قالت وسائل الإعلام الإسرائيلية إن الرئيس التركي أردوغان وافق على منح “نقش سلوان” المحفوظ في متحف إسطنبول منذ أكثر من قرن إلى “إسرائيل”. وكان هذا النقش قد سُرق بعد اقتطاعه وتكسيره من جدار نفق سلوان المائي في البلدة القديمة بالعاصمة الفلسطينية القدس في أواخر القرن التاسع عشر حين كانت فلسطين تحت الاحتلال العثماني، وسوف يسلمه، أو ربما يكون قد سلَّمه أردوغان إلى رئيس دولة “إسرائيل” إسحق هرتسوغ كهدية بمناسبة زيارته، على طريقة “وهب الأمير ما لا يملك لمن لا يستحق”!
ويوم الأحد 14 آذار- مارس، نفى هذا الخبر مصدر دبلوماسي تركي لم يكشف عن اسمه – كما قالت قناة الجزيرة- ولم يصدر عن مصادر مستقلة ما يؤكد أو ينفي هذا النفي، مع إننا نتمنى أن يكون النفي صحيحاً وأن تتراجع السلطات التركية عن قرارها الخطر وذي الدلالات المهمة هذا.
وفي حال صح خبر إقدام الرئيس التركي على منح النقش للسلطات الصهيونية، فهذا يدل على جهل الرئيس التركي ومستشاريه بحقائق التاريخ والجغرافيا، فهو
برر قراره كما نقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن النقش عبري، وعليه يجب أن يعود للعبريين الذين تمثلهم دولة “إسرائيل”! وقد كررت هذه الوسائل ذلك التبرير بفرح وخبث فهو ينطوي على اعتراف تركي بصحة العلاقة المزعومة بين اليهود الاشكناز الخزريين ببني إسرائيل شبه المنقرضين.
إن النقش لا علاقة له باليهود والحدث العبري عموماً، وأنه غير مكتوب بما يسمى اللغة العبرية، بل باللغة الكنعانية الأم التي تفرعت عنها اللهجات/ اللغات الكنعانية الأخرى كالآرامية والفينيقية الشرقية والفينيقية الغربية القرطاجية والعبرية والموآبية …إلخ، وإن المستوطنين في الكيان الصهيوني من الاشكناز وغالبيتهم من الخزر ذوي الأصول السلافية والطورانية “التركية” لا علاقة لهم بالنقش ولا بالعبريين. يبقى احتمال جهل أردوغان ومستشاريه بهذه الوقائع قائماً، ولكن إن ثبت العكس وظهر أنهم كانوا يعرفونها فلا يمكن تعريف هذا الفعل إلا بأنه خيانة لفلسطين وتاريخها؛ والخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذا الحدث هي أنَّ مَن لا يؤتمن على نقش أثري فلسطيني لا يمكن أن يؤتمن على مصير القدس وفلسطين!
وعموماً فنحن نأمل أن يكون نفي خبر تسليم النقش للسلطات الصهيونية صحيحاً وأن تكون السلطات التركية قد تراجعت فعلاً عن قرارها، ولكن المثير للاستهجان هو أن بعض الصحف العربية كررت الزعم الصهيوني القائل إن “نقش سلوان” مكتوب باللغة العبرية، وهذا أمر غير صحيح تماماً كما بينا في مقالتنا الأولى حول النقش اضغط للاطلاع على المقالة ، وفي هذه المقالة، نستكمل ما كنا قد نشرناه حول هذا النقش وتاريخه ولغته وكيف تمت ترجمته بشكل محرَّفٍ وغرضي.
هل وجِدَتْ لغة عبرية قديمة؟
إن القطع النقدية المُستشهَد بها من قبل ولفنسون، والتي أتينا على ذكرها في مقالتنا السابقة، تُظهِر على الأرجح أنها كُتبت بلغة كنعانية قديمة هي الأخرى، وبأبجدية كنعانية – هي الوحيدة المعروفة في زمانها والمختلفة عن الهيروغليفية المصرية والمسمارية الرافدانية – فهي تشبه حروف نقش سلوان إن لم تكن هي نفسها، وهذه القطع النقدية -إنْ صحت تأرختها- تعني أن هذه اللغة وأبجديتها الأولية بقيتا مهيمنتين على الجو الثقافي والحضاري الفلسطيني حتى ذلك العهد الذي شهد بروز جزر ومناطق تخضع لسيطرة المتمردين “اليهود” ضد الغزاة السلوقيين والرومان في قرون لاحقة عدة. فالقلم العبري “الأبجدية العبرية” وحتى اللغة العبرية الناضجة والمستقلة هما وهمٌ محضٌ لم يقل به باحث رصين متخصص في الفيلولوجيا “دراسة النصوص القديمة” أو الإتيمولوجيا “التأثيل المفرداتي”، ولا وجود لهما أو لدليل آثاري واحد يؤكد وجودهما عصر ذاك، وكما قلنا فحتى التوراة كتبت بعض أسفارها بلهجة آرامية يسمونها “آرامية التوراة” في غضون “القرنين السادس والخامس ق.م، وفيما يذهب فنكلشتاين إلى تحديد أكثر دقة من وجهة نظره فيقول إن التوراة كتبت في عصر الحاكم يوشيا 622 ق.م “، ولأسباب أيديولوجية سياسية تتعلق بالبروباغندا وليست دينية محضة / التوراة مكشوفة ص38، أما النسخة السبعينية من التوراة فقد ترجمها حاخامات يهود من نصوص عبرية متفرقة إلى اليونانية في القرن الثالث ق.م، بأمر من بطليموس. ويعتقد أن المخطوطات الأصلية لتلك الترجمة قد فقدت ولم يتبق منها إلا اقتباسات في مخطوطات دينية أخرى! وعموما فالترجمة السبعينية لا تحمل أية فائدة تذكر على صعيد تأكيد وجود او عدم وجود لغة عبرية مطورة ومستقلة لأنها ترجمة إلى الإغريقية ولم نجد النسخ المترجَم عنها أي التي زعموا انها عبرية.
لقد كانت لغة كنعان هي السائدة ليس في فلسطين القديمة وحسب، بل وفي خارجها، وليس من قبل “الفلسطيين -الفلسطة” والكنعانيين، بل وحتى من قبل العبرانيين كما ورد حرفياً في سفر أشعيا قال: “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَ خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ الْجُنُودِ، يُقَالُ لإِحْدَاهَا «مَدِينَةُ الشَّمْسِ».” (إشعيا 19: 18)، ونفهم من هذه الفقرة أن هناك خمس مدن في مصر تتكلم اللغة الكنعانية، ولكنها يهودية “تحلف لرب الجنود” الذي هو يهوه، إله يعقوب/إسرائيل، حسب التوراة ذاتها- سفر المزامير 11:46.
ولو كانت هناك لغة عبرية ناضجة وأبجدية عبرية متمايزة عما هو سائد، لكان الأجدر أن يكتب بها اليهود توراتهم قبل هذا التاريخ، ولا نستبعد – بناء على ذلك – أن تكون اللغة التي يسميها التوراتيون “العبرية القديمة” هي لهجة من اللهجات الكنعانية، التي تطورت لتندمج لاحقاً باللغة الآرامية في عهد لا يتجاوز في أبعد تقدير القرنين السادس والخامس ق.م؛ بل ويرجح بعض الباحثين أن اللغة الآرامية ظلت هي لغة الكتابات اليهودية حتى قرون متأخرة قد تصل الى القرن السادس الميلادي، كما يؤكد لنا نقش يهودي عثر عليه في دير “متسخيتا” بجورجيا، وهو مكتوب باللغة الآرامية، وقد يكون نقش متسخيتا هذا من بقايا مملكة الخزر في تلك الأصقاع الجنوبية من الإمبراطورية الروسية وتهوَّدت في هذا الأوان تقريباً.
تناقضات ولفنسون:
إنَّ ولفنسون يهجس بهذا المعنى الذي يؤكد كنعانية اللغة السائدة آنذاك في فلسطين القديمة، وأن اللغة العبرية هي مسمى أطلقه عليها اليهود لاحقاً، ويلوب ولفنسون حول هذا المعنى فيقول إن “المادة اللغوية الكنعانية تشبه شبهاً عظيماً مادة اللغة العبرية – ص 63” بل هو يذهب أبعد من ذلك فيعترف صراحة “وليس يوجد في العهد القديم ما يدل على أنهم كانوا يسمون لغة بني إسرائيل باللغة العبرية، بل كانت تعرف أحياناً باسم لغة اليهود، وطوراً باسم اللغة الكنعانية ولم تعرف باسم اللغة العبرية إلا بعد السبي البابلي- ص 79”. وفكرة ولفنسون هنا واضحة جداً فاللغة المقصودة كانت هي اللغة الكنعانية، ولكنهم سمّوها أو سمّوا لهجتهم العبرانية منها باللغة العبرية!
ولعل التعريف الذي تضعه الموسوعة الفلسطينية للغة الكنعانية هو التعريف الأكثر دقة، وهو يفيدنا كثيراً في فهم العلاقة بينها وبين اللغات القريبة منها والمتفرعة لهجوياً عنها، فهي تقول “اللغة الكنعانية تصف عادة مع الفرع الشمالي الغربي من لغات الجزيرة العربية التي تسمى عادة اللغات السامية. والفرع الشمالي الغربي يضم الكنعانية القديمة ومنها الأوغاريتية (وتضم العمورية أحياناً إلى الكنعانية القديمة) والعبرية والكنعانية الحديثة (أو الفينيقية) والبونيقية (لغة قرطاج ومنطقتها في شمال افريقيا قديماً) “…” واللغة الكنعانية أكثر حروفاً من غيرها، وفيها حروف للتضخيم وأخرى للترقيق، وهي في ذلك قريبة جداً من العربية.
الأرجح عندي أن اللغة العبرية المزعومة كانت لغة كنعانية بلهجة خاصة باليهود أو العبرانيين ضمن العديد من اللهجات المحلية الكنعانية. غير أن ولفنسون
يعود ويناقض نفسه ويرفض هذه الخلاصة فيعلن على الصفحة نفسها وبلغة ملتبسة “فليس يصح أن يقال عن العبرية إنها فرع من الكنعانية أو أنها لهجة كنعانية، وكل ما يمكن أن يقال في هذا الشأن إنما هو أن اللغة الكنعانية واللغة العبرية كانتا لغة واحدة لهجت بها تلك الأمم التي كانت تسكن فلسطين وطور سينا في مدى قرون، فلما تباعدت تلك الأمم وتباعدت اختلفت لهجاتها”! والواقع فإن الفرق بين القولين لا يكاد يُلْحظ بالكلمات بين أن نقول إن ما يسمونها باللغة العبرية القديمة هي لهجة من لهجات الكنعانية وبين القول “إن اللغة الكنعانية واللغة العبرية كانتا لغة واحدة لهجت بها تلك الأمم…” فهذا تلاعب بالكلمات ليس إلا، الهدف منه جعل اللغة العبرية لغة مستقلة إلى جانب الكنعانية وهذا وهم كبير ولا دليل عليه، بل هناك أدلة آثارية كثيرة على نقيضة وفي مقدمتها نقش سلوان.
إن كل الأدلة والنقوش المكتشفة في طول وعرض بلاد كنعان “بلاد الشام حالياً” تؤكد عكس ما يقوله ولفنسون، فجميع اللهجات تنطلق من لغة أصلية واحدة ثم تتحول إلى لهجات ثم تتمركز وتنتشر تلك اللهجات في بيئتها الجديدة وتتحول إلى لغات “شقيقة” بفعل التباعد الجغرافي والتأريخي أو بفعل اندماج مجموعة بشرية مهاجرة تندمج في المجتمع المحلي صاحب اللغة الأصلية فيكتسبها وينطقها بلهجته الخاصة، وهذه هي على الأرجح حالة تفرع اللهجة العبرية من اللغة الكنعانية.
وبخصوص الأبجدية العبرية “القلم العبري” يكرر ولفنسون كلامه ذا الحمولة الأيديولوجية الخالية من الأدلة الآثارية، ولكنه يعترف مداورةً بجوهر الحقيقة حين يكتب على ص100 “وكان الخط القديم عند بني إسرائيل يعرف بالقلم العبري، وهو الذي كان يستخدم منذ أقدم الأزمنة إلى عهد السبي البابلي، ثم استبدل اليهود بهذا القلم قلما آخر يدعى القلم الآرامي”. ويعلل ولفنسون هذا “الاستبدال” بسبب نفسي وطائفي يتعلق بتداعيات الانشقاق بين مملكتي يهوذا ومملكة إسرائيل المتهمة بالوثنية والارتداد عن التوراة (بل هي وثنية كنعانية كما يؤكد الباحث الراحل يوسف سامي اليوسف في كتابه “تاريخ فلسطين عبر العصور”)، ونفرة “اليهوذاويين” من كل ما يجمعهم بسكان إسرائيل القديمة وعاصمتها السامرة، حتى لو كانت حروف الكتابة.
وما يقوله ولفنسون هنا محض ترجيحات وتخمينات وروايات توراتية لا يسندها أي دليل آثاري أو تاريخي يُعتد به، شأنه في ذلك شأن “إمبراطورية داود وسليمان” التي لم يعثر على أدلة آثارية حاسمة تؤكد وجودها. وحتى مَن يعتقدون بوجودها يعترفون بأنها “لم تستمر أكثر من أربعين عاما، ثم عادت مملكتا إسرائيل ويهوذا إلى مساحتهما الطبيعية والتي تقارب بمجموعها مساحة جزيرة “غوتلاند” الدنماركية الصغيرة” التي تبلغ مساحتها ثلاثة آلاف كم² تقريباً من مجموع مساحة فلسطين الكنعانية البالغة 27 ألف كم²، كما يؤكد الباحث الدنماركي نيلز لمكة في كتاب “الجديد في تاريخ فلسطين القديمة- مجموعة مؤلفين – ص 124”. أما فنكلشتاين فيقدر مساحة “يهوذا” بعد العودة من الأسر البابلي، والتي يكرر تسميتها “محافظة يهوذا” بأنها لا تزيد “على ثمانمائة ميل مربع، وهذه المساحة من الأرض أصغر حتى من المساحة المحدودة لدولة يهوذا في أواخر القرن السابع ق.م./ ص413 – من كتاب التوراة مكشوفة على حقيقتها”، بل إنه يقدر مساحة أورشليم القدس في القرن السابع ق.م لا تزيد على مائة وخمسين هكتار، وعدد سكانها بخمسة عشر ألف نسمة/ ص 25 م. س، وهذا المثال يبين لنا حجم المبالغات والتهويلات وانعدام صدقية الكتابات الصهيوتوراتية في كل شيء!
ترجمات أخرى لنقش سلوان:
ننتقل الآن إلى استعراض ترجمة أخرى مختلفة لنقش سلوان، للكاتب د. إياد يونس الذي يلاحظ في مقالته أن “روّاد المدرسة التوراتية عملوا على تزوير نقش سلوان، ومنهم إسرائيل ولفنسون الذي عمل على نشر النص مدعياً عبريته ويهوديته كما إنه حول النص إلى الحرف العبري المربع” وبعد أن يدرج ترجمة ولفنسون سالفة الذكر يقدم ترجمته البديلة من الكنعانية إلى العربية، وأدناه نصها:
– هذا النفق صنعه أو عمله حفاري التكسير (ها قد دبرها نقاب بعوير)
– وهذا قطع أسأل الإله رع (الإعانة) وبعمق ثلاث قامات (له سميع قول إسق)
– هذا ما رآه ئيل الراعي كي تزيد الخيرات بيد تخضر وبهذا اليوم
– إن الحفارين وصلوا إلى نافذة كلها أحجار لكنها كانت سيلا للماء وقطعه الإله رع حيث حفر على حفر ثم تأتيك
– هذه المياه منها مكان ضوء إلى تلك البركة بمئتين وألف قامة (من جانب) ومئة قامة (من الجانب الآخر) هذه الأنفاق التي على رأسها أكوام من الحجارة”/ صفحة حضارة الكرمان”.
في تحليله للنص يسجل يونس عدة ملاحظات منها أن الحرف الذي كُتب النقش به كتبت به كل النقوش الكنعانية والآرامية والآرامية التدميرية وليس حرفاً عبرياً. وأن النقاط بين الكلمات في النص هي من وضع ولفنسون وهي غير صحيحة مطلقاً، وأن ولفنسون تجاهل العديد من الكلمات والعبارات معتبراً هذا التجاهل نوعاً من التزوير والتزييف لتمرير ما يريده الخطاب التوراتي التلفيقي، ومن تلك العبارات التي أهملها ولفنسون اسم الإله (ئيل رعو) والتي تؤكد صلة الكنعانيين بإلههم الكنعاني والرافداني أيضاً “ئيل” ومع الفكر الديني المصري عبر ذكر إله الشمس المصري “رع”.
كما يلاحظ يونس عدم ورود اسم الإله التوراتي “يهوه” الذي يعتبر علامة شائعة على أي نص عبري، مثلما لم ترد في نص النقش أسماء إسرائيل أو حزقيال كما يدعي ولفنسون. والمؤكد أن المقصود هو الملك حزقيا، وليس الكاهن أو النبي حزقيال، ويبدو أن يونس لم ينتبه لخطأ ولفنسون في المقتبس.
وأخيراً، يتوقف الباحث عند عبارة “سلاس آمات” الواردة في النقش فيكتب أنها ما تزال مستعملة إلى الآن في بلاد الشام لدى العمال المتخصصين بحفر الآبار فهم يقولون “سلاس آمات ولا “سلاس أذرع” كما فسرها ولفنسون ليجعل القامة ذراعاً، والعبارة قريبة فعلاً من عبارة “ثلاث قامات” العربية، بل هي نفسها ملفوظة باللهجة الشامية المعاصرة، وهذه بذرة صالحة يمكن للباحثين في اللهجات العربية بواسطتها وبالبناء عليها تفسير العديد من الظواهر اللهجوية العربية في عصرنا.
تتكرر هذه المضامين الناقدة لترجمة ولفنسون في مقالة للباحث أحمد الدبش يستعرض فيها محاولة محمّد بهجت القبيسي تفنيد قراءة ولفنسون للنقش في بحثه “التزوير الصهيونيّ للنقوش والآثار: القدس نموذجًا”، بالقول إن ولفنسون “يصادر الحرف الكنعانيّ الصريح ليجعله عبريّاً توراتيّاً. هذا الخطّ الّذي كُتِبَت به كلّ النقوش الكنعانيّة والآراميّة القديمة، إلى جانب خطوط أخرى كالنبطيّة والتدمريّة”، ويعيد القبيسي قراءة النقش وترجمته إلى العربية ترجمة لا تختلف كثيراً عن ترجمة إياد يونس.
في السياق ذاته، يقول الباحث خالد أيّوب، في بحثه «آثار القدس في العصر الحديديّ»: “أتبنّى رؤية عروبة لغة النقش الأثريّ، الّتي أشار إليها د. محمّد بهجت القبيسي لكنّني أخالفه في الأسلوب والمنهج في قراءة النقش الأثريّ”. ويسجل اعتراضه على ترجمة بعض الحروف. ويخلص إلى القول “لا شكّ في أنّ كلمة (نقب) من التنقيب، أمّا كلمة (ب.عود) فهي أدوات الحفر بالعصيّ، وهذا ينفي استخدام المطارق الّتي ذكرها ولفنسون… وجاءت القراءة صورة أثريّة مطابقة لرواية التوراة”. غير أن من الصعب – عملياً – قبول فكرة خالد أيوب الذاهبة إلى أن الحفارين شقوا ذلك النفق الصخري الصلد بـ “أعواد” التي عادة ما تكون خشبية.
أما الباحث أحمد الدبش فيرى أن الضرورة “تفرض أوّلًا تقصّي إن كان النصّ التوراتيّ يعود فعلًا إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أو إلى فترة قريبة من ذلك، وضرورة عدم استبعاد أنّ تلك المداخلة أو الملاحظة المختصرة عن النفق، تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وأنّها أضيفت إلى أخبار أقدم منها”. ويذكر الدبش أن الباحثَين روجرسون وديوس، من “جامعة شيفلد”، إنجلترا، ذكرا أنّ هذا النقش في أصله يرجع إلى القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد، وليس من القرن الثامن قبل الميلاد، ولم يذكر الدبش حجج وأدلة الباحثَين المذكورين ليمكننا مناقشتها وتقييمها.
هل النقش مزور؟
في المقابل يذهب باسل المغربي في مقالته “نقش سلوان هل هو مزور؟”، إلى أن “النفق قديم من العهد الكنعاني، ولكن النقش مدسوس من القرن التاسع عشر”. ولتدليل على صحة هذا الاستنتاج يقدم ترجمته الخاصة، متوقفاً عند كلمة “زده” الواردة في النص على النقش فيقول إن “كلمة زده في اللغة العثمانية “التركية” تعني ضربة أو كدمة. وفي اللغة الفارسية تعني خبطة أو ضربة. يبدو أن من زيّف النقش في العهد العثماني كان يحسن الكتابة باللغة العبرية القديمة من خلال دراسته للكتاب المقدس، وبخاصة المقراة، وأنه كان يحسن اللغة التركية العثمانية أو الفارسية أو كلتيهما، ولم ينتبه إلى أنه يستعمل في النقش كلمة أجنبية غريبة عن المقراة واللغة العبرية”.
للأسف، لا يمكن أن يؤخذ هذا الكلام بجدية كدليل قوي على تزوير فظ من هذا النوع، فهو لا يعدو كونه تخميناً اتهامياً لا يسنده دليل مقنع إلا احتمال – بين احتمالات أخرى- في قراءة وترجمة كلمة واحدة، ترجمها آخرون ترجمة أكثر اتساقاً كما سنرى بعد قليل وهي كلمة “زده”. ثم يذكر المغربي أنه “في سنة 1891 قُطع النقش خلسة من جدار النفق وكُسر إلى ستة أجزاء، وقد تم تجميع هذه الأجزاء من خلال جهود بذلها القنصل البريطاني في القدس. والنقش موجود حاليًا في المتحف الأثري في مدينة إسطنبول. وقد تم نسخه وإلصاق المنسوخ على جدار النفق. النقش كُتب على لوح مصقول. ووُجد على جدران النفق لوحان مصقولان بدون نقش. هذا يدل على أن من زيّف النقش بحث عن مكان أكثر صلابة”. والمؤسف أن الكاتب لا يوَّثق كلامه بذكر مصدر معروف ومحايد يمكن الرجوع إليه للاطلاع على الحيثيات الموجبة لهذه المعلومات والاستنتاجات.
أما الخلاصة السادسة التي يخرج بها المغربي والقائلة إن “النفق موجود منذ العهد الكنعاني والدليل على ذلك وجود تعرجات في داخله، الأمر الذي يمكن تفسيره بعدم وجود تقنية هندسية عالية” فهي خلاصة يمكن تفهمها والاتفاق معها جزئياً ومن حيث الجوهر رغم أنها مصوغة بطريقة غامضة، وكنت قد كررت أولوية الأرضية الانثروبولوجية الكنعانية في تاريخ فلسطين في جميع كتاباتي حول فلسطين القديمة وأكدت جوهرها القائل: أن السردية الفلسطينية القديمة هي سردية كنعانية جزيرية “سامية” بالدرجة الأولى، وهي الأرضية الغالبة والشاملة التي تعرضت لغزوات مصرية فرعونية ورافدانية طيلة العصرين البرونزي والحديدي، أما الحدث التوراتي والعبراني فهو مجرد هامش صغير وبسيط وهش وتعوزه الأدلة الآثارية الحاسمة العديدة ويتعلق بأواخر العصر الحديدي ولدولة مدينة في إطار العشرات من دويلات المدن ” أو “المشيخات الأميرية”، بعبارة طومسن، التي كانت تنتشر عصر ذاك في عموم ما نسميها اليوم بلاد الشام.
الأرضية الكنعانية والنفوذ الفرعوني:
نختم بهذه القراءة للنقش قدمها الباحث تيسير خلف والذي يتفق مع قراءة باسل المغربي على وجود البعد الثقافي المصري في النقش، وبالتالي في المجتمع الفلسطيني الكنعاني الذي أنتجه عصر ذاك، فيقول “تمت قراءة النقش وفق تفسير توراتي استبعد كل ما له علاقة بالإله الفرعوني “رع” لأنه يقيم الحجة على قراءتهم غير النزيهة”، ويقصد القراءة الصهيوتوراتية ويضيف “عند قراءة النقش حرفاً حرفاً وكلمة كلمة؛ لا نجد أي إشارة للملك اليهودي، بل إن النقش يؤكد أن عملية الحفر تمت بأمر وتوجيه من الإله الفرعوني رع، وهذا يشير إلى أن العملية كلها حدثت أثناء الهيمنة المصرية على المدينة، والتي دعيت بناء على هذا النقش باسم (قرت رعو ) مدينة الإله رع… وهو ما يجعلنا نعتقد بأن عملية إنجاز هذا النفق تمت في العصر الحديدي أي قبل العام 500 قبل الميلاد، لأن الحروف والكتابة تنتمي إلى تلك الفترة، وليس إلى الحقبة الهلنستية في القرن الثاني أو الثالث كما يعتقد بعض الباحثين الذين ذكرهم أحمد الدبش مثل روجرسون وديوس.
ولكن خالد أيوب، شكك في ترجمة تيسير خلف لبعض كلمات النقش وقدم ترجمة مختلفة بعض الشيء، ومنها عبارة “قرت رع ” وقال إنها تعني (أقر لكم بالرعي). ولا يمكنني الحكم بشكل جازم في هذا الخلاف لأنني لستُ متخصصاً في اللغات القديمة وخصوصاً الكنعانية والعبرية، إنما يمكنني ملاحظة أن عبارة “أقر لكم بالرعي” لا تنسجم مع سياق النص على الأرجح.
ورداً على فكرة أن النقش يعود إلى الفترة الهلنستية، يقول تيسير خلف إن “الكتابة اليونانية الهلنستية كانت هي المسيطرة، واختفت الحروف الكنعانية – الفينيقية نهائياً، باستثناء السامريين الذين استخدموها في كتابة أسفارهم” ثم يخلص الى الاستنتاج الذي نتفق معه من حيث الجوهر، والذي يقول إن “هذا النقش دليل وحجة على الذين يدَّعون بأن القدس كانت أثناء فترة حفر النفق يهودية، فهي كانت كنعانية خاضعة للسيطرة المصرية، وتعيش ضمن الفضاء الثقافي المصري القديم، شأنها في ذلك شأن جميع مدن كنعان القديمة، من جبيل إلى صور وصيدا”.
وفي ترجمته يفسر خلف كلمة “زده” التي توقف عندها الباحث باسل المغربي واعتبرها دليلاً على تدليس محتمل للنقش فيقول – خلف – إنها كلمة كنعانية وعربية تعني بالعربية المعاصرة “أزيدوه”، في سياق جملة تقول: زيدوه شقا للميمنة (وشقا للشمال) لإنجاز النفق.
خلاصة:
إنَّ حسم موضوع “نقش سلوان”، والانتهاء منه بعد كل هذه الأدلة والقراءات الداحضة لقراءة ولفنسون ومَن يؤيده، واعتباره نقشاً مزوراً من حيث الترجمة والتوظيف والقراءة السياقية التاريخية؛ ولكنه من ناحية أخرى ينبغي أن يعتبر – سواء صح احتمال الربط بالإله المصري رع أو لم تصح – نقشاً كنعانياً سليماً أسيئَ تحليله وترجمته وتعريفه لأغراض أيديولوجية دينية لا علاقة لها بالبحث العلمي الآثاري والإناسي. وبهذا يتحقق الهدف الأهم وهو إسقاط واحد من أعمدة الرواية الصهيوتوراتية القائلة بيهودية وعبرانية أورشليم القدس وفي قلبها نفق سلوان، وبهذا تنتفي أية علاقة له بما زعمته التوراتيون القدماء والمعاصرون، وبسقوطه يتداعى هيكل هذه الرواية كلياً ويتحول إلى أنقاض يجب رصفها وبناؤها مجدداً في سياقها التاريخي والآثاري والإناسي الصحيح، ألا وهو السياق الكنعاني الفلسطيني الأقدم والأشمل والأكثر انسجاماً مع الأدلة الآثارية والمعطيات الإناسية المكتشفة حتى الآن.
شكرا لجهودكم