مسار جلجامش

اليهودية القرائية؟

حول خصوصيّة اليهود العراقيين قديماً

انشقاق الحاخام عنان بن داود البغدادي في القرن الثامن الميلادي وتأسيسه طائفة اليهود “القرائين” متأثراً بفرقة المعتزلة وبمذهب الإمام أبي حنيفة النعمان زميله في سجن أبي جعفر المنصور!

في مقالتي عن “الفرهود” التي نشرتُ جزأها الأول وسيُنشر جزؤها الثاني لاحقاً، سجلت تحفظي على عبارة “يهود العراق” الشائعة في الكتابة بصدد العراقيين اليهود وعن غيرهم كأن يقال غالباً “يهود سوريا” و”يهود مصر”. وذكرت أن خصوصية وضع اليهود في العراق واندماجهم في مجتمعه منذ أكثر من ألفين وخمسمائة عام، تجعلهم جزءاً راسخاً من الهوية العراقية في تجلياتها الشتى، وفي صعودها وتألقها، وخفوتها وانحدارها في فترات الهيمنة والاحتلال الأجنبي، قبل أن تقع جريمة اقتلاعهم من وطنهم العراق بالاتفاق بين الدولة الصهيونية وأجهزتها المخابراتية وبين نظام الحكم الملكي العميل لبريطانيا.

هذا ما جعلني أتحفظ على الأخذ بتعبير “يهود العراق” الشائع بسبب مضمونه غير الدقيق من وجهة نظري، ولأنه -إضافة الى ذلك – قد يُفَسَّر بالقول إن اليهود في العراق، أو في غيره، كانوا جزءاً من “شعب يهودي”، لم يكن له وجود في الشرق آنذاك، بعد زوال مملكة يهوذا في 579 ق.م، ومملكة إسرائيل الصغيرة قبلها في 722 ق.م، بل كانت هناك طوائف دينية يهودية ليهود ومتهودين مندمجة في مجتمعاتها ولم تواجه حروب إبادة كتلك التي شُنَّت ضد اليهود في أوروبا الغربية والشرقية في عصور مختلفة آخرها مجازر النازيين الألمان. وحتى في العصر الحديث لم يكن هناك شعب يهودي قبل تأسيس الكيان الصهيوني سنة 1948، بل إن هذا الشعب هو شعب مفبرك مختلق كما بين ذلك بوضوح وتوثيق علمي مفحِم الباحث اليهودي شلومو ساند في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”.

وللأمانة العلمية، أسجل أنني وجدت، خلال قراءتي في كتاب الباحث اليهودي إسرائيل ولفنسون أبي ذوئيب المعنون “موسى بن ميمون – حياته ومصنفاته”، ما يفيد ويؤكد صحة هذا التحفظ، حتى لو لم يكن أبو ذوئيب يعني ما أعنيه بتحفظي، ويؤكد خصوصية اليهود العراقيين، حين يقتبس عن المؤرخ المصري المقريزي من أهل القرن الرابع عشر الميلادي ما يفيد ذلك أيضاً، ووجدت أن هذه الخصوصية لليهود العراقيين قديمة جداً وعمرها عدة قرون وتعود إلى أول انشقاق مذهبي في تاريخ اليهودية قام بها يهود عراقيون في القرن الثامن الميلادي كما سيأتي بيانه بعد قليل. ففي معرض حديثه عن حياة الفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون القرطبي، يقول أبو ذوئيب ما مفاده إن هؤلاء اليهود العراقيين تميزوا عن أبناء دينهم الآخرين حتى وهم يعيشون بين اليهود المهاجرين إلى مصر في زمن الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية بعدها.

 لقد هاجر إلى مصر الفاطمية ثم الأيوبية اليهودُ الناجون من الاضطهاد المسيحي بالأندلس بعد ما سُمِّي “حروب الاسترداد” وسيطرة الإسبان الشماليين على الإقليم، وهاجروا من المغرب بعد قمع واضطهاد “دولة الموحدين” و “دولة المرابطين” لأبناء الديانات الأخرى. أما اليهود الذين هاجروا إليها من العراق وبلاد الشام حيث لم يكن القمع الديني شائعاً أو مألوفاً، فيمكن أن نعتبر هجرتهم حركة طبيعية داخل الكيانية الجغراسياسية العربية الإسلامية القائمة آنذاك، والأقرب إلى “كونفدرالية” من عدد من الأقاليم بمصطلحاتنا اليوم، وكهجرة سائر العرب من أبناء الطوائف الأخرى، لأسباب قد تتعلق بطلب العلم أو الرزق أو التبشير المذهبي داخل الدين والطائفة الواحدة وما إلى ذلك.

يذكر ولفنسون أن ابن ميمون حين وصل إلى مدينة الفسطاط – محلة المصيصة بمصر وجد فيها كنيسين “ولفنسون يستعمل مفردة “كنيستين” لطائفة اليهود الربانيين، الأولى ليهود الشام والثانية ليهود العراق، وكنيس آخر لليهود القرائين. ويبدو لي أن كلام ولفنسون هنا يتعلق بمقارنة بين اليهود الربانيين الشوام والعراقيين وليس بالقرائيين وهذه نقطة تفصيلية قد لا تكون لها أهمية تأسيسية، إذ يبدو أن كلا الطائفتين كانت موجودة في مصر وإلى جانبهم كان اليهود القراؤون موجودين أيضا ولهم كنيسهم، ويبدو أنها كانت من تأسيس القرائين العراقيين الذي جاؤوا إلى مصر كمبشرين بين اليهود الربانيين، ونشروا مذهبهم بين يهود مصر. وهناك من يعتقد أن يهود مصر كانوا كلهم من طائفة القرائيين الذين (يرفضون في عصرنا قيام الدولة الصهيونية) كما ذكر ذلك باحث مصري في لقاء تلفزيوني معه ” قناة الغد/ برنامج “زمن” الذي قدمه الممثل الشهير حسين فهمي حلقة يوم 9 نيسان 2019″ ولم يذكر اسمه للأسف.

تأسست الطائفة “القرائية” كحركة دينية يهودية تجديدية بالعراق في القرن الثامن الميلادي على يدي الحاخام “عنان بن داود” المتوفي سنة 795 م. وكان ابن داود هذا قد (تأثر بأطروحات المدارس الفكرية الإسلامية كمذهب الحنفية والمعتزلة، فتح باب الاجتهاد في فهم النصوص المقدسة العبرانية. وكان ابن داود قد تعرض إلى السجن بأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور لأنه وقف ضد الحاخام الرسمي اسحق الإسكافي المُقَر من قبل المنصور ورفض الاعتراف به. وفي السجن تعرف على الإمام أبي حنيفة وانعقد بينهما صداقة عميقة)، كما تقول المصادر.

اليهودية القرائية، كما تكرست وشاعت لاحقاً، تؤمن بالله كإله، وبأنبياء “التناخ = الكتاب المقدس اليهودي وتحديداً الألواح الخمسة التي يؤمنون أنها أنزلت من الله على موسى النبي” كرسل، وبأقوالهم “كأقوال الرب”. وهي تعارض التوراة الشفهية، وأي مذهب جاء بعد العهد القديم، ولا تعترف إلا بالتوراة والأنبياء كتشريع إلهي مباشر أو موثق، وأن المكتوبات الأخرى ليست سوى حِكَم حياتية مستندة من التوراة.

أما الاجتهاد الشخصي فهو من أساسيات مذهب اليهودية القرائية. ففي الأدب القرائي المتأخر تم نسب صيغة هذا الأساس لعنان بن داود الذي قال وفقاً للتراث القرائي: “ابحثوا عن تعلم التوراة باستمرار ولا تعتمدوا على رأيي”، أي “ابحثوا عن التوراة جيداً ولا تعتمدوا على أقوالي”. ومن آراء عنان بن داود القول إن التلمود غير مقدس لأنه لا يحتوي إلا على آراء الحاخاميين وهي قابلة للتخطئة والتصويب، فكيف يمكن ان تكون مقدسة، وإنهم يختلفون في كيفية أداء صلواتهم وعددها فهم يركعون ويسجدون كالمسلمين في صلاتهم/ الباحث جعفر هادي حسن/ محاضرة مصورة ألقاها بلندن سنة شباط 2014)

ويفهم من كلام ولفنسون أبي ذوئيب أن الكنيس الثاني في الفسطاط كان لليهود الربانيين الشوام، ولكنهم كانوا على خلاف مع اليهود العراقيين الربانيين. ويبدو أن الخلافات كانت قائمة بين طوائف اليهود كسائر الطوائف والمذاهب الأخرى فقد ذكر ولفنسون أن ابن ميمون انحاز الى اليهود العراقيين وفضل طريقتهم في التعامل مع التوراة، ومنح المؤمن مساحة واسعة للاجتهاد الشخصي الذي هو من أساسيات “اليهودية القرائية”، وختم قراءته في سنة واحدة فضلهم على غيرهم من اليهود كالشوام الذين يختمونها في ثلاث سنين.

 ولما سمع كلامه هذا رئيس الطائفة اليهودية بمصر غضب منه أشد الغضب وراح يحرض جميع اليهود ضده، ولكن عموم اليهود كانوا قد ضاقوا ذرعاً به وبالضرائب والرسوم التي كان يجتبيها منهم ليوفر مبلغاً معلوماً للسلطان لقاء كونه رئيساً للطائفة وحين ثار اليهود ضده اضطر إلى الهرب من الفسطاط واختار اليهود رئيساً غيره. ما يهمنا هنا هو تأكيد خصوصية اليهود العراقيين شكلاً ومعنى في ما ذكره ولفنسون نقلاً عمن كتبوا عن موسى بن ميمون وعن مصر آنذاك ومنهم المؤرخ الشهير المقريزي.

وفي الكيان الصهيوني تعيش أقلية من اليهود القرائين وهم يتعرضون لأبشع أنواع التمييز والاضطهاد، فالمتعصبون من اليهود الربانيين يعتبرونهم كفاراً وشياطين (وقانون الحكومة اليهودية التلمودية الآن يمنع الزواج بين القرائين وغيرهم من اليهود). وفي كتابٍ خُطّ بيد الحبر “سعديا بن جاؤون الفيومي- توفي في الفيوم سنة 942 م” جاء فيه (قاتل القرّائين الذين هددوا بتفريق وحدة الشعب اليهودي). ويقول المحامي “ناريا هاروئي” سكرتير محكمة القرائين في تصريحات صحفية نشرت سنة 2018 (إن إسرائيل لا تساوي بيننا وبين اليهود الربّانيين (الأرثوذكس)، ونحن نشعر بأننا يهود من الدرجة الثانية، إذ لا نجد حتى الآن مَن يمثّلنا في مؤسسة الأحبار الإسرائيلية العليا، علماً أننا كقرّائين لا نعترف بصلاحية أي شخص، ولاسيما الأحبار، في تفسير التوراة).

*ملاحظة أرقام السنوات في التاريخ قبل الميلادي تجري عكس مجرى الأرقام بعد الميلاد، فسنة 700 ق.م تكون قبل سنة 500 ق.م. أما سنوات ما بعد الميلاد فسنة 500 تأتي قبل 700 ب.م.

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق