مسار جلجامش

نهبُ فلسطين

كتابٌ قاتل

(نهب الممتلكات العربية في حرب 1948) كتاب للمؤرخ الإسرائيلي آدم راز، ترجمة أمير مخول، صادر حديثاً، عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار.

هذا كتاب يفوح بروائح بيوتنا المسروقة، رائحة مخللات الخيار والفقوس واللفت والباذنجان ومرطبانات مربى الخوخ والتوت والفراولة والعنب والمشمش والتفاح، هذا كتاب حين تلمسه ستسمع بوضوح صوت نقر على آلات البيانو التي لم يخل بيت منها من بيوت القطمون الفلسطيني المنهوب، هذا كتاب ستتبلل يداك وانت تقرأ بقطرات من ماء صنابير فككها اللصوص وسرقوها من مطابخنا ومغاسلنا وحدائقنا.

هذا كتاب خطير وصادم، قراءته تشوّش نبضات القلب ويسبب تقليب صفحاته تشنّجات في الأيدي، كل سطر شوكة في الحلق، كل فاصلة طعنة، كل صفحة موجة نار وحشية تكوي العينين، هذا كتاب الطعنات والنار والشوك، الذي يغامر ويقرؤه عليه أن يتحمل دماً كثيراً ينزفه من الفم. منذ فترة طويلة (بعد انكشاف تفاصيل نهب المكتبات العربية في المدن الفلسطينية المحتلة عبر أفلام وكتب صدرت)، وأنا أنتظر انكشاف تفاصيل نهب البيوت، خاصة الأغراض الشخصية جداً، مثل أغراض المطبخ البسيطة التي بذلت أمهاتنا ساعات في ترتيبها والعناية بها بالعينين الحريصتين والحب الكثير، الأشياء نفسها التي لا تتحمل أمهاتنا أن يعبث بها أو حتى يغير موقعها أحد من أفراد البيت، وها هو الكتاب الدامي الذي أنتظره، بين يديّ، مغلقاً على طاولتي أتهيب الاقتراب منه وفتحه، قرأت كثيراً في سير المهجرين من مثقفي فلسطين كغادة كرمي وخليل السكاكيني وغيرهما الذين تحدثوا بالتفصيل عما تركوه في البيت في آخر لحظات الرحيل، حزنت جداً وأنا أقرأ عن أغراض غالية على أصحابها، مثل السجاد الفارسي وآلات الكتابة، وصنابير المياه وبلاطات المطبخ والأوراق النقدية والآلات الموسيقية والملابس وشراشف الطاولات والأواني الخزفية، وغيرها.

منذ الكلمة الأولى في الكتاب شعرت بأنني أمام قصص اعتداء همجية من فرط صراحتها، وكأنها قادمة من كوابيس، وتشبه خيال المرضى، حتى الخيال المريض نفسه لا أظنه صدّق ما حدث.

وما حدث ليس فقط احتلالاً للبيوت والحدائق والساحات والمؤسسات، إنه نهب دنيء شخصي وعلى مستوى الأوامر العسكرية ومنظومة تفكير الدولة وتوجهاتها، جحافل من الجنود والمستوطنين اجتاحوا كالجراد مدن يافا وحيفا وعكا والقدس والسبع وطبريا والرملة واللد وغيرها مقتحمين البيوت ليسرقوا تفاصيل ليلنا ونهارنا.

هذا الكتاب هو سجل سرقة حقيقي، يجب ترجمته لكل لغات العالم وهو يروي قصص أحط أنواع الدناءة البشرية، دون أي إحساس بالذنب، ودون ربط ما يجري بما جرى للصوص فلسطين أنفسهم وهم يتعرضون للقتل والسرقة والنهب والسحل على أيدي النازيين في أوروبا.

هذا كتاب قاتل، قراءته مجزرة نفسية للفلسطيني، ابن المدن المنهوبة، لكنه ضروري جداً، للمعرفة، معرفة الأبعاد المختلفة لبنية الاحتلال الإجرامية، أسوأ ما في الكتاب ليس فقط عمليات النهب ذاتها، وليس عدم شعور الناهبين بالذنب، وليس مشاركة كبار ضباط الجيش الإسرائيلي في عمليات النهب بشكل مباشر أو غير مباشر، بل هو خروج بعض الأصوات المنافقة التي كانت تدين عمليات النهب، أصوات لم تفعل أي شيء آخر غير الإدانة، أصوات سكنت في بيوت المنهوبين، واستعملت أغراضهم، ونهبت في آخر المطاف بعد أن تبين أن لا أحد لم يسرق.

في كل عائلة فلسطينية ذاكرة نهب، حتى على مستوى بسيط، قال لي صديق شاعر نقلاً عن جدته في آخر أيامها على مائدة صينية دجاج محمّر في مخيم الدهيشة: (كان عنا عشرين جاجة يا ستي، لما اجو اليهود هربنا وخليناهم، يا الله يا ستي لو احنا ذبحناهم وأكلناهم مش أحسن ما يوخذوهم اليهود؟).

كتابٌ قاتل.

—————————

تنويه: ينشر سيرجيل هذا المقال باتفاق خاص مع الكاتب، والمقال منشور أيضاً في جريدة الأيام الفلسطينيّة.

زياد خدّاش

أديب وكاتب من فلسطين

‫4 تعليقات

  1. ياريت يترجم الي العربيه يوزع علي العالم بسعر رمزي حتي يعرف العرب المطبعين ما حقيقه اليهود انهم حراميه كما سرقو كل شيئ من فندق دبينل الكتاب متوفر في المكتبات وباي لغه

    1. يعرفون حقيقة العدو ورغم ذلك مستعدون لتقبيل أحذيتهم، لأنهم رضوا بمنزلة العبيد عند الصهاينة.. تبا لهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق