مسار جلجامش

معاني الشهادة في التاريخ السّوري

قراءة من منصّة الثامن من تموز

 

الثامن من تموز من كل عام، هو مناسبة لتاريخ استشهاد باعث النهضة القومية الاجتماعية انطون سعاده، مناسبة تقام فيها احتفالات، وخطب منبرية تحاول ان تستجمع قدراتها، وتشحذ أقلامها، حتى تتمكن من إيفاء الزعيم الشهيد بعض من حقه.

إنه لمن المجحف بحق “انطون سعاده “، أن نتناول موقعة اغتياله كحدث قائم بذاته منقطعاً عن ما سبقه، من تاريخ سورية الطويل، أو ما سوف يأتي من بعده. ولا يمكن لنا بحال من الأحوال أن نحول هذه المناسبة إلى حالة طقسية تقام فيها احتفالات أشبه بمراسم العزاء.

لقد حدد ” سعاده ” نفسه مشروعه الريادي الذي يكفل تحقيق نهضة قومية شاملة. ومن اجل هذا التعيين والوضوح الذي لم يقتصر على الشأن الفكري فقط، بل تجاوز حالة التنظير الفلسفية والعقائدية إلى وضع غايته وفلسفته في صلب مشروع نهضوي يحقق بناء الدولة القومية الاجتماعية. وليس عبثاً أن تتصدر غاية مشروعه القومي دستور دولته، وتكون المادة الأولى في دستور هذه الدولة. وتكون المواد الثانية والثالثة منه أعمدة بنيان الدولة القومية الفكرية، ونظام الفكر العام مبادئه الأساسية والاصلاحية.

إذاً، كانت غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي كما وضعها سعادة في مقدمة الدستورهي:

“بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد الى الامة السورية حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الامة السورية استقلالا تاما وتثبيت سيادتها واقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها والسعي لإنشاء جبهة عربية”. (دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي وقوانينه٬ انطون سعاده٬ 1952). (سعادة أ.، الأعمال الكاملة2، 2002، صفحة 30)

يحدد ” سعاده ” في المبدأ السادس أنه صاحب فلسفة ونهضة جديدة تشكل، استمرارية لخط سير الفكر السوري الفلسفي العظيم عبر التاريخ. إن هذا التحديد كما وضعه في صلب بنيانه الفكري. أما المادة الثانية التي تتضمن المبادئ الاساسية للحركة القومية الاجتماعية، التي تعيد إلى الأمة السورية مكانتها الفلسفية التي خسرتها بين الامم لأكثر من ألفي عام. يجب علينا أن نغوص عميقاً في درس المبدأ الاساسي السابع حتى نتمكن من فهم روحية العقيدة القومية الاجتماعية الواضحة:

“تستمد النهضة القومية الاجتماعية روحها من مواهب الامة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي”. (دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي وقوانينه٬ انطون سعاده طبعة٬ 1952).

إن هذا التعيين يؤكد على أن مشروع سعاده ليس مشروعاً سياسياً فردياً.

“إنّ أنطون سعاده لم ينشئ حزباً سياسياً فقط ليتزعمه. إنّ أنطون سعاده أنشأ العقيدة القومية الصحيحة والقضية السورية القومية وأنشأ، فوق ذلك، مدرسة التفكير السوري القومي في الحياة والفن”. (الاعمال الكاملة٬ مؤسسة سعاده للثقافة٬ 2002)

 إنه في الدرجة الاولى يقوم على بعث نهضة سورية قومية اجتماعية، مستمدة روحها من مواهب الأمة الثقافية عبر تاريخها الطويل، لقد أدرك أنه لا يمكن أن تنشا في سورية وحدة قومية سياسية من دون نهضة ثقافية منبثقة من روحها ومواهبها عبر التاريخ. لقد قدم ” سعاده ” العقيدة القومية الاجتماعية كفلسفة، ونظرة جديدة الى الحياة والكون والفن. هذه النظرة الجديدة التي تحمل في أعماقها روح الفلسفة السورية التي سبقتها والتي يعتبرها امتداداً لها، وهنا نتكلم عن الفلسفة الرواقية وفيلسوفها ” زينون الرواقي “. لقد كانت سورية ولا تزال رائدة الفكر الوجودي عبر التاريخ. وعليها قامت الديانتان المسيحية والمحمدية، فالمسيحية لم تضف على الفلسفة الرواقية الا فكرة الله، والمحمدية أيضاً، وعلى قيم الرواقية الاخلاقية الانسانية نهضت مجتمعات وازدهرت امبراطوريات.

إن اعتبار القومية الاجتماعية، عطية سورية إلى العالم، يأتي من ضمن سياق الأخلاق السورية ومسؤوليتها تجاه الإنسانية، ويحافظ على موقع سورية الرائد ودورها في تطوير الحياة البشرية عامة وليس السورية فقط.

اننا نعلم أن فلسفة زينون الأول قد عمت العالم القديم، وسادت مفاهيمها بين الشعوب، لدرجة دفعت الشاعر اللاتيني الساخردو جيوفينال، الى الاحتجاج على تدفق الأجناس البشرية الشرقية ومعها عاداتها وتقاليدها، وقد استعمل هذا الشاعر عبارة طالما اقتبسها الادباء وهي: “لقد فاض نهر العاصي وغمر نهر التيبر” وأن روما معذورة اذا حزنت وندبت حظها عندما انقطع فيضان نهر العاصي وانعدم اتصاله بنهر التيبر << أميرات سوريات حكمن روما للكاتب جودفري تورتون ص 238 >>

أنطون سعادة

وهي لم تتوقف عند التأثير الثقافي، بل تجاوزته إلى درجة تمكن فيها من حكم روما السياسي.  ماركوس اوريليوس حكم روما من الفترة 96- 180 كان آخر امبراطور من أصل خمسة اباطرة رواقيين حكموا روما تلك الفترة التي يطلق عليها العصر الأنطونيوني[1] وتعد في نظر المؤرخين الأسعد في تاريخ الامبراطورية. ليس غريباً إذا عرفنا ان اوريليوس الامبراطور كان رواقياً ومن كبار الفلاسفة الرواقيين. ففي كتاب استاذ الفلسفة في كلية الآداب – جامعة القاهرة الدكتور مصطفى النشار الصادر في نيويورك 29- 4 – 2017 تحت عنوان “فلسفة التاريخ – نشأتها وتطورها من الشرق القديم حتى توينبي” يعنون أحد فصول الكتاب “عصر الرخاء … حين حكمت الفلسفة الرواقية”:

“في عهده وصلت روما الى درجة لم تعرفها مع غيره من الاباطرة من قبل وقد وصفه بعض المؤرخين بأنه بلغ اعلى درجات الحكمة٬ فكان مثالاً للعدل ورقة القلب، وتعد كتاباته في الفلسفة الرواقية من ارفع ما انتجه العقل القديم في الفكر الاخلاقي”. (مصطفى النشار٬ فلسفة التاريخ – نشأتها وتطورها من الشرق القديم حتى توينبي٬ 2017).

ليس الحديث عن زينون وتلامذته هنا إلا من زاوية الإضاءة على إشعاع سورية الفكري – الفلسفي على العالم بدءاً بالرواقية وصولاً إلى القومية الاجتماعية. وكما كتب تلميذ الرواقية وفيلسوفها الابرز اوريليوس

“انها تهدف الى الغايات النبيلة والزهد في الدنيا وبساطة العيش، وتعد إنكار الذات أسمى الغايات”.

نرى أن القومية الاجتماعية يجب أن تحفر على لوح قلب معتنقيها مبدأ اساسياً مقدساً “مصلحة سورية فوق كل مصلحة” ويعتبر هذا المبدأ تجسيداً عملياً للمبدأ الرواقي في نكران الذات من أجل مصلحة المجتمع. لقد دفعت الرواقية التي عمت العالم القديم، وأنقذته من انهيار وشيك كاد ان يقضي عليه بفلسفات الابيقوريين والمستهترين القائلين بوجوب هدم المصطنعات الاجتماعية باسرها والرجوع الى حالة البدائية الاولية، وكان من هؤلاء كرايتس معلم زينون. كذلك كان دور الفلسفة القومية الاجتماعية في هدم المبنيات البالية وبعث النهضة القومية. إن الربط بين سعاده وزينون ليس من بنات افكارنا، بل يأتي من سعاده نفسه. ففي مقالة له نشرت في ” سورية الجديدة ” تحت اسم مستعار هو “نصوح الخطيب” تحت عنوان “من عهد زينون إلى عهد سعاده” في العددان 54\55 تاريخ 1\3\1940 يتكلم سعاده عن الفلسفة القومية الاجتماعية بشكل يظهر زينون وكأنه لم يتعد حدود الفلسفة النظرية أما زينون القومية كما يصف سعاده نفسه فقد رسم الخطة ووضع نفسه في الطليعة. والمقصود هنا ترجمة مبدأ الواجب الذي ابتدعه زينون وجسده انطون سعاده ببناء المؤسسات التي تقوم بواجباتها تجاه فلسفتها ومبادئها.

“من تلك الشرارات التي كانت تشعها سورية في مختلف العصور، حاملة إلى العالم وقيد الفكر والعبقرية، زينون فيلسوف الرواقية. ظهر زينون في أزمة من أزمات التاريخ الحرجة فوجد جيلاً متضعضعاً في روحيته وعقائده، وكان زينون رسالة الخلاص لذلك الجيل ولأجيال عديدة تلت. كانت حضارة المتوسط القديمة، المتركزة في دولة المدينة، على وشك الانهيار بعد أن تصدع بناء النظام السياسي لدول المدن، وبدأ ظل الامبراطورية العالمية يمتد على العالم. لم يكن للإمبراطورية الناشئة أن تحل محل الرابط الاجتماعي في مجتمع المدينة الصغير، ولذلك ضعف رابط الاجتماعية في الأفراد، بعد تضعضع الأنظمة المحلية، واتصل أثر هذا التغيّر الفجائي بالفلسفة فانحطت إلى جماعات وفرق تسعى كل منها إلى سعادة الفرد واستغنائه دون ما نظر إلى المجموع. وكان من هذه الفرق جماعة الأبيقوريين الذين جعلوا اللذة هدف الإنسان الأسمى، وجماعة المستهترين Cinico الذين قالوا بوجوب هدم المصطنعات الاجتماعية بأسرها والرجوع إلى حالة الحيوانية الأولية، وكان من هؤلاء كرايتس معلم زينون”. (الاعمال الكاملة٬ مؤسسة سعاده للثقافة٬ 2002).

“ولكن يظهر أنّ العناية أرادت لهذه الأمة غير هذا المصير ولذلك فبين تعارك الظلمات المتلبدة يظهر فجأة في سماء تلك البلاد كوكب الفكر والعزيمة يجمع الشمل ويهديه إلى سبيل الحياة. ذلك كان ظهور سعاده، عبقري الأمة السورية الجديد. إنه زينون آخر، ولكن هذا الزينون غير ذلك الزينون. إنّ زينون الرواقية أعلن مبدأ الواجب وكان آخر من عيّن على نفسه قسطاً من ذلك الواجب ولذلك ظلت مبادئه نظريات جميلة تحققها بعده الأجيال. إنّ زينون لم يستطع أن يعيّن بالضبط ما هي المسؤولية الملقاة عليه وعلى أمته تجاه العالم وتجاه تحقيق مبدأ الفكر والنظام والعدل في الإنسانية ولذلك نراه يموت معلماً شريداً عن بلاده تاركاً أمته المؤهلة لحمل رسالته في التاريخ تتقلب على الفتوحات من جيل إلى جيل. إنّ زينون الرواقية رسم الخطة ولم يبنِ ولم يعنَ بقيمة المؤسسات التي وحدها تتولى تحقيق المبادئ.” (الاعمال الكاملة٬ مؤسسة سعاده للثقافة٬ 2002).

 وهنا يبرز السؤال الم تكن هذه هي حال سورية قبل بزوغ فجر النهضة القومية الاجتماعية؟ وأيضاً الم يصر هذا حال حزبه من بلبلة العقائد والفلسفات الهدامة للوحدة القومية؟ ولنا في صفصطات فايز صايغ وغيره فيما بعد، الذين أخذوا يلاطمون بالعقيدة يميناً ويساراً أكبر مثال على أن العفن لا يزال يعشش في النفوس البالية. وهذا يؤكد على أنهم لم يفهموا سعاده، ام أنهم فهموه فقتلوه. فبعد أن قتلوا سعاده الشخص انبروا إلى اغتيال سعاده الفكر. إذا كان ابداع زينون في إضافة مبدا الواجب على القيم المجتمعية فإن سعاده وضع هذا الواجب وغيره من القيم في صلب البنية الثقافية للنهضة القومية الاجتماعية. فنرى قيم الحرية والواجب والنظام والقوة التي حفرت على زوايا الزوبعة أنها لم تأخذ الحيز الكافي من الشرح والتثقيف.

“منذ تلك الساعة انبثق الفجر من بعد الليل، وخرجت الحركة من الجمود وانطلقت من وراء الفوضى قوة النظام، واصبحنا امة بعد ان كنا قطعاناً بشرية، وغدونا دولة تقوم على اربع دعائم  : الحرية ، الواجب ، النظام ، القوة ، التي ترمز اليها اربعة زوايا الزوبعة القومية الممثلة في علم الحزب السوري القومي”.(الاعمال الكاملة٬ مجلد 2 ٬ مؤسسة سعاده للثقافة٬ 2002).

ونرى ايضا في الخطاب المنهاجي الاول بتاريخ 1\ 6 \ 1938 والذي نشرته في بيروت، مجلة النهضة العدد 89 بتاريخ 30\ 1 \ 1938 قيمة شعارات الزوايا الاربعة وأهميتها، لدرجة ان سعاده قد اعتبر ان النجاح الاخير يتوقف على ادراكها:

“ولا بد لي هنا من التصريح بأن الحزب السوري القومي قد أوجد طريقة التغلب على هذه الصعوبات بنظامه الذي يصهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة والنفسيات المنافية لنفسية الأمة، والنجاح الأخير يتوقف فعلاً على إدراكنا قيمة هذه الحقيقة وعلى تطبيقنا رموز الحزب الأربعة التي تربطنا ربطاً لا يحل التي هي: الحرية والواجب والنظام والقوة “. (الاعمال الكاملة٬ مجلد 2 ٬ مؤسسة سعاده للثقافة٬ 2002).

لقد رأينا، اهمية فهم تعاليمه وكم كان يعول على رفع المستوى الثقافي لشعبه عامة، واتباعه خاصة، الذين تلقى على عاتقهم مسؤولية عمل المؤسسات التي انشأها. إذا كان سعاده قد آمن بان النهضة القومية هي انقضاء ليل وبزوغ فجر فماذا يمكن لنا ان نكتب ونوصّف موقعة استشهاده؟

   لقد رأينا في استشهاده فيلسوفاً، معلماً، وهادياً، يسير الى الموت على قدميه بابتسامة لم تفارق محياه، ينظر الى تابوته نظرة ازدراء، والى جلاديه نظرة مغفرة لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون. لم يطلب العفو ولا العون من أحد، ولا الرحمة مِن مَن اعتبرهم خونةً للشعب والارض، شاكراً لجندي من ابناء أمته رفع الحصى التي كانت تؤلمه من تحت ركبته، وكأنه يقول لهم لا يخيفني رصاصكم الذي سوف يمزق جسدي بعد هنيهات من الآن.

 ففي جولة له في الشام ابتدأها في حلب وانتهت في طرطوس، أورد أنطوان بطرس في كتابه “مع أنطون سعاده من التأسيس الى الشهادة” في الصفحة 215 نقلاً عن كتاب مع أنطون سعاده ج 4 – ص 77 – 78

 ومن غرائب الامور ان خاتمة هذه الجولة الكبيرة، التي تابعتها ونقلتها الصحف، قد حملت نبوءة لما ستصير إليه الأمور بعد أشهر معدودات. فهناك في طرطوس ثمة نص قصير لكلمة، وربما جزء من كلمة لم تسجل بكاملها، القاها سعاده بينما كانت السماء تمطر. لا نعرف بما فكّر سعاده قبل أن نظر الى الجموع المحتشدة أمامه وخاطبهم بكلام بدا ابن ساعته. قال:

إننا نقف اليوم تحت الأمطار ونحن نعرف أن مطر الماء ليس شيئاً بالنسبة الى مطر الرصاص، وإننا تحت مطر الرصاص نقف الموقف نفسه نستقبل الرصاص كما تستقبل وجوهنا قطرات الماء

وهنا يعلق انطون بطرس على تلك الكلمات فيقول:

ترى هل كان ينظر أمامه، وهو يحدق بالناس، فيرى مشهد وقفة العز في وجه بنادق فصيلة الإعدام بعد أشهر معدودات؟ أياً كان من الأمر فمن الحقائق التي جسدها في حياته: صدقه وشجاعته –  انطون سعاده من التأسيس إلى الشهادة ص 215

 وايضاً ومن ضمن ما وصل الينا من مقتطفات ومرويات يأتي انطون بطرس في كتابه على ذكر حادثة حصلت بين ” سعاده ” ومحافظ اللاذقية آنذاك تثبت لنا أن ” سعاده ” لم يكن يأبه للموت لحظة في حياته فعندما حدثه ذلك المحافظ متغطرساً ومهدداً أجابه ” سعاده ” بحزم:

((الدائرة بتدور علينا وبتدور على غيرنا. نحن مننقتل ومنقتل. إن حياتي لا توازي تكة في سبيل مبادئنا وأهدافنا)) – انطون سعاده من التأسيس الى الشهادة ص 214

وهنا يثبت ان شعار الواجب الذي يكلل زوبعة الحزب لم يكن الا قيمة فلسفية مارسها سعاده في أبهى صورها ليواجه الموت بشجاعة لم تعهدها البشرية في أي انسان من قبل.

وإذا قرأنا ماذا كتب الطبيب الذي عاينه في تلك الليلة د. ألبرت نجار في مذكراته: حين بادره “سعاده” بالسؤال

((ماذا يا دكتور؟ اتحسب نبضي متسارعاً من خوف …!!

الخوف بالحري على هذه البلاد، اما انا فبرهة الموت عندي ومضة كطرفة العين أمضي بها الى خلودي …!!

هكذا كان رد انطون سعاده على الطبيب ألبرت نجار، عند جسه لنبض الزعيم قبيل اعدامه بلحظات

ويضيف الطبيب نجار أنه تفاجأ أن نبض الزعيم كان طبيعياً جداً، رغم علمه أنه متوجه إلى الإعدام؟

هنا ندرك ان ” سعاده ” بلغ من القوة الروحية درجة لم يدركها بشر. فأوفى بقسم الزعامة الذي ما كان لأحد أن يفرضه عليه او يطلبه منه. بكل ايمان، وكل عزيمة صادقة، وقف أمام تلامذته، الذين جاؤوا للاحتفال بميلاده عام 1935 في رأس بيروت، وأدى من غير علم مسبق من الحاضرين، قسم الزعامة، ليقف نفسه على امته السورية ووطنه سورية، عاملا لحياتهما ورقيهما، وعلى ان يكون أمينا للمبادئ التي وضعها واصبحت تكون قضية الحزب.

لقد أخرج ” سعاده ” كل الشعارات الفلسفية والسياسية من التنظير الى التطبيق. وتجاوز جميع المنظرين والفلاسفة وأصحاب الشعارات الفضفاضة الذين سبقوه لأنهم لم يستطيعوا ترجمة نظرياتهم وفلسفاتهم إلى مشاريع نهضوية لشعوبهم. أما نقطة الفصل الأخير من ملحمة سعادة كانت لحظة مواجهة الموت التي قطعت الطريق على الشك بالبرهان أن البطولة التي كان يتكلم عنها كانت مجسدة في قلبه ووجدانه، والبطولة التي كان يطلبها من اتباعه كانت نابعة من داخله، ومارسها بكل اخلاص وكل عزيمة صادقة. وهو القائل: ((مارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب، بل خافوا الفشل))

 أهي صدفة أن يصف نفسه بزينون وهنيبعل؟

 تحت هذه الاسماء كان يوقّع معظم مقالاته تيمناً بأعظم رائدين من رواد سورية. زينون وفلسفته العظيمة، صانت المدنية البشرية وقيمها من الانهيار، وحنيبعل أعظم نابغة عسكري في كل العصور، دافع عن بلاده ومصالحها ليحمي العالم من بطش روما وغطرستها. إن الموت من أجل قضية يضع قيمة نكران الذات الرواقية النبيلة موضع التنفيذ ويرفع عن الأمة الظلم والعار ويرفعها إلى أعلى مراتب الشرف والحرية. زينون مات شريداً في بلاد لم تكن بلاده، ورفض أن يحمل جنسيتها حين عرضت عليه. وحنيبعل عاد إلى وطنه، حتى يتجرع السم، ويموت وحيداً في صور بعد أن خذله تجار قرطاجة، ويقتاد يسوع في بستان الزيتون من بين تلامذته ويصلب وحيداً.

وهنا نسأل لماذا لم يقبض الرومان على تلامذته الذين كانوا معه في تلك الليلة في بستان الزيتون؟

والسؤال يكرر نفسه أين كان أعوان سعاده في تلك الليلة أيضاً؟

غير بضعة أبطال قوميين قبض عليهم إلى جانب الشهيد الصدر عساف كرم، وأعدمت الدولة اللبنانية بعضهم حسب التوازن الطائفي ((يا خجل التاريخ من تلك الليلة ))

 هذه الكلمات التي نقلها الأب برباري، عن لسان أنطون سعاده، حين طلب ورقة وقلم، كي يكتب كلمة يسجلها للتاريخ، ولكن طلبه هذا قوبل بالرفض من سلطة كان معظم أركانها مدرجة أسماؤهم على جدول المرتبات الشهرية للوكالة اليهودية منذ مطلع العشرينات من القرن الماضي. ولم تكن تواقيع بشارة الخوري ورياض الصلح ومجيد أرسلان إلا تنفيذاً لطلب أولياء النعمة فدمغت حوافرهم صك اعدام أنطون سعاده .

 وكان الكاتب القومي الكبير سعيد تقي الدين قد صاغ أحداث تلك الليلة التي استقاها من الأب برباري نفسه في اسلوب أدبي غاية في البلاغة الادبية المؤثرة تحت عنوان:

 << حدثني الكاهن الذي عرّفه >> لتعود إلى الحياة وتتلى في كل احتفالات الثامن من تموّز. وكأنه بسورية تقيم زياح أدونيس كما درجت العادة قبل المسيحية في كل تموز.

إن تحديد سعاده واضح جداً في شرح علاقة الحرية بالموت، والحرية إحدى دعائم الحزب الأربع. وهذا محدد وواضح وضوح الشمس وفي هذا يقول:

((منذ الساعة التي عقدنا فيها القلوب والقبضات على الوقوف معاً والسقوط معاً في سبيل تحقيق المطلب الأعلى المعلن في مبادئ الحزب السوري القومي وفي غايته، وضعنا ايدينا على المحراث ووجهنا نظرنا الى الأمام الى المثال الأعلى، وصرنا جماعة واحدة ، وأمة حية تريد الحياة الحرة الجميلة ، امة تحب الحياة لأنها تحب الحرية ، وتحب الموت متى كان الموت طريقاً للحياة ))  .  الاعمال الكاملة م 2 -– ص 3

أما ما كتبه الأمين سليم سعدو سالم في مذكراته التي صدرت في بيروت عام 2017 تحت عنوان << حان الوقت، مذكرات شاهد، سليم سعدو سالم يعرف ويعترف >>

للإيضاح فقط إن الأمين المذكور كان قد شارك في معارك فلسطين ضد العصابات اليهودية، وكان أحد جنود الجيش القومي الذي تنكب مسؤولية إعلان الثورة القومية الاجتماعية الأولى تحت قيادة الشهيد الصدر عساف كرم الذي استشهد على بعد خطوة من الأمين سليم ويقع هو اسيراً في أيدي قوات الأمن اللبنانية. يصف ألأمين سالم ليلة وصولهم إلى الحدود اللبنانية من جهة دمشق وكان عددهم 34 مقاتلاً وزع عليهم خمسة عشر بندقية فقط وألقى بهم ” سعاده ” خطبة مختصرة مضمونها: ((إنكم أصغر جيش يقاتل من أجل اقدس قضية ))    حان الوقت ص 60

وكان الأمين سليم آخر من شاهد سعاده في قاعة المحكمة فيصف في الصفحة 68 من مذكراته كيف بدا الزعيم منهكاً، فهو لم يذق طعم النوم منذ ثلاثة أيام، وكيف كان رد سعاده على لهجة المدعي العام التي تنم عن حقد دفين ولا تليق إلا بأصحاب النفوس الخسيسة، لترتسم على وجه سعاده ابتسامة خفيفة ويرد بلهجة حاسمة على المدعو يوسف شربل ((إنهم شباب مخلصون، نفذوا اوامر تلقوها))    حان الوقت ص 74

وفي ذلك الليل الطويل يقف ” سعاده ” في قاعة المحكمة كالطود ويحلق كالنسر ليسمع ذلك القاضي المتغطرس يلقي عليه ابياتاً من الشعر فيقول:

إن الزرازير لما قام قائمها

ظنّت نفسها صارت شواهينا.

ورغم الألآم الكبيرة التي كان ” سعاده ” يتحملها في تلك الليلة فلم تنل من عزته ولم تنحن لها قامته ليقف وقفة العز العظيمة دفاعاً عن كرامة الحزب وقضيته المقدسة التي قدم نفسه فداء لها ويرتجل أبياتاً من الشعر فيرد لذلك المدعي العام الصاع صاعين فنظر إليه ” سعاده نظرة احتقار وقال:

وفي الزرازير جبن وهي طائرة

وفي البزاة شموخ وهي تحتضر

وكأنه بذلك استشرف مصيره قبل ذلك التاريخ بزمن طويل حين قال:

((إن آلاماً عظيمة آلام لم يسبق لها مثيل في التاريخ تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا))

ولا يمكننا ان ننسى بعض تفاصيل الخيانة التي تعرض لها ” سعاده ” من حسني الزعيم الى غيره من الخونة والعملاء والمضللين.

إ ن بعض مرويات القوميين عن تلك الليلة غير دقيقة اذ ومنذ دخولي الحزب كنت أسمع عن مروءة فريد شهاب مدير عام الأمن العام اللبناني آنذاك، وكيف أنه رفض قتل أنطون سعاده في الطريق، ولكن هذا الكلام مغاير للواقع تماماً.

والحقيقة هي كالتالي:

لقد قام أحد القوميين المخلصين في العام الفين هو الرفيق ايليان شمّا بزيارة احد الأشخاص الذين كانوا في عداد القوة العسكرية ألتي تسلمت ” الزعيم ” من دمشق وهو من عائلة بيروتية ((من آل أرضوروملي )) وهناك تسجيل صوتي لهذا الشخص المذكور،  فيروي عن تلك الليلة، كيف أن فريد شهاب، وبعد دخولهم الأراضي اللبنانية عند نقطة ألمصنع توقفت القوة وترجل الجميع دون اي سبب. ((وهناك تنحى بي فريد شهاب جانباً وفي ظلمة حالكة وبصوت خافت طلب مني إنزال انطون سعاده من سيارة الجيب العسكرية بذريعة حاجته لقضاء حاجة وهناك تطلق عليه النار لمحاولته الهرب، فكان ردي ما لم يخطر في بال فريد شهاب، فقلت له أنا مسلم مؤمن بالله وأن ديني لا يسمح لي بقتل نفس بريئة))

هنا أيقن فريد شهاب أن خطته قد فشلت، في تصفية أنطون سعاده على الطريق، للحؤول دون وصوله الى بيروت، وانكشاف امر المتآمرين على أنطون سعاده، وكتاب انطوان بطرس حافل بالتفاصيل عن تلك المؤامرة رغم اخفائه بعض المعلومات القّيمة بحجج غير مقنعة.

بالعودة الى المدعي العام يوسف شربل وكيف تمت محاولة اعدامه على يد بطل قومي اجتماعي يدعى حسين الشيخ كما رواها لي شخصياً أكثر من مرة، وكيف انه تردد على مكتبه عدة مرات للسؤال عنه دون أن يوفق.

 وفي أحد المرات سأله السكرتير ماذا تريد منه؟

 فأجابه الرفيق الشيخ انني أريد أن أقتله. فنظر إليه متعجباً وهنا عاجله حسين بابتسامة ممازحاً أزالت علامات التعجب عن وجه ذلك الموظف.

هذا الاصرار دفع الرفيق حسين الشيخ إلى متابعة يوسف شربل وإطلاق رصاصتين لا ثالث لهما بسبب عطل اصاب مسدسه (اي بالعربي الدارج روكب المسدس)

وغادر الشيخ إلى افريقيا في نفس الليلة بناءً على ترتيب مسبق، لتبدأ رحلة معاناته التي كما أخبرني من الاهوال والعذابات. وكم كانت دهشتي عندما قال لي في أحد المرات انه لو عاد به الزمن الى الوراء سوف يحرص ان لا يروكب مسدسه وينهي حياة يوسف شربل بدل تركه مقعداً على كرسي مدولب. ولنا في مقطوعة الأديب القومي الكبير ابلغ تعبير حين كتب مقالة معبّرة تحت عنوان

<< حين تروكب العدالة >> منشورة في الجزء الخامس ص 91 من مجموعة سعيد تقي الدين عن دار النهار للنشر عام 1970

بالعودة إلى فترة وبعد صدور الحكم بالإعدام بحق ” سعاده ” والحوار الذي دار مع الطبيب نجار ومع الأب برباري ( بالمناسبة ان أولاد الأب برباري دخلوا الحزب وأصبحوا من خيرة القوميين الاجتماعيين ) وكيف أن ” سعاده ” قد قفز من السيارة العسكرية التي نقلته الى شاطئ الاعدام ، لتهتز الأرض تحت قدميه، وكيف نظر الى التابوت الخشبي نظرة ازدراء، وكأن الإعدام قد نفّذ فيه مرات عديدة من قبل، وكأنه لا يعنيه الأمر، ورفضه أن تعصب عيناه، كي يتمكن من رؤية الرصاص الذي سوف يخترق جسده، كأنه زخات مطر، وكيف طلب من احد العسكريين، ازالة حصى من تحت ركبته كانت تؤلمه وهذا الجندي روى عن تلك الليلة في حديث الى جريدة البناء عام 1972 في لقاء اجراه معه منفذ عام البقاع الغربي آنذاك الرفيق نظير مهدي والأثنان من بلدة مشغرة وعلى ما اذكر يدعى ( ميشال الزمّار ) . ليخبر عن رباطة جأشه، وشجاعته، هدوءه الرهيب في ذلك الليل الطويل. لا يمكن ان تكون تفاصيل تلك الليلة كما رواها الشهود العيان، والسلوك الأسطوري لأنطون سعاده، نابع من شجاعة شخصية، او بطولة فردية فقط، إن هذا السلوك الملحمي في لحظة الاستشهاد، وما سبقه في تلك المرحلة يعيد لنا ذاكرةً فقدناها وتاريخاً نسيناه وانتماء أضعناه.

إذا كان زينون الأول صاحب الفلسفة بتقادم الزمن، فهي حتماً تحمل في ما تحمل مخزون نفسية الأمة ومستمدة من تاريخها وثقافتها.

من شرائع ((اورنمو 2047 – 230 ق – م الى لبت عشتار 1940 ق. م التي شرحها عالم الاثار العراقي                                                             شعيب أحمد الحمداني في كتاب صدر عن جامعة بغداد 1988 بعنوان: قانون حمورابي.

وشرائع اشنونا او كما يسمونها قانون بلالاما 1930 ق. م يوجد شرح تفصيلي حولها في كتاب بعنوان: دليل خارطة بغداد المفصل تأليف د. مصطفى جواد و د. أحمد سوسة. التي سبقت شرائع ((حمورابي 1792 – 1750 ق – م)) بثلاثة قرون .  إلى ملحمة جلجامش اول ملحمة كتبت في تاريخ البشرية فإذا نمّت عن شيء فإنها تنّم عن ابداع الأمة السورية الروحي، في سن القوانين والشرائع والعدالة. وجلجامش الباحث عن الخلود الأبدي في صراعه مع الشر يستمد عبرةً أن الخلود وحده للأرض والأعمال الصالحة التي نتركها على هذه الأرض.

من هنا ندرك أن مبادئ الرواقية وتشريعاتها الفلسفية هي ايضاً مستمدة من تاريخ طويل يعود الى قرون عديدة. وإن المشرّعين الرواقيين أمثال ((بابينيان )) وتلميذه (( ألبيان )) السوريان لم يكونا البادئين بسن القوانين والشرائع، لقد سبقهما الى ذلك (( اورنمّو )) (( ولبت عشتار )) (( واشنونا )) ( وحامورابي )) من بلاد الرافدين. كما ان الفكر الدستوري عند انطون سعاده وابداع الديموقراطية التعبيرية قد أعاد لسورية مكانتها التشريعية الريادية في العالم.

((. إنّ في المبدأ السوري القومي إنقاذاً لا يقتصر على سورية، بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله. ونهضتنا لا تعبّر عن حاجاتنا نحن فقط، بل عن حاجات إنسانية عامة»))

ليس من باب الصدف أن يرجع “سعاده ” الى تاريخ سورية ليستمد منه هذا الزخم الروحي والمادي، لقد رمى الى اعادة بناء ما تهدم عبر العصور جراء غزوات الأقوام المنحطة وفتوحات الشعوب الطامعة في نهب خيرات الأمة المادية والثقافية .

 اليسار ملكة قرطاج 814 ق – م قفزت الى المحرقة لتضحي بنفسها من اجل بقاء وحياة قرطاجة، وايضاً ((ايزوبعل 600 ق – م)) تحول لفظ الاسم الى ايزابيل اميرة صيدا حين ايقنت ان المدينة سوف تسقط في ايدي اليهود رمت بنفسها من نافذة قصرها لتستشهد دفاعاً عن كرامة شعبها.

((هملقار برقة 274 ق – م)) والد هنيبعل العظيم حين أدرك انه سوف يقع في الأسر برفقة ولديه هنيبعل وصدروبعل اختار ان يقفز بحصانه من على جرف عالٍ وينقذ ولديه من الموت.

((هنيبعل برقة 182 ق – م)) شبح روما لعقدين من الزمن، حتى اصبحت اسطورته من ثقافة روما المرعبة، لتقول النساء الرومانيات لأولادهن اخلدوا الى النوم فهنيبعل أصبح على الأبواب، اختار وطنه الأم صور حتى يجترع السم.

((زنوبيا ملكة تدمر 274 م)) المتمردة على سلطة روما اعداء امتها التاريخيين كانت حتى الرمق الأخير تدافع عن حرية شعبها وكرامته.

لقد كان ” سعاده ” يحرص في كل مرة يزور فيها دمشق على أن يقف امام ضريح يوسف العظمة الثاوي في ميسلون ويؤدي له التحية.

((استشهد يوسف العظمة في معركة ميسلون 24 تموز 1920 وكان يومها وزيراً للدفاع في الحكومة التي هربت من دمشق، حكومة الملك فيصل تاركة خلفها يوسف العظمة ومن تطوع معه من الشعب السوري، ومعظمهم من المدنيين في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي

  ((الروح الهجومية التي هي من طبيعة حركتنا الرامية إلى تغيير النظرة إلى الحياة

. وإنّ معركة ميسلون لأعظم وأمجد المعارك التي شهدتها هذه البلاد في التاريخ الحديث لأنها تمثل روح أمة حية وترمز إلى مثلها العليا. إنها أول معركة نظامية يقوم بها في التاريخ الحديث جيش سوري بقيادة قائد من أجل حرية سورية.))   -المجلد الحادي عشر ص 3

 لنعود بالذاكرة الى ما كتبه الأديب القومي الكبير الأمين محمد يوسف حمود لنقتطف له من مقالة نشرها في كتابه ذلك الليل الطويل تموز 1951 ص 113 بمناسبة ازاحة الستار عن تمثال البطل يوسف العظمة:

((البطولات الدامية الصامدة، على الأسوار في قرطاجة، والصخور في صور، والقلاع في أرواد، والحصون في بابل، والمعاقل في حوران، والسطوح في دمشق، والربى في ميسلون، والجرود في بعلبك، والبوادي في حماه، والرحباء في الشهباء، والقرى في فلسطين، والذرى في الشوف، والشط في بيروت … سلسلة من القمم الشوامخ في تاريخنا، أرادها البسّل من الجدود والآباء والقادة والرفقاء جبالاً من المجد وقباباً للخلود.. فكانت كما أرادوها شواهد على ما في الصراع الحياتي من تضحيات، وفي بلادنا الأبية من عبقريات، وفي الموت استشهاداً من عز ونهضة ومروءات.

وكانت لهتافاتهم أصداء داوية في مسامع الأكوان تقول: إننا أمة ابت وتأبى ان يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة! – ذلك الليل الطويل ص 113

لقد وجدت انه من الضروري المرور على هذا السرد التاريخي الذي يسهم في فهم شخصية الفيلسوف، المعلم، القائد، القدوة، الشهيد انطون سعاده باعث النهضة القومية الاجتماعية.

إن النهضة القومية الاجتماعية يعتبرها ” سعاده ” اهم مرحلة من حقبات سورية التاريخية، لأنها زبدة تاريخ سورية بكل ما تحتويه من عطاءات في كافة المجالات الفلسفية والمادية. وأن الفلسفة القومية أحد هذه الادوار التاريخية التي وضع اسسها واستشهد من اجلها.

القى ” سعاده ” خطاباً في مناسبة عيد مار جرجس الخضر دعت اليها منفذية البقاع الأوسط بتاريخ 23 – 4 – 1948 ونشر في مجلة النظام الجديد في المجلد 1 – العدد 3 بتاريخ 1 – 5 – 1948 تحدث فيه عن معاني الخضر والفلسفة التاريخية العميقة جداً والمتاصلة جدا في حياة هذه الأمة وفي مثلها العليا وصراعها مع الشر. فقال مخاطباً القوميين الاجتماعيين:

 ((أنتم في تاريخ هذه الأمة دورها الرابع، دور تقدم الأمة كلها لمواجهة التنين الذي وصفت لكم هوله ومخاطره

البعل – مار جرجس الخضر – النهضة القومية الاجتماعية هي أنتم وإيمانكم وما أعطاكم ألله.

ويتابع: إنّ النهضة القومية الاجتماعية وروحها قد وضعت على أكتافكم عبئاً كبيراً عظيماً لأنها تعرف أنّ أكتافكم أكتاف جبابرة وسواعدكم سواعد ابطال)).  الأعمال الكاملة م 8 – ص 20

 ان الإدراك والوعي يولدان الإيمان المطلق بحقيقة الوجود القومية الاجتماعية وكل عامل او عمل لا يمتلك هذه المقومات مصيره الفشل والزوال.

زينون الرواقي

لذلك نرى أن انطون سعاده قد تمكن بشكل باهر من كسر هذا الظلام الدامس وإنارة الطريق امام الاجيال القادمة ليبني الجماعة المدركة الحية ويضع مداميك بناء نهضة سورية، والتضحية بالنفس يعتبرها أعلى درجات الارتقاء نحو مجد الأمة غير عابئ بالتضحيات المترتبة على هذه القضية المقدسة وهو على يقين ان الاستشهاد من اجل قضية الامة يقع في رأس قائمة الأثمان المطلوبة :

((وها النهضة القومية قد جاءت تحرق وتضيء… تحرق من أتى بها، وتحرق من يقف في سبيلها، وتضيء لأمة ظنها أعداؤها منقرضة، فإذا هي تقف اليوم بين الأمم الحية ممتلئة روحاً جديدة وتجري في عروقها دماء جديدة وتتململ في نفسها فلسفة جديدة تعطل سفسطة عالم متفسخ العقلية، متهدم الروحية، عديم الثقة بنفسه، يائس من حقيقته.))   “سعاده”

هذا يضع المقبلين على الدعوة الى القومية الاجتماعية مسؤولية ادراك حجم المطلوب من تضحيات بكل شيء في سبيل القضية المقدسة حتى الدماء التي تجري في عروق القوميين ليست ملكاً لهم بل  هي  وديعة الامة ويجب ان تبذل هذه الدماء في سبيلها .

((إنّ حزبكم قد افتتح عهد البطولة الشعبية الواعية، المؤمنة المنظمة في أمتكم. فإن عهدكم هو عهد البطولة فلا تتخلوا عن طريق البطولة ولا تركنوا إلى طريق المساومة الغرَّارة)   المجلد السابع ص 10        

إنَّ وقفات العز التي وقفها القوميون الاجتماعيون منذ تأسيس الحركة القومية الاجتماعية لدليل واضح على رهان سعاده بأن هذه النفس السورية تختزن كل حق وخير وجمال.

لقد رأينا في سلوك المعتقلين في الثورة القومية الاجتماعية الأولى أكبر برهان على فيضان مفاهيم النهضة القومية الاجتماعية في المجتمع السوري وولادة الجماعة المؤمنة بقضيتها ومبادئها ((اي من القوميين المعتقلين لم يطلب الرحمة، ولم يعلن أحد منهم انسحابه من الحزب أو عدم عضويته. لا بل إن الشهيد عباس حماد أقسم اليمين الحزبية قبل الإعدام بدقائق كما افادنا الأمين سليم سعدو سالم)) – في مذكراته حان الوقت في الصفحة 79

.تمر احتفالات الثامن من تموز في كل عام دون اي ذكر يذكر للشهداء اللذين سقطوا الى جانب الزعيم وواجهوا الموت بشجاعة نادرة مقتدين بقائدهم ومعلمهم وقدوتهم انطون سعاده: عسّاف كرم _ استشهد في معركة مشغرة،

أديب الجدع – محمد الشلبي – عبد الحفيظ علامة – عباس حماد – محمد كساب الزعبي – معروف موفق – محمد ملاعب. هذا الاستشهاد البطولي ما هو إلا ترجمة للإيمان بالقضية القومية الاجتماعية واقتداء بباعث نهضتها المعلم الشهيد أنطون سعاده فوفوا بقسمهم حتى الشهادة برد وديعة الأمة الى الأمة حين طلبتها.

((إن الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست لنا، بل هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها))

ان تحويل الفلسفة إلى واقع يحتاج الى ارتقاء الإنسان الى مصاف لم يبلغها كثيرون في هذه الحياة. ونكران الذات في سبيل المجتمع يقوده إيمان لا حدود له. وهذه العناصر كلها دفعت القوميين الاجتماعيين الى وقفات عز لم تعرفها جماعة بشرية في تاريخ سورية لأكثر من مئات السنين مقتدين بقول سعاده: ((نحن جماعة لم تفكر يوماً بالتنازل عن مبادئها وأخلاقها في سبيل انقاذ جسدٍ بال ٍ))

  قدر هذه الامة ان تتحمل وحدها هذه المسؤولية، مسؤولية الدفاع عن البشرية جمعاء. إنه الإثم الذي حملته ولا تزال حتى اليوم.

اذا كان ” الواجب ” من ابداعات الرواقية فالتشريعات ايضا اي “النظام العام ” التي كان لها الفضل الأكبر في تعميم التشريع الموحد في جميع انحاء الامبراطورية الرومانية قضت بالفناء على الشرائع المحلية التقليدية،  كانت ابداعا رواقيا اخر من المشترع السوري (( بابينيان papinian)) ومن بعده تلميذه النجيب المشترع السوري الآخر (( البيان “ulpian )) وكلاهما من مدينة حمص .  راجع الاعمال الكاملة م 4 – ص 10

ان قيم الحرية والواجب قيم اخلاقية روحية بامتياز اما قيم النظام والقوة فهي قيم مادية تكفل تحقيق القيم الروحية.

 ((وأما البناء الروحي فهو، على أنه غير منفصل عن الأساس المادي، نتيجة تفاعل عقول أبناء الأمة الواحدة))

 ((القوة الروحية هي الفاعل الفاصل في تقرير مصير الأمم والنهضات القومية.))  المجلد العاشر ص 2

من هنا نستطيع ان نعي بشكل عميق ان الشعارات التي زينت زوايا الزوبعة لم تكن مجرد شعارات، بل حملت مضموناً فلسفياً رواقياً قومياً.

ليس من المستغرب على فيلسوف سورية وزينونها القومي ان يحدد القيمة الكبيرة للفلسفة الكامنة في شعارات الزوبعة اذ انه يربطها بإمكانية النجاح الأخير:

((ولا بد لي هنا من التصريح بأن الحزب السوري القومي قد اوجد طريقة التغلب على هذه الصعوبات بنظامه الذي يصهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة والنفسيات الشخصية المنافية لنفسية الأمة، والنجاح الأخير يتوقف فعلاً على ادراكنا قيمة هذه الحقيقة وعلى تطبيقنا رموز الحزب الأربعة التي تربطنا ربطاً لا يحل التي هي: الحرية والواجب والنظام والقوة.))  الاعمال الكاملة م 2 – ص 5

وما يسترعي الانتباه هو الترتيب البنيوي الذي اخذته تلك الدعائم في عملية بناء نفوس قادرة على تنكب هذ العمل الخطير كما وصفه سعاده في الخطاب المنهاجي الأول.   م 4 – ص 7

اما قيم النظام والقوة اللذان يشكلان القوة الملموسة في حماية البناء الروحي من التفسخ والميعان هذا الذي كاد ان يبيد الحضارة العمرانية المدنية لولا تصدي زينون لها مما أنقذها من فناء محتم. وهذا ايضا ما ارادته العناية لسورية ان يظهر زينون القومية في ظروف شبيهة بتلك التي عاشها زينون الاول   بل تخطاه حين قال: ((ان زينون الرواقية رسم الخطة ولم يبن ولم يعنَ بقيمة المؤسسات التي وحدها تتولى تحقيق المبادئ. اما زينون القومية، سعاده، فقد رسم الخطة ووضع نفسه في الطليعة.) الاعمال الكاملة م 4 – ص12

 لذلك نرى وبوضوح أن قتل انطون سعاده كانت الخطوة الأولى نحو قتل مشروعه العظيم، إذ أن اعداء الأمة وبعض المتعفنين بنفسياتهم من يهود الداخل قد تحولوا الى المرحلة الثانية من مؤامرة اغتيال الحركة القومية الاجتماعية وهي تهديم المؤسسات التي علق عليها سعاده كل الآمال لبلوغ الغاية الكبرى. إذ انه اعتبرها امتيازه الفكري والفلسفي على غيره من المنظرين والفلاسفة، لتحقيق الانتصار الأخير.

إن المؤامرة التي اخذت حيز التنفيذ اثناء اغترابه القصري وقضت عليها عودته الى الوطن وإعادته الامساك بزمام الحزب من جديد. وهوما دفع المتآمرين من الداخل والخارج الى ارتكاب جريمة من هذا الحجم ليس بحق سورية، بل بحق الانسانية جمعاء.

وإننا حين نقول ان التآمر كان من الداخل والخارج نعني كل الذين خدعوه وخانوه وباعوه الى اليهود بثلاثين من الفضة وغدروا به وتخلوا عنه.

 ويضيف سعاده 🙁 اثنان وعشرون جيلا تفصل بين نابغتي سورية العظيمين زينون وسعاده وكلاهما يكوّنان ركنين متينين في بناء حضارة المتوسط المتحولة بسرعة لتكون حضارة الانسانية العامة. اما لزينون ففضل التقدم، ان كان لصدفة الزمن حق الفضل. واما لسعاده ففضل شمول الفكرة وتحقيق الناحية العملية. ان زينون قد خطط، اما سعاده فخطط وبنى .) الاعمال الكاملة م 4 – ص 12

ان وعي سعاده اهمية القوة المادية وادراكه ان القوة الروحية بحاجة الى مقدار من القوة المادية تصونها وتحميها، ان هذه العلاقة التبادلية بين القوتين هو ما اعتبره ” سعاده ” ابداعاً سورياً    جديداً، اي باختصار كبير المدرحية القومية الاجتماعية عطية سورية الى العالم. حين قال: ((الأمة أساس مادي يقوم عليه بناء روحي.))

ويضيف في شرحه عن التلازم بين القوة النفسية والقوة المادية يقول: ((القوة النفسية مهما بلغت من الكمال تبقى ابداً محتاجة إلى القوة المادية. القوة المادية دليل قوة نفسية راقية))  الاعمال الكاملة م 8 – ص 117

بهذا الشكل الأتم ندرك أن الفلسفة القومية الاجتماعية فلسفة شاملة لشؤون الحياة وتعمل على تحقيق قيمها العليا لتعيد بعث النهضة في جسم الامة وتنقذ الانسانية من الانهيار في هاوية التوحش المادي والانحطاط الاخلاقي.

نعلم علم اليقين ان القوة النفسية تبقى في دائرة الخطر الشديد إذا اغفلنا أهمية القوية المادية ودورها في الحفاظ على القوة النفسية – الروحية. ولنا في تاريخ سورية العبرة، فبعد ان اعطت للبشرية حضارة عظيمة، وقادتها الى الخروج من الحالة البدائية الى الحالة المدنية وأخرجتها من الكهف الى العمران والمدن وعلمتها الحرف وكل ما تعرفه اليوم من علوم وتمدن، نراها ترزح تحت وطأة التفسخ والانحلال والتخلف .

فحق سورية في البقاء والارتقاء قد سُلبا منها تحت وطأة وحشية الفتوحات والغزوات حتى ان سعاده قد شرح كيف ان فتوحات الاسكندر قد ساهمت مساهمة مباشرة في تأخر المدنية. ولا ننسى فتوحات اقوام متخلفة كيف دمرت بشكل كبير بنياننا الفكري والعمراني وهو ما أوصل سورية الى ما هي عليه اليوم.

كان لتراجع القوة المادية الدور الكبير في حالة الدمار الحضاري المادي – الروحي حتى اصبحنا ندور في دوامة مفرغة عانينا منها لأكثر من الفي عام وضاعت حقوقنا القومية في صراع الامم، لذلك نؤمن ان القومية الاجتماعية وحدها وفلسفتها الشاملة كفيلة بإعادة بعث سورية الى الحياة من جديد .

غاية الحزب ومبادئه ودستوره وزعيمه يشكلون قضية واحدة هي قضية الامة السورية، يشكلون بنيان متكامل يكفل حق سورية في الارتقاء والتقدم. كان سعاده مدركاً منذ البداية هذا الترابط الذي لا يقبل المفاضلة في سلم الارتقاء بين ما هو روحي ومادي. هذا الوعي لأهمية القوة المادية جعله يضع الخطة العملية لذلك. وإذا قرأنا المبدأ الإصلاحي الخامس نستطيع أن نفهم دعائم الحزب الاربعة كما سماها سعاده بشكل أعمق.

((اعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الامة والوطن))  الاعمال الكاملة م 8 – ص 117

غاية هذا الجيش اذاً الدفاع عن الامة والوطن، وان لا تكون حقوق الامة معرضة لخطر الفتوحات وبطش الغزاة.

((إن الحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره))  الأعمال الكاملة م 8 – ص 117

آلاف الشهداء وفوا بقسمهم واقتدوا بزعيمهم ببدء عهد البطولة ليعيدوا الى الأمة وديعتها فكانوا أنبل الشهداء في سبيل أقدس قضية.

رضوان رزق

كاتب وناشط سياسي من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق