيضاً أبحر الفينيقيون خلف البحر الأحمر ووصلوا إلى “أفرة” (أوفير) التي يصفها “ماركو” بأنها “أرض توراتية” تأكدت حقيقتها بواسطة كسرة فخارية مسطورة عُثر عليها في “إسرائيل” -حسب وصف “ماركو”!…إلا أن الحقيقة التي غيّبها الباحث المذكور هي أن “أوفير” أو “أفرة” ما زال موقعها مجهولاً، فيما يرى بعض الدارسين أنها ربما تكون في اليمن أو في شرق أفريقيا، وفي كل الأحوال، لا يجوز منطقياً وعلمياً وصف “أوفير” بأنها أرض توراتية بمجرد ورود ذكرها في التوراة، ومن ناحية أخرى، فالفينيقيون هم الذين اشتهروا بالإبحار وبلوغ أعالي البحار والمحيطات واكتشاف الجزر والمدن البعيدة، أما كتاب التوراة نفسه فيؤكد أنه لم تكن هناك “بحرية إسرائيلية” وأن بني “إسرائيل” لم يجيدوا الإبحار بالسفن (14)…وأخيراً فإن “ماركو” لم يعط تفاصيل عن الكسرة الفخارية المسطورة التي قال إنه عُثر عليها في فلسطين المحتلة، كما لم يشر إلى مصدر معلومته(15)…
ومن ناحية أخرى يرى “ماركو” أن “الإسرائيليين” هم أحد الشعوب التي ظهرت في فلسطين في الفترة الواقعة بين القرنين 13 و12 ق.م (16)… وفي ذلك تكرار لآراء المدرسة التوراتية –وعلى رأسها ويليام ألبرايت- تلك الآراء المعتمدة أصلاً على قراءات خاطئة لروايات التوراة، والتي لم تجد أصداء لها في مؤلفات المستشرقين الأميركيين والاوروبيين فحسب، بل في الكثير من المؤلفات الأكاديمية العربية، التي تتحدث في صفحاتها عن وجود “إسرائيليين قدماء”… علماً أنه لا توجد أية وثيقة قديمة تؤكّد وجود “إسرائيليين قدماء”، ولا شك أن ذكر تلك العبارة خطأ علمي كبير، فحتى كتاب التوراة ينفي هذه المعلومة ويشير فقط إلى (مهاجرين إلى أرض كنعان، أُطلق على أحدهم -وهو يعقوب- اسم “إسرائيل” بموجب رواية خرافية لكاتب سِفر التكوين -السِّفر الأول في التوراة-) على أن الحديث عن هذه الرواية الخرافية يتم دائماً في ضوء “التوراة”، وهو لا يدعو إلى إطلاق عبارة “الإسرائيليين القدماء” على من ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم بصيغة “بني إسرائيل”، وبين العبارتين -أي “الإسرائيليين القدماء” و”بني إسرائيل”- فرقٌ كبير، فالأولى تربط الإسرائيليين الحاليين بِـِ”قدماء” لهم على شكل شعب تاريخي -وهذا ما تسعى إليه الدوائر التوراتية- ولكن في ضوء التوراة، لا يبدو “بنو إسرائيل” شعباً، ذلك أن كلمة “شعب” في علم التاريخ لا تُطلق إلاّ على من يحقق شروطا ّمعينة مثل الجذور والأصول واللغة والمنجزات الحضارية والدولة والتقاليد والاستمرارية، وكلها شروط لا تتوفر لبني “إسرائيل” حسب معطيات كتاب التوراة نفسه.
خاتمة
لا تتوقف فصول استهداف التاريخ الكنعاني عند ما تم ذكره في هذه الدراسة، وهي –أي تلك الفصول- إنما تندرج ضمن عناوين مهمة لدراسات وبحوث تتصدى بالدليل الأثري واللغوي والتاريخي لجل ما تم طرحه على بساط البحث التاريخي والأثري واللغوي والسياسي في المنطقة، على أننا نعد بتقديم تلك البحوث والدراسات للقرّاء والمهتمين تباعاً، مع ما يطرأ عليها من جديد.
الحواشي
1- وردت هذه العبارة في كتاب محفل محمد: “دمشق الأسطورة والتاريخ…من ذاكرة الحجر إلى ذاكرة البشر”، الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، ص35، وتنطوي هذه العبارة على إشكالية كبيرة فيما لو اعتُمدت من قبل الدارسين، حيث قدّم المؤلف للقرّاء ملاحظة تفيد بأن الكنعانيين (أُطلق على أهل الساحل الشامي منهم اسم “فينيقيين”، وغيرهم من الموجات الدخيلة على بلادنا، كالحوريين/الميتانيين والحثيين…إلخ)…بينما تؤكّد الدراسات أصالة معظم الأقوام المذكورين في المشرق القديم.
2- إنجيل متى14: 34، 15: 1، 21-29، إنجيل مرقس7: 24-30…أنظر أيضاً:
Markoe.Glenn: Phoenicians, London, 2000, p.10
3- من شركاء المشروع التهويدي المذكور “معهد كوتسن للآثار في جامعة كاليفورنيا-لوس أنجلس”، “هيئة الآثار الاسرائيلية”، “جامعة جوهانس غوتمبرغ”/ماينز الألمانية، “مؤسسة تنمية يافا القديمة” في فلسطين المحتلة، و”المدارس الأميركية للبحوث الشرقية”، أما فريق العمل الذي يقوده “آرون بورك”، فهو من المختصين بما سمي “إسرائيل القديمة”، “العهد القديم والآثار التوراتية”، “اللغات السامية”، “الفترة الاسلامية والصليبية”، “المصريات”، “المسكوكات القديمة”، “علم الأحياء”، “علم النباتات القديمة”، “البحريات”، “تحليل النظم” و”الجي آي إس”… وتتجه الدراسات في مشروع يافا -المدعوم علمياً ومالياً من قبل أخطر المؤسسات الصهيونية مثل مؤسسة “ليون ليفي”- إلى محاولة الربط القسري لمدينة يافا التاريخية بما يسمى “إسرائيل القديمة” التي تُعدُّ وهماً من نسج خيال التوراة والتوراتيين، ولا وجود لها على أرض الواقع بين المكتشفات الأثرية أو الكتابية.
4- إن التأكيد على وحدة عناصر الحضارة التي جمعت مدن المشرق القديم وممالكه في بلاد الرافدين وسوريا القديمة، هو أمرٌ في غاية الضرورة لصالح البحوث الخاصة بوحدة عناصر الحضارة بين المشرق والمغرب، فذلك يشير إلى سلسلة حضارية متينة لم تنقطع حلقاتها عبر العصور.
5- أنظر:
PETER M.M.G.AKKERMANS AND GLENN M. SCHWARTS THE ARCHAEOLOGY OF SYRIA From Complex Hunter-Gatheres to Early Urban Societies(ca.16000-300b.c), , CAMBRIDGE , First Published 2003,Fifth Printing 2009
6- AKKERMANS and SCHWARTS: THE ARCHAEOLOGY OF SYRIA, pp.335,339,340
7- أنظر AKKERMANS and SCHWARTS:THE ARCHAEOLOGY OF SYRIA, p.335,341
على أن مصطلح “السامية”-نسبة إلى “سام “هو مصطلح ذو مرجعية توراتية، ينطوي على تقسيم الشعوب على أساس عرقي خاطئ، لذا نرفض إطلاقه على أي من الأسماء والتسميات الخاصة بالمشرق القديم، نظراً لعدم صحته وعدم وجود ما يسنده على الأرض أثرياً وكتابياً، في الوقت الذي تحتفظ فيه تركة المشرق بتسميات شعوبه ولهجاته بوضوح…
8- AKKERMANS and SCHWARTS: THE ARCHAEOLOGY OF SYRIA, p291 وقد تبنّى أكاديميون رسميون هذا الموقع الجغرافي الجديد للمدينة، ليس بالضرورة نقلاً عن “أكرمانز” و”شوارتز”، بل ربما هنالك مصادر أخرى تدعم هذا التوجُّه الجيوتاريخي السياسي الخاطئ …
9- AKKERMANS and SCHWARTS: THE ARCHAEOLOGY OF SYRIA, p
10- حيث اعتَبرت هذه الدراسة -التي حملت صفتين، محلية ودولية- مدينة “عمريت” بانها “المدينة الفينيقية الوحيدة الباقية على طول الساحل السوري اللبناني من بين مواقع الألف الأول.”…وبالتالي فالمؤلف يقصي ستّ عشرة مدينة كنعانية رئيسية سجّلت حضوراً في الألف الأول ق.م، عشر مدن منها في الساحل السوري-بالإضافة إلى مواقع أخرى- وست مدن في الساحل اللبناني، والمدن المقصاة هي: سيميرا، طرطوس، أرواد، عرقاتة، سيانو، جبلة، تل سوكاس، تل تويني، رأس إبن هاني، أوشناتو أو أوسنو، صور، صيدا، طرابلس، جبيل، البترون، بيروت…مع أن هذه المدن سجّلت حضورها في الألف الأول ق.م، وما زالت موجودة.
11- وقد ورد عن “أوغاريت” في الدراسة المذكورة: (تم وصف هذا الموقع كأول ميناء عالمي بالتاريخ…احتلت هذه المملكة مكانة مهمة كمركز تبادل تجاري نظراً لموقعها كنقطة وصل بين وادي الرافدين وفلسطين)…
12- يتمتع الكنعانيون بصفة حضارية متميزة، وهي الاستمرارية من الألف السابع ق.م وحتى سنة 600 م، أما الجغرافيا التي شغلها الكنعانيون فتقع على أرض فريدة جداً في الشرق القديم، تمتد من الأناضول شمالاً والرافدين شرقاً ومصر جنوباً مروراً بقبرص وبحر إيجة…
13- تجدر الإشارة إلى أننا نحتفظ بتوثيق كامل ومفصّل لتلك المؤلفات وما ورد فيها.
14- الأمثلة الخاصة بالفشل الحضاري لبني “إسرائيل” في ضوء روايات التوراة، أكثر من أن تُحصى، وهي ضمن إطار بحوث متواصلة…
15- أنظر: Markoe: Phoenicians,pp.12-13
16- ibid.p.23
—————————————–
تنويه: ينشر سيرجيل هذا البحث باتفاق خاص مع مؤسسة سعادة للثقافة.
بجث قيّم وهام ونشكر إدارة موقع “سيرجيل” على نشره، فهو يلخّص الصراع الحقيقي بيننا وبين العدو الصهيوني…بيننا كأصحاب أرض فعليين وبين العدو المحتل والذي يتطلع إلى المزيد من إجراءات تكريس احتلاله كدولة يهودية، يحاول جعلها بين مجموعة من الدويلات الطائفية المتناحرة…المعركة تاريخية ولم تزل، أما اليوم فإن جل مغردي الكيان اليهودي على وسائل التواصل، إنما يركزون على ضرب المسار التاريخي السوري الحقيقي، ويقومون بنسب السوريين إلى أجنحة دينية بعيداً عن حضارتهم الأصلية -الكنعانية الآرامية..وكذلك الأمر ينشر المغردون الصهاينة أن المصريين “قبطيين” فحسب والعراقيين “آشوريين” والمغاربة “أمازيغيين” والسودانيين “نوبيين”…وكل ذلك لضرب الوحدة التاريخية الوطنية في كل بلد عربي…واحتجاز عصور بأكملها لصالح مخططهم التهويدي…