شريط شائك مزّق وحدة الأرض في شمال سورية، حيث تبدو السهول الخضراء وكأن سكيناً قد فتح في جسدها جرحاً ليبعد شمالها عن جنوبها، ليحكم التيه والحيرة عقل وروح أهلها، فمنهم من استكان صامتاً، إلى ما آلت إليه الاتفاقيات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، فمنحت تركيا بموجب اتفاقية لوزان 1923، شمال سورية بكامله، فبقي هؤلاء في أرضهم وبيوتهم يواجهون أعتى مخطط لاقتلاعهم أو تتريكهم أو دفعهم للهجرة النهائية أسوة بالذين سبقوهم من بني جلدتهم، والذين تلاحقهم صور تاريخهم وذكرياتهم يورثونها لأبنائهم وأحفادهم، رغم قساوة تلك العبارة التي يرددونها مع الأديبة هنرييت عبودي التي وضعت كتاباً حول مصير ماردين، معنوناً بهذه العبارة المأساوية: وداعاً يا ماردين!!
تبدو ماردين من خلف الشريط الشائك على الطريق بين الدرباسية وعامودا، وكأنها (عش نسر) عملاق وأسطوري يحرس السهول المنخفضة تحت قدميه، كي يحفظها كمنجم للخير الذي أمّن استقرار الإنسان هنالك منذ فجر التاريخ. وفي الليل تبدو ماردين كثريّا معلّقة في سماء سورية.
يتحسّر الماردينيون (أو الماردليون)، على مدينتهم التي هُجّروا منها وابتعدوا عنها، فتغيرت بنيتها السكانية بنسبة تكاد تصل إلى 98%، منذ أن بدأت مذابح (سيفو 1915 – 1918)، والتي فتحت باب النزوح الكبير عن ماردين وسواها، فهاجر السكان وتغيرت الديمغرافيا، وتغيرت معها وظيفة تلك الصروح التاريخية، التي شهدت أروقتها ذلك التفاعل الخلاّق للفكر اللاهوتي وتجديداته وما انطوى عليه من ابداع فلسفي وأدبي.
ماردين: موقعها وواقعها
ماردين مدينة شهيرة عامرة تقع شمال سورية / تحت الاحتلال التركي اليوم / وهي ضمن المنطقة المعروفة / كيليكيا / كانت جزءا من الدولة العربية بعد الحرب العالمية الأولى. وهي ضمن منطقة النفوذ الفرنسي حسب اتفاقية سايكس بيكو – 1916 وحسب تسويات مؤتمر الصلح في باريس 1919 بزعامة الدول المنتصرة / الحلفاء /، الذين اعتبروا أن تركيا قد استسلمت قيل نهاية الحرب بموجب هدنة مودروس 1918. بعدها، ألحقت كيليكيا بتركيا فتنازلت عنها فرنسا وأخرجتها من المنطقة الزرقاء، وبذلك فقدت سورية شمالها التاريخي بكامله من الحدود الراهنة حتى أعالي جبال طوروس.
ماردين كلمة سريانية تعني القلاع – كما عرفت مردي: نجم المعرفة.
وهي مدينة مشيدة فوق جبل تعلوه قلعة ليس لها مثيل في عظمتها وتحكمها في الطرق، سميت سيدة القلاع أو قلعة النسور أو عش الطيور.
قرب ماردين أي ضواحيها القريبة جداَ/المنصورية – القصور – تل أرمن – قلعة المرأة / فيها دير الزعفران أقدم وأكبر الأديرة فيها.حيث مركز بطاركة السريان الأورثوذوكس.
تطل ماردين على دارا ونصيبين وسنجار والخابور-رأس العين. بيوتها جميلة ومنوعة وأجملها بطريركية السريان الكاثوليك في وسط ماردين وعلى شارعها الرئيسي/حولت الدولة هذا الصرح إلى مركز عسكري 1915 ثم إلى متحف.
بيوتها كالدرج بعضها فوق بعضها الآخر، شأن كل المناطق الجبلية، مبنية من الحجر الأبيض الصلب، يتكلم سكانها العربية. بقي أبناؤها أوفياء لها، رغم هجرتهم القسرية عنها وانتشارهم في المناطق القريبة، حيث عمروا تجمعات بشرية أضحت اليوم مدناً/الحسكة -القامشلي -عامودا الدرباسية –رأس العين – المالكية/وهذه تشكل اليوم محافظة الحسكة – وانتشروا بعدها في أصقاع الأرض.
ماردين مناخها جيد، ماؤها عذب، بساتينها خضراء، حدائقها غناء، رياضها زاهرة، كرومها مخصبة يكثر فيها السمن، الصوف، الجبن .
غنية بأشجار الجوز، اللوز، المحلب، العفص، البطم، الخوخ، الإجاص، الكمثرى، التفاح، البندق، الكستناء، العنب، المشمش، التين، وكافة أنواع المكسرات. والخضار بأنواعها.
يوجد فيها ثلاثة ينابيع: الجوزة، الحربيات، الخرنوب. وبسبب من شتائها البارد والمثلج يعمل أهلها على تأمين كل مستلزمات المعيشة ويخزنوها. من اللحوم يعدون (القديد، البسطرمة، القلية، القاورمة) . من الحلويات (العقود، البستيق، الحلاوة الجوزية والعادية).
في السيرة التاريخية: (محطات رئيسية)
الآشوريون هم سكان ماردين، وفيما دخلها الفرس قبل الميلاد، فإن الوضع تغير تماماً في القرن السابع الميلادي، مع استيلاء عمر بن الخطاب عليها. ومن ثم خضعت للدولة الأموية.
1095 – 1421 سيطر الأرتيقيون ( سلالة تركمانية)على ماردين.
1393 – 1400 تعرضت خلال هذه السنوات لحملات جيش تيمورلنك، الذي أحرق كنائسها، وصهر الذهب الموجود على جدرانها (كنيسة دير الزعفران).
1513 – استولى عليها العثمانيون بقيادة السلطان سليم الأول.
1621 – توالى عليها حكام السلطنة العثمانية، الذين ضيقوا سبل الحياة على أهلها الذين أخذوا يستنجدون بحكام بغداد حتى العام 1727.
1777 – ثار أهلها على الحاكم الذي قتل مسموماً.
1807 – دخل الداشية إليها ونهبوها.
1817 – وخلال حكم أحمد آغا السلحدار، ألقي القبض على بطريرك السريان وسجن، فدافع عنه الياس شادي كبير الأرمن وافتداه بـ 40 كيس ذهب، ليضطر السريان إلى بيع أوقاف كنيسة الأربعين وشموني ودير ميخائيل للطوائف الأخرى.
1831- قبض على الياس شادي، وقتل وسحلت جثته.
1845 – أصبحت ماردين تابعة لولاية ديار بكر.
1889 – نصّب أنيس باشا متصرفاً على ماردين.
1895 – بدأت الفتن تظهر مع أعمال القتل المتواصلة.
1914 – بداية الحرب العالمية الأولى، ومعها كانت ماردين مشكلة من نسيج سكاني متنوع طائفياً وإتنياً: سريان وأرمن وكلدان كاثوليك، وسريان أورثوذوكس وبروتستانت، مع كنائس وأديرة وأوقاف تعود لهذه الطوائف، إضافة لجامع واحد هو بالأصل كنيسة سريانية. وفي هذا العام عادت الفتن للظهور وبدأ الخطر يهدد ماردين بشكل غير مسبوق.
1915 – مذابح سيفو: التي شملت ماردين – سعرت – بازبدى – جزيرة ابن عمر – كربوران – دير العمر – دير الصليب – آزخ – باسبرنيا – عينورد – نصيبين – دارا – دير الزعفران – قلعة المأة – المنصورية – القصور – تل أرمن – ويران شهر – ديار بكر – السعدية – ميافارقين – بنابيل – أرضروم – مدياث – الصور – ديركه – أورفا – ملاطيا – قلث – الابراهيمية – عبد الامام…. وغيرها مدن شمال سورية.
استمرت المذابح حتى العام 1918، والتي جاءت حسب خطة الاتحاديين الذين استهدفوا تغيير النسيج السكاني السوري في تلك المنطقة. العدد الإجمالي للضحايا يقارب المليونين، الذين دفنوا في مقابر جماعية بعيداً عن الاعلام ووسط صمت دولي لأسباب تتعلق بالمصالح السياسية.
ماردين شاهد على مأساة التاريخ السوري الحديث.
——————————–
هامش: معلومات هذا النص أعدها الأستاذ ألبير منصوراتي.
حسب معلوماتي ثقع كيليكيا شمال غرب لواء الاسكندرون او شمال شرق المتوسط وماردين تقع شرق الفرات فهي ليست في كيليكيا.
بالمناسبة يقال ان عائلة فيروز من ماردين ونزحت منها الى لبنان بهد مذابح سيفو التي نفذها الاكراد بقيادة وتوجيه من الاتراك
صحيح تماماً، لكننا استخدمنا كيليكيا في العنوان لأسباب إعلامية ، ويبدو أن التباساً وقع نتيجة ذلك ولهذا قممنا بالتصحيح
شكراً جزيلاً لملاحظتك
مؤتمر الصلح لم يكن صلحاً ولكن كان تآمراً وتقاسم مغانم.. تآمر الغرب مستمرٌ إلى اليوم. وأيضاً سايكس-بيكو لم يكن إتفاقا ولكن مائدة طعام حولها كواسر.