الشرع الأعلى

الإنسان… وحقوق الإنسان في القوميّة الإجتماعيّة

رؤية مقارنة

                             

    سمعنا في العقود الأخيرة عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذا العنوان الذي جذب إليه الكثير من المثقفين دون محاولة تفكيك وتحليل مضمونه، وهو يدفعنا إلى إثارة الأسئلة التالية:

ما هو الإنسان الذي يتكلمون عنه؟

هل هذا الإعلان ينطبق على كل المجتمعات، مجتمعات ما قبل الدولة، العشائرية، القبائلية،………ومجتمعات ما بعد الدول، وبذات السياق ؟

هل يجوز الانتقائية من الإعلان، أم يؤخذ كاملاً؟

هل يجوز تطبيق الإعلان في مجتمع متقدم على حساب إنسان في مجتمع غير متقدم، متخلف؟

هل هذا الإعلان هو نظام تكون شرعيته سابقة للظروف الاجتماعية والتاريخية والمنطبقة على بني البشر في كل مكان وفي كل وقت.؟ 

ما علاقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالسيادة الوطنية؟

من يتابع تطبيق وتنفيذ هذا الإعلان؟

سنقارب الموضوع بشكل عام، لكننا سنتناول الإجابة، فيما بعد، بشكل رئيسي على السؤال الأول:

ما هو الإنسان الذي يتكلمون عنه؟

أما باقي الأسئلة فلها موضوع آخر.

يكتب علي حرب في كتابه الإنسان الأدنى:    (نحن بحاجة إلى مساءلة مفهوم الإنسان, لتفكيكه وإعادة بنائه, بفتحه على ممكناته واحتمالاته, فعلة كل شيء تكمن في مفهومه بالدرجة الأولى… أنه لا مجال لتغيير ينبجس من غير بلورة مفهوم أو شبكة مفهومية, نتحول بها عما نحن عليه, لنحول علاقتنا بمفردات وجودنا, بالجهد العقلي والعمل النقدي على الذات, بصورة تخرق أسوار الممتنع, لكي تفتح الأبواب أو تشق الدروب لغير ممكن وخيار….إن قوة المفهوم وأثره, كخبرة وجودية ومراس فكري, أو كتركيب ذهني وتخييل خلاق, أنه يفترع إمكانا للتفكير والعمل, بقدر ما يمتحن, بمفاعليه في التنوير والتغيير, قدرة المرء على التصنيع والتحويل أو على التخطي والعبور لإعادة البناء والتركيب.)

    كان من المهم وضع سياق لهذه الدراسة، لكن البدء المهم أصبح هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ثم الاطلاع على تاريخية حقوق الإنسان في أوربا، ثم حقوق الإنسان في حضارات الشرق القديم، كذلك ما يتعرض له الإنسان اليوم …. وغيره، ثم ما الإنسان في القومية الاجتماعية.

    تم هذا الإعلان في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948، لكن أعلى هدر لحقوق الإنسان حصل بعد هذا التاريخ حتى اليوم، وبطرق، ووسائل متنوعة، وعديدة.

    إذاً، ما القضية الحقيقيّة؟

أنطون سعادة

 دون أن ننسى ما قاله سعادة في محاضراته على أن /هذا الزمن الذي هو زمن تنازع الأمم البقاء/, هذا يعني أننا في زمن القوى وتوازن القوى العالمية، فكيف يمكن تطبيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل قوة عظمى أو في ظل توازن القوة بين القوى العظمى! هل سيضعون مصالحهم الجيوسياسية والاستراتيجية جانباً لصالح الإنسان وحقوقه!!!! بالطبع لا، فالزمن زمن تسابق وتصارع الأمم ولابد من أن يكون هذا الإعلان مجالاٍ للتنازع والتفسيرات المتنوعة والمختلفة. وحتماً لن يكون التعامل معه حيادياً.

    عندما نسمع مصطلح حقوق الإنسان، يسرح بنا الفكر إلى شخصيته وحياته ومجتمعه، وكل ما يتعرض له الإنسان خلال مسيرة حياته في تقدمه وارتقائه، لكننا عندما نقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نرى جزئيات غير مترابطة يحاول العنوان أن يشدها إلى بعضها البعض، قابلة للانتقاء وفق مستوى القارئ أو وفق مصالح الأقوى وتوازن القوى.

ومما يرد في هذا الإعلان:

ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها. ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد، ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم. ولما كان من الجوهري تعزيز تنمية العلاقات الودية بين الدول.

ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.

الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم

وظهور عالم يتمتع فيه البشر بحرية الكلام والمعتقد والتحرر من الخوف والعوز…

ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها، ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد،

توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة، قومية وعالمية.

يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.

المادة 2

لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته

لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه.

المادة 4

لا يجوز استرقاقُ أحد أو استعبادُه، ويُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما

المادة 13

  1. لكلِّ فرد حقٌّ في حرِّية التنقُّل وفي اختيار محلِّ إقامته داخل حدود الدولة.

    2. لكلِّ فرد حقٌّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده.

المادة 14

  1. لكلِّ فرد حقُّ التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتُّع به خلاصًا من الاضطهاد.
    2. لا يمكن التذرُّعُ بهذا الحقِّ إذا كانت هناك ملاحقةٌ ناشئةٌ بالفعل عن جريمة غير سياسية أو عن أعمال تناقض مقاصدَ الأمم المتحدة ومبادئها.

المادة 15

  1. لكل فرد حق التمتع بجنسية ما.
    2. لا يجوز، تعسُّفًا، حرمانُ أيِّ شخص من جنسيته ولا من حقِّه في تغيير جنسيته.

المادة 16

  1. للرجل والمرأة، متى أدركا سنَّ البلوغ، حقُّ التزوُّج وتأسيس أسرة، دون أيِّ قيد بسبب العِرق أو الجنسية أو الدِّين. وهما متساويان في الحقوق لدى التزوُّج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.
    2. ا يُعقَد الزواجُ إلاَّ برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاءً كاملً لا إكراهَ فيه.
    3.  الأسرةُ هي الخليةُ الطبيعيةُ والأساسيةُ في المجتمع، ولها حقُّ التمتُّع بحماية المجتمع والدولة.

المادة 17

  1. لكلِّ فرد حقٌّ في التملُّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره.
    2. لا يجوز تجريدُ أحدٍ من مُلكه تعسُّفًا.

المادة 18

لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.

المادة 19

لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود.

المادة 20

  1. لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية.
    2.  لا يجوز إرغامُ أحدٍ على الانتماء إلى جمعية ما.

المادة 21

  1. لكلِّ شخص حقُّ المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده، إمَّا مباشرةً وإمَّا بواسطة ممثِّلين يُختارون في حرِّية.
    2. لكلِّ شخص، بالتساوي مع الآخرين، حقُّ تقلُّد الوظائف العامَّة في بلده.
    3. إرادةُ الشعب هي مناطُ سلطة الحكم، ويجب أن تتجلىَّ هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريًّا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السرِّي أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرِّية التصويت.

المادة 22

لكلِّ شخص، بوصفه عضوًا في المجتمع، حقٌّ في الضمان الاجتماعي، ومن حقِّه أن تُوفَّر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتَّفق مع هيكل كلِّ دولة ومواردها، الحقوقُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والثقافيةُ التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرِّية.

المادة 23

  1. لكلِّ شخص حقُّ العمل، وفي حرِّية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومُرضية، وفي الحماية من البطالة.
    2. لجميع الأفراد، دون أيِّ تمييز، الحقُّ في أجٍر متساوٍ على العمل المتساوي.
    3.  لكلِّ فرد يعمل حقٌّ في مكافأة عادلة ومُرضية تكفل له ولأسرته عيشةً لائقةً بالكرامة البشرية، وتُستكمَل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية.
    4. لكلِّ شخص حقُّ إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه.

المادة 24

لكلِّ شخص حقٌّ في الراحة وأوقات الفراغ، وخصوصًا في تحديد معقول لساعات العمل وفي إجازات دورية مأجورة.

المادة 25

  1. لكلِّ شخص حقٌّ في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصَّةً على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحقُّ في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمُّل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه.
    2.للأمومة والطفولة حقٌّ في رعاية ومساعدة خاصَّتين. ولجميع الأطفال حقُّ التمتُّع بذات الحماية الاجتماعية سواء وُلِدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.

المادة 26

  1. كلِّ شخص حقٌّ في التعليم. ويجب أن يُوفَّر التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليمُ الابتدائيُّ إلزاميًّا. ويكون التعليمُ الفنِّي والمهني متاحًا للعموم. ويكون التعليمُ العالي مُتاحًا للجميع تبعًا لكفاءتهم.
    2. يجب أن يستهدف التعليمُ التنميةَ الكاملةَ لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. كما يجب أن يعزِّز التفاهمَ والتسامحَ والصداقةَ بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية، وأن يؤيِّد الأنشطةَ التي تضطلع بها الأممُ المتحدةُ لحفظ السلام.

    3. للآباء، على سبيل الأولوية، حقُّ اختيار نوع التعليم الذي يُعطى لأولادهم.

المادة 27

  1. لكلِّ شخص حقُّ المشاركة الحرَّة في حياة المجتمع الثقافية، وفي الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدُّم العلمي وفي الفوائد التي تنجم عنه.
    2. لكلِّ شخص حقٌّ في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتِّبة على أيِّ إنتاج علمي أو أدبي أو فنِّي من صنعه.

المادة 28

لكل فرد الحق في نظام اجتماعي ودولي يمكن أن تتحقق فيه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان بالكامل.

المادة 29

  1. على كلِّ فرد واجباتٌ إزاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل.
    لا يُخضع أيُّ فرد، في ممارسة حقوقه وحرِّياته، إلاَّ للقيود التي يقرِّرها القانونُ مستهدفًا منها، حصرًا، ضمانَ الاعتراف الواجب بحقوق وحرِّيات الآخرين واحترامها، والوفاءَ بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي.
    2.  لا يجوز في أيِّ حال أن تُمارَس هذه الحقوقُ على نحو يناقض مقاصدَ الأمم المتحدة ومبادئها.

المادة 30

ليس في هذا الإعلان أيُّ نصٍّ يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أيَّة دولة أو جماعة، أو أيِّ فرد، أيَّ حقٍّ في القيام بأيِّ نشاط أو بأيِّ فعل يهدف إلى هدم أيٍّ من الحقوق والحرِّيات المنصوص عليها فيه.

 

/الجمعية العامة، تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع./

ونفهم هنا، أن هذا الإعلان ليس عاما في كل المجتمعات، وليس ملزما بالمطلق، بل هو هدف يجب أن تضعه أمامها المجتمعات والدول والأفراد والأحزاب…للوصول إليه.

وورد كذلك: / لما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد/

إذا، يضعنا الإعلان أمام مهمة عالية المستوى تتطلب رفع الإدراك العام، وهي مهمة ثقافية مجتمعية بامتياز وليست سياسية أو دعائية أو إعلامية، تتضمن رفع المستوى الثقافي والمستوى الروحي في المجتمع.

والأهم, ما هي كرامة الإنسان؟!!

في المادة 1 من الإعلان:

يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.

    في وقائع حياة المجتمعات غير الحرة لدينا لا يمكن أن يولد جميع الناس أحراراً، فقد ساهمت الدول العظمى الغربية وأمريكا في الإخلال بحرية الفرد بشكل علني بواسطة النظام الإمبريالي العالمي، إذ جعلت الأفراد يولدون غير أحرار وغير متساويين، فكل طفل يولد في أمتنا يولد مديونا، وتبلغ حصته من ديون مجتمعه بحدود 10000 – 15000 دولار، ليهدر جزء كبير من حياته في تسديد هذا الدين بشكل غير مباشر، هذا عدا عن كلفة الحروب التي يخلقها الغرب في مجتمعاتنا، فأين الحرية والمساواة !!   

    لقد أثبتت العقود الأخيرة مخالفة تطبيق المادة الثانية من الإعلان بدراية وإصرار، فالتمييز والعنصرية واضحة حتى في المجتمعات الغربية وفي المجتمع الأمريكي، ونرى هذا في أحد النماذج، نموذج قتل المواطن الأمريكي الملون على يد الشرطة الأمريكية، ونموذج تناقض وانتقائية حرية التعبير بين إحراق القرآن الكريم وقانون معاداة السامية!!, وفكرة شعب الله المختار و….

نعم وهبنا العقل لكنه يحتاج إلى تنمية، أما الوجدان فهو ليس حالة تنشأ بالولادة مثل الدماغ، هي تنمو في المجتمع لدى الأفراد بقدر تفاعلهم واشتراكهم في حياة المجتمع، والأصل في الوجدان فعل وجد، يترتب على هذا الاشتراك والتفاعل ليجد الفرد نفسه وشخصيته فينشأ الوجدان في أعماق نفسه. 

كذلك لدينا نموذج جورج عبدالله الذي أنهى مدة حكمه في فرنسا، لكن القضاء الفرنسي أصر على بقائه محتجزاً داخل السجن رغما عن الدعاوي المرفوعة لصالحه..

ونموذج عملية تبادل الفضائح الشخصية بين المرشحين لانتخاب الرئيس الأمريكي، والتنصت على الاتصالات في العالم..

وتهديد المهاجرين إلى أوربا، يحرمانهم من جنسياتهم.

منع خروج المؤيدين للفلسطينيين ضد الحرب على غزة في أوربا، ضد الوجدان. وضد حرية التعبير. وكذلك قضية جوليان أسانج.

    وبمتابعة كل مواد هذا الإعلان نكتشف أن رفعه كشعار كان بغاية سياسية وبشكل انتقائي ومن طرف الأقوى.

     لم يلحظ الإعلان الفرق بين الفرد وشخصية الفرد والإنسان، فقد استخدمها بذات المعنى، أما أنطون سعادة فيميز بينها.

    لا يمكننا النظر إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بحيادية، وخاصة بعد أن شنت الولايات المتحدة الأمريكية هجوما متسلسلا على الدول المناهضة لها عند حصولها على لقب القطب الأوحد عالميا في تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. فقامت بممارسات عسكرية وسياسية وحصارات اقتصادية ضد المجتمعات وليس ضد الدول التي تعتبرها استبدادية. وأصبح لابد من إعادة قراءة لحقوق الإنسان من جديد على أساس التعددية القطبية الحاصلة اليوم، وهذا لا يلغي أن الإعلان أضاء للبشرية مرحلة مهمة لحياة الإنسان.

مع هذا فإن سعادة قدم العقيدة السورية القومية الاجتماعية (كتعبير عن حقوق الإنسان – المجتمع) مع رؤية للنظام العالمي الذي أراده، فلا حالة وطنية أو محلية دون وضع ما، في حالة عالمية.  

نتلمس هذا النظام العالمي فيما كتبه سعادة:

نشوء الأمم، الفصل الرابع: /منذ الفترة الّتي ظهرت فيها الأبجديّة إلى جانب التّجارة واتّحد هذان العاملان في التّفاعل الاقتصاديّ الاجتماعيّ، اتّجه الاجتماع البشريّ نحو الحياة النّفسّية (العقليّة) وسيطرة العقل على كنوز الطّبيعة ومواردها. وفي هذه الحياة الجديدة تساهم الأمم المتمدنة. وبوجود هذه الحياة ووسائلها يمكن الآن ملايين البشر أن يفكّروا في قضايا الإنسانيّة الحيويّة والاجتماعيّة مستقلّين ومشتركين وأن يشتركوا في ثقافة إنسانيّة عامّة يدهش المفكّر لألوانها المتعدّدة تعدّد القوميّات، وللخصائص النّفسيّة الّتي تنكشف عنها في أمم عددها عدد البيئات. /

ومن مقالة لو لم أكن أنا نفسي: /لو لم أكن أنا نفسي لوددت أن أكون هذه الآمال الكبيرة، العالقة بها أنفس ملايين البشر. /

ونرى هنا الاهتمام الروحي البعيد المدى بالبشر ككل.

وفي كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري يعبر سعادة عن إعجابه ببيتهوفن فنستنتج نظرته للإنسانية بشكل عام:

/العواطف والتصورات والأفكار التي تعبر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن الذي بلغ في الفن الموسيقي حد الألوهية لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبوا إليه النفوس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. أنظر إلى ما تعبر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد. خذ، مثلا، سنفونيته السابعة التي أجاب بها على مدفع السفاح نابليون بتيار من الأنغام تحول إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جاريا وسيظل جاري أبد الدهر! انظر إلى معزوفاته الأخرى (كسنفونيته الخامسة المعبرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء- بين الموت والحياة وانتصار هذه بفتوتها على ذلك بهرمه) ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين، فهي لا تقف عند رفع الروحانية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعدى إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضا. /

فسعادة مع وضع عالمي على أن يكون عادلا لمصالح الأمم ليقوم ملايين البشر بأن /يفكّروا في قضايا الإنسانيّة الحيويّة والاجتماعيّة مستقلّين ومشتركين وأن يشتركوا في ثقافة إنسانيّة عامّة/, وبالتالي يكون لكل أمة مستقلة صوتا يعبر عنها، وهو ليس ضد التعددية القطبية التي يجري عليها الصراع اليوم، بل مع أن تكون كل أمة قطبا في النظام العالمي الذي يراه. وفي سياق الاستقطاب الدولي الجاري ونزاع الأمم لن نستطيع الإعلان عن استقلالنا كما نراه وفق مصالحنا، ففي هذا السياق أعلن سعادة أنه / إذا لم تكونوا أنتم أحرارا من أمة حرة، فحريات الأمم عار عليكم/. فالأساس والغاية هما في حرية أمتنا أمام حرية الأمم. فكيف يكون الفرد حرا في مجتمع غير حر حقا !!!, وهذا ما نقرأه في المادة 28, أن لكل فرد الحق في نظام اجتماعي ودولي، إذ أن هذه المادة تتيح الاعتراض على النظام الدولي والنظام الاجتماعي إذا لم يكن مناسبا والتأسيس لبناء نظام اجتماعي ودولي يحقق السلم والأمن الدوليين، وكذلك الاعتراض على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالنظام العالمي والدولي الحاليين فشلا في تحقيق السلم والأمن الدوليين.

أندرو فاغان

    سنستفيد من دراسة للدكتور أندرو فاغان، بروفيسور الفلسفة والقانون في جامعة إيسكس الأمريكية، لتطل على النقاط الأساسية في نظرة الغرب لحقوق الإنسان. سنوجز الدراسة في نقاط يمكن أن تعبر عن نظرة الغرب إلى حقوق الإنسان، وسنكتشف أن سعادة أسس لحقوق الإنسان السوري في عالم تتنازعه الأمم دون الاعتماد على المؤسسات الدولية وقوانينها ولا على الأقوى أو على توازن القوى، فقد أراد لنا أن نكون أقوياء من الداخل /لا ضمانة للحق إلا من أنفسنا/ ويمكن أن نعتبر أن القومية الاجتماعية هي نقض للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لصالح حقوق الإنسان – المجتمع في العالم.

فهل يمكن لنا كتابة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – المجتمع في العالم؟!!

النقاط الواردة في دراسة الدكتور أندرو فاغان، بروفيسور الفلسفة والقانون في جامعة إيسكس التي يمكن لنا اعتبارها تعبر عن تاريخية حقوق الإنسان وتنوعات الرؤى إلى هذه الحقوق في الغرب، إذ يمكن لنا استخراج النقاط العامة الحساسة التي سنبني عليها رؤيتنا.

  • تهدف فلسفة حقوق الأنسان أيضا الى تحديد كل من المتطلبات الأساسية السلبية والايجابية لعيش حياة جيدة الى الحد الأدنى. فما معنى حياة جيدة؟
  • ….. والذي يمكن اعتباره قادرا على تزويد النظام الجيو- سياسي المعاصر مع ما يمكن أن يرتقي الى وثيقة الحقوق الدولية. كيف!!
  • فلسفة حقوق الأنسان تهدف الى تأمين الظروف الضرورية للأفراد للتمتع بحياة جيدة في حدها الأدنى. كيف نؤمن ظروف ضرورية للأفراد للتمتع بحياة جيدة قي حدها الأدنى؟
  • المنفذ الأول للدعوة الأخلاقية ….. تلك المؤسسات الوطنية والدولية القادرة على التأثير بشكل مباشر على مصالحنا الأكثر أهمية. هل أتاحت الامبريالية الفرصة لبناء مؤسسات وطنية وللسلطات العامة؟
  • تطمح عقيدة حقوق الأنسان الى تزويد النظام السياسي – الجغرافي المزعوم والذي جاء في أعقاب النظام الأيديولوجي، بإطار مشترك لتحديد الشروط الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية المطلوبة لكل الأفراد لعيش حياة محترمة في حدودها القصوى.

كيف يتم تحديد الشروط الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية المطلوبة لكل الأفراد لعيش حياة محترمة في حدودها القصوى. ومن يحددها؟

  • يعتقد أن التبرير الأخلاقي لحقوق الانسان يسبق اعتبارات السيادةالوطنية الصارمة. …… 

هنا نجد إشكالية كبيرة في العلاقة بين السيادة الوطنية والقوانين الدولية وتوازن القوى في العالم وتنازع الأمم البقاء.

  • توضع عقيدة حقوق الانسان بصورة مثالية لتزويد الأفراد بوسائل القوة للمراجعة الأخلاقية لشرعية تلك الأشكال الوطنية والعالمية المعاصرة للسلطة الاقتصادية والسياسية

المراجعة الأخلاقية لشرعية تلك الأشكال الوطنية والعالمية المعاصرة للسلطة الاقتصادية والسياسية!!!!! من هو صاحب الصلاحية لوضع المعايير والشرعية للتدخل؟ مما يقدم فرصة للتدخل في الانقلابات داخل الدول لصالح الليبرالية.

  • تهدف عقيدة حقوق الانسان، بنظر الكثير من أنصارها الأقوياء، الى توفير القاعدة الأخلاقية الأساسية لتنظيم النظام الجيو- سياسي المعاصر.

وهو ما يحصل اليوم.

  • هناك نظام أخلاقي يمكن التعرف عليه بشكل عقلاني، نظام تكون شرعيته سابقة للظروف الاجتماعية والتاريخية والمنطبقة على بني البشر في كل مكان وفي كل وقت. …وترتبط أصول وتطور نظرية حقوق الانسان ارتباطاً وثيقاً بتطور عالمية الأخلاق.

عالمية الأخلاق… شرعيته سابقة للظروف الاجتماعية والتاريخية. وما المرجعية العلمية والعملية لهذه الفكرة!!

  • تستند فلسفة حقوق الانسان على أخلاق عالمية والاعتقاد بحقيقة وجود مجتمع أخلاقي عالمي يحتوي جميع البشر.  وتفترض شمولية الأخلاق وجود حقائق أخلاقية عابرة للتاريخ وقابلة للتحديد عقلانيا. كيف؟!!  
  • في محاولة للتمييز بين “العدالة الطبيعية” و “العدالة القانونية”، “أن الطبيعي هو ماله نفس الصلاحية في كل مكان والذي لا يعتمد على المقبولية.

لا يعتمد على المقبولية.!! هل هو إجباري، قسري؟

  • إن المعايير التي تحدد النظام العقلاني الحق للعدالة تكون سابقة للاتفاقيات الاجتماعية والتاريخية.  تكون “العدالة الطبيعية” موجودة مسبقا على التكوينات الاجتماعية والسياسية المحددة.

الفرد سابق المجتمع!! ما الحق؟  ما العدالة؟

  • لقد تمت المحافظة على هذا الاعتقاد القائل بوجود مجتمع أخلاقي عالمي في أوروبا بواسطة المسيحية على مدى القرون اللاحقة. … مفهوم الحقوق الذي يقترب من الفكرة المعاصرة لـفلسفة حقوق الانسان ظهر بوضوح خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا وما يسمى بمذهب القانون الطبيعي. هنا يظهر واضحا أن الغرب سيضع الدين التابع والمستتبع له في مواجهة تشكل القوميات قي جنوب العالم.
  • يكون الأساس في القانون الطبيعي، هو الاعتقاد بوجود رموز أخلاقية طبيعية أسست على تحديد الاحتياجات البشرية الأساسية والتي يمكن التحقق منها بشكل موضوعي. 

ما هي هذه الاحتياجات ومن بحددها؟

  • نمت الحقوق الطبيعية كحقوق أمتلكها الأفراد بصورة مستقلة عن المجتمع أو الدولة. … ان منبع القانون الطبيعي هو الله. 

نمت الحقوق الطبيعية كحقوق أمتلكها الأفراد بصورة مستقلة عن المجتمع أو الدولة.!!!

  • ….  يستلزم واجبنا في الحفاظ على الذات تجاه الله، ذلك الوجود الضروري للحقوق الطبيعية الأساسية للحياة: الحرية، والملكية.  …. أن الغرض الأساسي من تنصيب السلطة السياسية في الدولة المستقلة كان لتقديم الحماية للحقوق الطبيعية الأساسية للأفراد. بالنسبة “ لجان لوك“، فأن الحماية والترويج للحقوق الطبيعية للأفراد كان التبرير الجوهري لخلق الحكومة. أوضحت الحقوق الطبيعية للحياة، الحرية، والملكية المحددات الواضحة للسلطة والولاية القضائية للدولة. 

الحرية والملكية والحماية؟

  • .. يوفر “كانط” وسيلة لتبرير حقوق الانسان كأساس لتقرير الذات على أساس سلطة العقل البشري.

كيف؟  وهل يعني هذا أن هناك أفراد غير عقلانيين؟ وما العقل؟ ومن يحدد هذا؟

  • تبدأ فلسفة “كانط” الأخلاقية من محاولة تحديد وبدقة مبادئ التفكير التي يمكن تطبيقها بالتساوي على جميع الأشخاص العقلانيين، بغض النظر عن رغباتهم المحددة أو مصالحهم الجزئية.  فيربط “كانط”، بهذه الطريقة، شرط العالمية، على التحديد الصحيح للمبادئ الأخلاقية.

ماهي المبادئ الأخلاقية؟ ما هو التفكير الأخلاقي؟

  • يحتج “كانط” بأن هذا الشرط الأساس للعالمية في تقرير القواعد الأخلاقية لقيادة العلاقات البشرية يكون تعبيرا ضرورياً للاستقلال الأخلاقي وللمساواة الأساسية لجميع الأفراد العقلانيين.  ….  بالنسبة “لكانط”، فأن القدرة على ممارسة العقل تكون السمة المميزة للبشرية والقاعدة لتبرير كرامة الأنسان. بالنسبة “لكانط” فأن أي حقوق من هذا القبيل تنشأ من الخصائص الشكلية للعقل البشري، وليس من خلال ارادة شخص خارق.

ما هو العقل؟

هنا، نرى في الوقائع أن الأفراد العقلانيين هم المعارضة السياسية التي تصنعها أمريكا والغرب والصهيونية.

  • …… لقد قدمت أفكار من قبيل، الحقوق الطبيعية، الاستقلال الأخلاقي، الكرامة الإنسانية والمساواة أساسا معياريا للمحاكمات في اعادة تشكيل النظام السياسي، للإطاحة بالأنظمة الاستبدادية والسعي لاستبدالها بأشكال من السلطة السياسية القادرة على حماية وتعزيز هذه المثل أو الأفكار التحررية الجديدة.

لقد أصبح مفهوم الحقوق وسيلة لأحداث التغيير السياسي. 

  • من المهم الإشارة هنا، على أية حال، بأن مذهب حقوق الانسان المعاصر، وبينما يكون مثقل بالدين لمفهوم الحقوق الطبيعية، الا أنه ليس مجرد تعبير لهذا المفهوم، لكنه بالفعل يذهب أبعد منه في بعض النواحي الهامة للغاية.

ربما هذا ما يدفع السياسة الأمريكية إلى تعميم التدين التابع في مناطق الصراع الجيوسياسي لعالمية الدين في مواجهة التشكل القومي للأمم.

يحدد “جيمس نيكل” ثلاثة طرق معينة والتي من خلالها يبرز اختلاف فلسفة حقوق الانسان المعاصرة وتذهب أبعد من تلك المتعلقة بالحقوق الطبيعية.

أولاً: فهو يجادل بأن حقوق الانسان المعاصرة مهتمة بشكل كبير جدا في النظر بتحقيق المساواة، على أنه أمر يتطلب إجراءات ايجابية من قبل الدولة، ….على أنها تتطلب بشكل أساسي من الدولة الامتناع عن التدخل في حياة الأفراد.

وهنا بيت القصيد بالنسبة للنظام الليبرالي، في عدم تدخل الدولة وتحولها إلى بوليس فقط.

ثانياً: فهو يجادل بأنه في حين أن دعاة الحقوق الطبيعية يميلون الى تصور البشر على أنهم مجرد أفراد، وانهم يمثلون “أرضا حقيقية لأنفسهم”، فأن المدافعين عن حقوق الانسان المعاصرة هم أكثر استعداداً لإعادة النظر في أهمية الأسرة والمجتمع في حياة الأفراد.

ثالثاً: ينظر “نيكل” الى حقوق الانسان المعاصرة على أنها أكثر أممية بكثير من حيث نطاقها وتوجهها، مما وجد عادة في الحجج الداعمة للحقوق الطبيعية. وهذا يعني أن حماية وتعزيز حقوق الانسان ينظر أليها بشكل متزايد على أنها تتطلب العمل والاهتمام الدوليين. 

وعند أول فرصة سنحت للأمريكي بدأ بمحاولة تغيير الأنظمة والدفع باتجاه الحروب للتغييرات الجيوسياسية التي يريدها ويرى فيها مصالحه.  

نكتفي هنا بما ورد في دراسة الدكتور أندرو فاغان، بروفيسور الفلسفة والقانون في جامعة إيسكس التي يمكن أن تعبر عن الأهداف والغايات في طرق قراءة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

لكن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يذكر الإنسان ولا يذكر فيما إذا كان فلاحاً أو صناعياً أو غيره، فلكل عمل حقوقه المستقلة عن عالمية حقوق الإنسان كما يدعون، وإلا فعلى حق الفلاح أو الصناعي أن يكون عالمياً، وبالتالي عدنا إلى تحرر وتحرير المجتمع. 

    نلاحظ أن كل المصطلحات الرئيسية التي استخدمتها الدراسة أعلاه لفلسفة حقوق الإنسان سنجدها عند سعادة، إنما بصيغة عقيدة قومية اجتماعية شاملة، في مصطلحات مترابطة غير منفصلة ولا يمكن انتقاء أو تفضيل أحدها على الآخر لتشمل جميع الأفراد في المجتمع. إن استخدام المصطلحات الجاذبة للعقل والإنسان إذا لم تعبر عن قضية كلية تعادل وجود الإنسان فهي تقوم بتجزئة القضية الكلية إلى مصطلحات – عناوين منفردة تفيدنا معرفيا لكنها لا تفيدنا اجتماعيا وسياسيا، عملياً، ولا تفيد المجتمع ولا الأفراد، لا تفيد حقوقياً كما نريد.

    كذلك، يمكن لنا الاطلاع على دراسة الدكتورة ايمان السيد عرفة، استاذة فلسفة القانون وتاريخه – جامعة السادات. بعنوان، الجذور الفلسفية لحقوق الإنسان وحرياته في حضارات الشرق القديمة:

إن الأفراد لا يستطيعون التعبير عن إرادتهم – التي هي مناط سلطة الحكم – إلا إذا توفرت لهم الحريات الأساسية مثل، الحرية الشخصية والسياسية وحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وحق الاجتماع أو التظاهر السلمي، وفي المقابل فإن ممارسة الأفراد لهذه الحريات يمثل وسيلة ضغط مهمة في وجه السلطة لمواجهة أي خرق لحقوق الإنسان وحرياتهم.

عن هذه النقطة يكتب سعادة في الفصل السادس من نشوء الأمم:

 /ليست الدّولة في ذاتها مقياساً للثّقافة العقليّة، بل بما تنطوي عليه من حقوق. يجب أنّ ننظر إلى الحقوق إذا كنّا نريد أن نحصل على تحديد حقيقيّ للدّولة، ولكنّنا نقول إنّ الدّولة الشّاعرة بقوّتها في عهد لا إرادة ظاهرة فيه سوى إرادتها، لم يكن لها مندوحة عن الاستبداد. /

فلا بد من إرادة مجتمعية أمام إرادة الدولة. فما هي الإرادة التي تضبط منع الاستبداد من قبل الدولة وفق آخر ما وصل إليه تقدم المجتمعات الإنسانية اليوم؟ الإجابة تحتاج إلى بحث.

فقضيتي الحقوق ومنع الاستبداد هامتين في رؤية سعادة للإنسان وللدولة.

حمورابي

تقسم الدكتورة ايمان حقوق الإنسان إلى مطلق ونسبي، فالحقوق المطلقة هي حرية التعبير والرأي والحق في المساواة والحق في الحرية، أما الحقوق النسبية فهي ما يعبر عن تطلعات الإنسان في الحصول على مبتغى معين كالجنسية والسكن والتنقل و. . ويمكن الاستناد إلى مسلة حمورابي (1748-1681) ق.م في وصف أول وثيقة مدونة تعبر عن الضمانات القانونية لحقوق الإنسان في العصور القديمة، والتي تتكون من 282 مادة قانونية تتعامل مع جميع المواطنين على أساس ضمان جق الحياة للمواطنين في بابل.

في الطور الأول من عصر فجر السلالات ففي بلاد وادي الرافدين تميز بازدهار الحضارة ونضجها وبروز أوجهها ومقوماتها التي أظهرت حقوق الإنسان وحرياته بشكل واضح ومدون باللغة والثقافة السومرية وبعدها الأكادية ….. إن تطور حضارات ما بين النهرين التي دونت قوانينها وتشريعاتها (التي عثر عليها) تدل على إسهامات واسعة في مجال حقوق الإنسان استلهمت منها البشرية في العهود اللاحقة الكثير من القواعد والتشريعات التي كانت مقوماتها الأساسية العدالة والمساواة ونصرة الضيف، والمظلوم، وتوفير الأمن، والاستقرار. ومن أهم القوانين والتشريعات في بلاد ما بين النهرين:

اصلاحات أوركاجينا

إصلاحات أوركاجينا

قوانين أورنمو

قوانين لبت – عشتار

قوانين مملكة أشتونا

قوانين حمورابي

والتي أظهرت بشكل جلي اهتمام هذه التشريعات بإسعاد الإنسان ورفاهه وتحقيق المساواة والعدالة بين البشر وإظهار حقوقه بشكل واضح. فكانت أكثر عمقا من الفكر اليوناني.

حقوق الإنسان وحرياته هي الأساس في النظام القانوني، فإن حرية الفرد لا يجوز التفريط بها إلا استثناء وبنص القانون لذلك يجب على المجتمع حمايتها من أي اعتداء يمس بها.

الحرية بمستوياتها المختلفة ومظهرها المتنوع مطلب إنساني في كل المجتمعات، بحيث يمثل حضورها في الحياة المجتمعية أو غيابها عنها وضعف وجودها فيها معيارا للفرق بين المجتمعات من حيث التزامها بالعيش تبعا لمقتضى احترام حقوق الإنسان، ونظراً لعمق هذا المطلب، الحرية، بالنسبة للوجود الإنساني الفردي والجماعي صار البحث فيها موضوعاً للفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي….. .

ارتبطت الحرية لدى الإنسان بوعيه بوجوده، ومرتبطة بوجود الإنسان وقيمته، فتصور الإنسان دائماً أن الوجود الإنساني يفقد قيمته الحق إذا انعدم فيه شرط تمتعه بالحرية في مستوياتها المختلفة. /

إن وعي الإنسان لوجوده له علاقة بالحرية، بمعنى آخر يجب أن يدرك الإجابة على السؤال، لماذا أريد الحرية؟  لهذا فإن المثل التي اختارها سعادة للحزب /حرية واجب نظام قوة/, يمكن لنا قراءتها في ذات السياق أعلاه.

    /إنَّ حقوق الإنسان وحرياته تشكل ظاهرة معاصرة عرفت منذ فجر التاريخ وتطورت بتطوره، فعندما ننظر إلى الماضي فإننا نستطيع فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، ويمكننا تتبع العوامل الإيجابية والسلبية في مجال حقوق الإنسان وحرياته، فهذا يجعلنا أكثر فهما لهذه الظاهرة في الوقت الراهن.

لقد تبلور مفهوم حقوق الإنسان في الغرب عبر مسارين:

أولها، التجارب السياسية الغربية المتمثلة في الصراع ضد الحكم المطلق من أجل الحد من صلاحياته الواسعة، ومثال هذا المسار هو الصراع في انجلترا من أجل تحديد صلاحيات الكنيسة الحكم السياسي المطلق وانتزاع بعض الحقوق للأفراد والجماعات.

والثاني، هواجتهادات المفكرين والفلاسفة، التي لم تكن معزولة عن سياق التاريخ الفعلي….إنَّ مفهوم الحرية والحق هو الذي أنتج هذه الحقوق الفعلية في التاريخ. إن المعالم الكبرى للأرضية الثقافية الحديثة هي إيلاء الإنسان والوعي الإنساني مكانة مركزية سواء تعلق الأمر بالإنسان كعقل أو كإرادة أو كرغبة فالإنسان هو الفاعل المركزي في المعرفة والطبيعة والتاريخ. وهذا تحول استراتيجي في مركز الإنسان ووعيه ودوره.

/ من الأدق الإشارة إلى أن مفهوم حقوق الإنسان قد انبثق في سياق فكر تصب فيه ثلاث روافد:

فكرة الحرية أو الحريات،

فكرة العقد الاجتماعي،

فكرة القانون الطبيعي،

لكن البحث في الجذور الفكرية لحقوق الإنسان يوجهنا إلى الأسئلة، كيف وأين ومتى نشأت وتطورت؟ ويوجهنا البحث في الأسس الفكرية لحقوق الإنسان إلى أسسها وخلفياتها الفلسفية. فالأسس الفلسفية التي تقوم عليها جقوق الإنسان هي، العقلانية والمشروعية التاريخية والنزعة الفردية والوضعانية القانونية. هي في الأصل كتلة فكرية واحدة قائمة على أرضية الحداثة. / 

ويمكن لنا هنا، أن نضيف هنا، الحداثة لمجتمع تشكل وتقدم وارتقى واستطاع تثبيت حريته، فهل الحداثة ممكنة في مجتمع غير متشكل وغير حر !!,      

/ما يسمى بالحقوق كحريات هي في النهاية حرية الممارسة السياسية، حرية الممارسة الاقتصادية، حرية الممارسة الثقافية، حرية الممارسة الفكرية.

وهذه الحريات ليست مطلقة، لأنه إذا كانت الحرية حقاً طبيعياً مطلقاً للإنسان في الحالة الطبيعية، فإن هذه الحرية تتطلب ضبطها في الحالة الاجتماعية للخروج بها من حالة أو إمكانية الاقتتال إلى حالة الاتفاق والسلام الاجتماعي ولعل هذا المعنى الذي يظهر في قول هيجل، فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة.  

إنَّ حقوق الإنسان من حيث في جوهرها هي حريات يتم ضمانها أخلاقياً وتشريعياً، هي ضبط وتقنين لهذه الحريات في إطار تنظيم مجتمعي قائم بتحويلها إلى واقع تشريعي ملموس. /

وهذا يتناغم مع مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي، حرية واجب نظام قوة، وفق نظرتنا نحن إلى الحياة.

/وهكذا الحق والملكية والأخلاق والحكومة والدستور، يجب أن تكون محددة انطلاقاً من مبادئ عامة لمفهوم الإرادة الحرة والعقلانية أي لمبدأ الذاتية.

    على الرغم من أن فكرة العقد الاجتماعي هي فكرة افتراضية أكثر مما هي واقعية، أو هي بتعبير دوركهايم, لا تربطها أي علاقة بالواقع, فإنها قد لعبت دوراً حاسماً في التحول في النظرة الكنسية حول المجتمع والسلطة, إن إرجاع نشأة كل من المجتمع والسلطة إلى فعل تعاقد بين الناس معناهما إرجاعها إلى فعل بشري ( كما كان إلهي في حينه). أي الإنسان والإرادة. وربما كانت إرادة الأفراد هي أساس وأصل الإرادة الجماعية نفسها. لكن ما سيميز عقد روسو هو قوله أن، السيادة للشعب والدولة الوحيدة المشروعة هي التي يمارس الشعب ذاته السيادة، وهي الدولة الجمهورية. /

وسعادة قدم تعاقداً فردياً واقعياً اختيارياً عند الانتماء للحزب-الأمة مصغرة ولم يكن إجبارياً على الإطلاق.

لا شك أن أرضية الحداثة قدمت للبشرية ما قدمته، لكن هل نحن شركاء في هذه الحداثة!!, بالطبع لا، فنحن في سياق مختلف تماماً، نحن لا زلنا في سياق تحرري وفي سياق التشكل القومي. لكننا لا زلنا خاضعين متأثرين بما يخططه الغرب وينفذه لصالحه دون النظر إلينا وإلى حقوقنا، لأننا لسنا مستقلين وغير أحراركما نريد، فنحن لا زلنا في مرحلة إنشاء وتشكل أمة، فالحروب والتدمير والتفكيك لازال مستمراً، وآخر ما يحصل لنا اليوم هو في فلسطين-غزة.

مصطفى حجازي

    علينا أن نعرف واقع وحياة الإنسان اليوم لنرى بشكل أفضل ما هي حقوقه، وفي هذا السياق يكتب الدكتور مصطفى حجازي في كتابه /الإنسان المهدور/ الصادر في عام 2005:

    /إن لكل منا نصيبه من الهدر وإن اختلفت مرجعياته ودرجاته وألوانه، ومنهم من يندرج هدره الذاتي ضمن حالة من الهدر العام أو الجماعي…. على مستوى المسار والمصير، وليس ذلك بمستغرب مادامت أكثر الظواهر صدقا على مستوى الدلالة الوجودية هي تلك التي يرتبط فيها الخاص بالعام.

لقد عرف مفهوم التنمية تحولاً كبيراً من المنظور الاقتصادي الضيق إلى منظور التنمية البشرية التي تعتبر أداة وشرط كل تنمية اقتصادية وتكنولوجية وغيرهما من أشكال التنمية…. فالإنسان ليس مجرد قدرات وطاقات منتجة يتعين تأهيلها من أجل التنمية الاقتصادية، بل انَّ الإنسان هو المحور الأساس على مستوى المدخلات، والعمليات، والمخرجات، والغايات. لا تنمية ممكنة فعلياً إلّا بمقدار توسيع خيارات الإنسان في امتلاك زمام مصيره تسييراً وتوجيها وصناعة من خلا تمكينه الكياني وبناء اقتداره الذاتي، بحيث يرتقي إلى نوعية حياة تحقق له كامل إنسانيته. ومن أول شرط هذا التمكين والاقتدار على مستوى الكفاءات والخيارات معرفة هذا الإنسان ذاته في خصوصية ظروفه التاريخية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية.

لابد من الوعي بديناميات المأزق الكياني والقوى الفاعلة فيه والمحركة له فيما وراء طروحات التخلف وقصور الحرية والديمقراطية …. وأشكال هدر الإنسان وألوانه على مستوى القيمة والكيان، والطاقات، والفكر، والوعي.

إن المجتمع الصناعي الغربي عبر إلى مرحلة المجتمع المدني القائم على المؤسسات التي يتصدر فيها الاقتصاد والإنتاج على السلطة، بينما لازالت مجتمعاتنا في مرحلة سابقة على تحقيق هذه النقلة… إننا لا زلنا بصدد مجتمعات تتصدر فيها أولوية السلطة على الإنتاج والاقتصاد….

الهدر في أوسع مدى هو انعدام القيمة والحصانة والاعتراف المشروط بإنسانية الإنسان…. هدر الفكر..الطاقات..الوعي..حقوق المكانة والمواطنة… والهدر المتبادل في علاقات الصراع الثنائية والجماعية. . المهم في المسألة أن الهدر يضرب مشروع وجود المرء كي يصبح كيانا وذا دلالة ومعنى واعتبار وامتلاء وانطلاق، مما يمكن أن يلخص في بناء هوية نجاح هذا الوجود. الهدر على هذا المستوى هو نقيض بناء التمكين والاقتدار وصناعة المصير.

…. نحن بصدد كارثة وجودية من هدر الكيان…. وهنا يلعب كل من التفكير الإيجابي وتنشيطه عن قصد ووعي، والعواطف الإيجابية وتنميتها، والارتباط بقضايا كبرى دور آفاق التحرر من القهر والهدر….. يمكن البحث في حالات مختلفة من الهدر في الحياة اليومية على صعيد البطالة والتهجير والغربة في الوطن وخارجه. وفشل مشاريع بناء كيان ذاتي من خلال النضال في سبيل قضايا وطنية كبرى… وتفاقم الهدر بقسر في النهاية حالة والتقهقر والضعف والوهن، وفقدان المناعة الوطنية….. إن قوى الخارج هي في الواقع الحليف الأكبر لقوى الهدر الداخلي الذي تدعي التدخل لتغييره. كما أن الهدر الداخلي ذاته هو حليفها الأكبر الذي يجعل شروط تدخلها ممكنة من خلال ما يسببه من قضاء على مناعة المجتمع في ناسه ومؤسساته.

يستهل تقرير التنمية العربية للعام 2002 مقدمته العامة بخلاصة تؤكد على أن الثروة الحقيقية للأمة تكمن في ناسها… ويورد التقرير أن:

رأس المال البشري يسهم بما لا يقل عن 64% من أداء النمو

ويسهم رأس المال المادي والبنى التحتية بما مقداره 16%

وتسهم الموارد الطبيعية بما مقداره 20% من أداء النمو. /

هذا يعني أننا نصرف الأموال على رأس المال البشري بنسبة عالية ليجذبها الغرب وأمريكا بسهولة إليه فيما بعد.

/وقد عرف التقرير بمزيد من التحديد التنمية الإنسانية بأنها تكمن ببساطة في عملية توسيع نطاق خيارات الناس في جميع ميادين سعي الإنسان، من خلال تمكين الناس …وتحريرهم من الحرمان وخصوصا الحرية والمعرفة….وهو ما يقتضي التحول من دولة الصالح العام إلى واقع يقوم على الحق في دولة صالحة للعيش…. إن تحدي التنمية تأسيسا على مقاربة أوسع (من مجرد البعد الاقتصادي والمعيشي المادي) للرفاه الإنساني الذي يركز على مختلف أنماط الحريات الأساسية والمؤسسات التي تحميها وانطلاقا من مفهوم التنمية باعتبارها توسيعا للحريات الحقيقية التي يتمتع بها الإنسان…تأسيسا علة هذا المنظور الاستراتيجي الذي يصوب الرؤية والمسار في التنمية الإنسانية, يعرف التقرير الحكم الصالح على أنه, الحكم الذي يدعم ويعزز ويصون رفاه الإنسان, ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية… يتلخص ذلك في الاعتراف بحق الإنسان بالكيان وصيانة حرمة هذا الإنسان وتأمينه من الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء الاقتدار الإنساني الي يشكل نواة أي إنجاز أو تقدم أو تنمية.

إن التكرار الممل لمصطلحات الحرية والديمقراطية أفقدها دقة الدلالة وكثافة المعنى ولفرط تداولها تحولت إلى عمليات تجميل وتغطية وتمويه…. إن حصار القهر والهدر يتحول إلى حصار داخلي للذات، إننا بصدد هدر لإنسانية الإنسان متعدد الأبعاد والمستويات والألوان.

هل هناك إنجاز اقتصادي أو عمراني بدون اقتدار معرفي وفاعلية ذهنية متحررة؟ 

ذلك ما تحاوله العولمة تحديداً من خلال إغراق جيل الشباب في عالم الإثارة والمتع الحسية ومظاهر الاستهلاك الآني مزينة إياها على أنها غاية المنى، في تحقيق الوجود وامتلاء الكيان ودلالته. تختزل القيمة الكيانية وقيمة الانتماء إلى ثقافة ووطن، في رقم حساب وبطاقة ائتمان ومظاهر رفاه العيش وإثاراته التي يتفنن إعلام العولمة بتزيينها للناس وللشباب تحديدا. ومع هدر الوعي يهدر العقل ذاته …كما قد يصيب الهدر العام المواطنة والانتماء.

الإنسان كائن منتمي بالتعريف، كيانه الذاتي يتحدد بإطار من الانتماء إلى وطن وأرض وثقافة. هويته الذاتية تنبني تدريجياً خلال مراحل النمو من خلال الانتماء إلى أسرة وحي، ومدينة، ومجتمع، ووطن. وصولاً إلى الانتماء إلى منطقة حضارية وما يليها من مدى يتمثل في الانتماء الإنساني للكون.

    إن هدر الفكر هو أهم ركن في ثلاثية الهدر الأخطر، أي هدر الفكر والوعي والطاقات، لأنها تصيب حيوية المجتمع ونمائه في الصميم. إذ هي تتركه في حالة انكشاف وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية المتنامية.  كما تحرمه من فرص احتلال المكانة والدور والمشاركة على ساحة المنافسة الدولية.

تشكل ثلاثية هدر الفكر والوعي والطاقات الحالة الأعم لهدر الإنسان والمؤسسات وبالتالي كيان المجتمع ذاته. وتكمن خطورتها في كونها تظل خارج بؤرة التركيز في تناول قضايا المجتمع، حيث يسلط الضوء أساسا على الأبعاد السياسية (حرية، ديمقراطية) وعلى الفساد الاقتصادي، في حين أنه يتعين تسليط الضوء وتركيز البحث على هذا الهدر الثلاثي….. وسيتبين من هذا البحث مدى التهديد والخطورة التي تشكلها ثلاثية الهدر هذه، خصوصاً وأنها تتعرض لعمليات طمس مبرمجة، وإزاحة القضايا عن موقعها الصحيح، من خلال طرح (مشكلات قناع) لا تعدو كونها نتائج وأعراضاً وليست أسباباً أو أصولاً.

        صفتان تميزان عالمنا الراهن والمستقبل المنظور هما: التسارع وعدم اليقين.

كل شيء يتسارع سواء على مستوى التحولات السياسية والاقتصادية، أم على مستوى التطور العلمي والتقني. لا شيء في السياسة والاقتصاد والاجتماع يبقى على حاله، ذلك هو خصوصاً شأن تسارع نمو المعرفة البشرية، إننا تجاوزنا مسألة التراكم البطيء والمستمر كي ندخل في عقد الثورات، بل الطفرات في كم المعلومات ونوعها، ومناحيها المختلفة.

أما انعدام التأكد فهو السمة الثانية المميزة لعصرنا. لقد ولى عصر اليقينيات الثابتة….. كل شيء أصبح قابلاً للتحول والتبدل في مفاجآت متلاحقة ...لم تعد هناك ضمانات لشيء أو لإنسان… أكثر الوقائع أو الحالات ذات الثبات والرسوخ الظاهرين تتحول وتنقلب من حيث لا نتوقع….. فقط المعرفة وبناء الاقتدار المعرفي هما الضمانة للحفاظ على المكانة ولعب دور، راهناً ومستقبلاً…. فقط قوة المعرفة وجدارة المعرفة تشكلان بطاقة الدخول المقبولة إلى ساحة التنافس المحتدم عالميا…. ولى عهد المرجعيات التي كانت تشكلها الأجيال السابقة إلى غير رجعة، وبالتالي عهد النقل والتلقين …. كما ولى عهد إلى غير رجعة الجواب الواحد الصحيح في عصر طوفان الأسئلة المتزايدة جرأة وتحديا للثوابت. بل ونقضا لها.

    هدر الفكر هو ببساطة هدر فرص بناء الكيان ونمائه، وهدر المكانة المستقبلية، إضافة إلى كونه دخولاً في حالة انعدام المناعة والحصانة.

    الإنسان من حيث التعريف هو الكائن المفكر المعبر، ذلك ما يميزه عن كل الكائنات الحية. والفكر هو نتاج التفكير، أي إعمال النظر في الشيء وتأمله، والتفكير هو ترتيب الأمور في الذهن… واما الفكر فهو حركة الذهن نحو المبادئ والرجوع عنها إلى المطالب، والنظر في المعلومات الواقعة في ضمن هذه الحركة. وعليه فالتفكير يتنقل من التساؤل والتفسير إلى التدبير والتغيير. /

يكتب سعادة في مقالته التفكير العملي والإصلاح الاجتماعي..المجلة، بيروت المجلد 8، العدد 2، 1/4/1933

/إننا الآن على أبواب عصر جديد إذا ولجناها دخلنا عالم النور ورقينا مرتبة الإنسانية الحقيقية، أقول ذلك وأنا أعني المجتمع لا الأفراد، وإذا لم نلجها بقينا حيث نحن، وإني أشفق على مجموعنا من نتائج بقائه حيث هو!
ليس كثيراً عليكم أن أضع أمامكم قضية حيوية تتناول مجموعنا كله، لأن حياة الفرد مستمدة من حياة المجموع، ولأن الأفكار الصادرة عن الأفراد لا تلبث أن تؤثر في أحوال المجموع إذا تناولتها الطبقة المتعلمة المتنورة. وهذه الحقيقة تجعلنا ندرك إدراكاً جلياً حقيقة العلاقة بين حياة الأفراد وحياة المجموع وأهمية الأفكار في جعل هذه العلاقة شيئاً مفيداً للفرد والمجموع كليهما، فالتفكير مظهر من مظاهر الحياة الراقية لأنه العمل الأساسي للعقل البشري.

إنّ قيمة عقل الإنسان تظهر في مقدار تفكيره ونوعه، والدليل على نوع هذه القيمة وأهميتها يظهر من نتائج التفكير المتجلية في الحياة الاجتماعية. ومن معرفتنا حقيقة الحياة القومية لشعب من الشعوب يمكننا أن نحكم على مبلغ تفكيره وأن نعيّن بالضبط المحل الذي يحله ذلك الشعب من بقية الشعوب. وهذا الحكم وهذا التعيين لا يقتصران على وصف الشعب بمجموعه فقط، بل يتناولان طبقات الشعب وجمعياته والهيئات التي تمثله وكل فرد من أفراده، فكل فرد يُعرف في العالم بصفة شعبه لأنه جزء منه وأخلاقه من أخلاقه، ولأن الشعب ليس إلا مجموع أفراده فكما تكون حقيقتهم تكون حقيقته.

تجاه هذه الحقيقة نرى أنفسنا مضطرين إلى تخصيص الطبقة الراقية بأكبر قسم من المسؤولية في تقرير الحياة القومية، لأنها عقل الشعب وقوّته التفكيرية. فعنها يجب أن تصدر الأفكار النيرة والآراء الصائبة، ومنها يجب أن تخرج المبادئ الصحيحة التي هي مصدر الحياة القومية. فإذا قامت الطبقة المتنورة بواجبها من تسديد مرامي شعبها وإعداد طرق حياته، كانت الحياة القومية صحيحة وكان مطلب الأمة الأعلى جميلاً ذا قيمة عقلية عالية. الصحة البدنية جمال للبدن، والصحة العقلية جمال للنفس، وصحة الحياة القومية وجمال المطلب الأعلى يدلان على صحة حياة الأفراد الداخلية وجمال نفوسهم. /

يكتب سعادة في الخامس من كتابه نشوء الأمم:

…… فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة. /

فنحن هنا أمام جملة حقوق مرتبطة بالمجتمع ونظامه:

حق العمران، حق الفكر، حق التفكير

نعود إلى ما كتبه الدكتور حجازي: / يعرف الفكر بأنه كل ما يؤثر بالوعي، أي كل ظاهرة نفسية واعية، مما هو مرادف للذكاء والعقل….. هو مجموعة الآراء والمذاهب المشتركة بين أفراد جماعة ما، يتخذون منها إطارا مرجعيا يحدد الرؤية ومنهج المقاربة والتعامل، وأسلوب الحكم والتقويم، ومرشد الممارسة، واتخاذ القرارات، والمواقف. /

يكتب سعادة في نشوء الأمم: ….. هنالك الفارق الأساسيّ الأوّلي الّذي يجعل لأعمال الإنسان وللاجتماع البشري صفة مستقلة تبطل كل مقابلة (اجتماعية) بين الإنسان والحيوان، هو ظهور الفكر الّذي له كلّ الأهميّة في الحياة والاجتماع الإنسانيّين.

….. كيفيّة فهم المحيط من الوجهة النّفسيّة. ففهم المحيط من هذه الوجهة، فيما يختصّ بالظّواهر النّفسيّة كالوعي والإحساس والإرادة والفكر والتّصوّر وما إليها، ليس ممّا يمكن استكشافه في الحيوان. وهي هذه الظّواهر الّتي لها كلّ الأهميّة في حياة الإنسان الاجتماعيّة ــ في فهم الإنسان محيطه.

    / قد تدفع ثلاثية الهدر الناس إلى اقتصار نشاطهم الفكري على مستوى المعاش وحده، والسعادة والرضى بتحقيق متطلباته. هنا يعطل استغلال الدماغ ولا يبقى فاعلا منه سوى سوى ذلك الجزء المسمى، الهيبوتلاموس, وهو كتلة وسط الدماغ لا يزيد وزنها على 5 غرامات…. هي التي تضبط وظائف الأكل والنوم والجنس والانفعال فيدفعون الناس للعيش في مستوى الهيبوتلاموس… وكيف لنا أن ننهض ونصبح شيئاً بين الأمم المتنافسة في مضمار الاقتدار المعرفي وطفراته في عالم التسارع وانعدام التأكد، ما دام يفرض على الناس النشاط الذهني على مستوى الهيبو تلاموس وحده؟

     يتناسب التخلف طرداً مع هدر الفكر. وتصدق هذه المعادلة الآن كما لم يسبق أن حدث في التاريخ، ذلك أنه مادام الفكر بخير (بمعنى مجمل النتاج العقلي من العلم والثقافة والإنسانيات والفنون) فإن روح المجتمع تظل بخير….. ويرتكز هذا الكلام على معطيات الأبحاث الحديثة على الدماغ ونشاطه… فلقد ثبت أن تشجيع الفكر من خلال الحوار والنقاش وتعزيزهما يطلق مادتي الأندروفين والدوبامين في الدماغ، وهما تولدان حالة من النشوة والحيوية والاستمتاع والدينامية…كذلك فإن التحديات الفكرية وطرح المشكلات التي تحتاج إلى حل، وتنشيط التفكير التحليلي النقد يساعد على زيادة تكوين الشبكات العصبية في الدماغ…. وبالعكس مع تدني مكانة الفكر والمفكرين لحساب استفحال قيم الملكية والتملك والأرصدة والأسهم… ومع الحريم والتحريم والحجر يخصى الذهن ويفرض التطفيل (الرد إلى حالة التبعية الطفلية) وبالتالي يهدر الكيان.

ننهي هنا ما كتبه الدكتور مصطفى حجازي ولن نكتفي.

في هذا السياق يكتب الشاعر السوري نزار قباني:

حين يصيرُ الفكرُ في مدينةٍ 

مُسَطَّحاً كحدوةِ الحصانْ .. 

مُدوَّراً كحدوةِ الحصانْ .. 

وتستطيعُ أيُّ بندقيّةٍ يرفعُها جَبانْ 

أن تسحقَ الإنسانْ 

حينَ تصيرُ بلدةٌ بأسرِها .. 

مصيدةً .. والناسُ كالفئرانْ 

وتصبحُ الجرائد الموَجَّههْ .. 

أوراقَ نعيٍ تملأُ الحيطانْ 

يموتُ كلُّ شيءْ 

يموتُ كلُّ شيءْ 

الماءُ، والنباتُ، والأصواتُ، والألوانْ 

تُهاجِرُ الأشجارُ من جذورِها 

يهربُ من مكانِه المكانْ 

وينتهي الإنسانْ

سيرجي قرة مورزا

    وفي سياق الكتابة عن حقوق الإنسان لا نستطيع تجاهل التلاعب بوعي هذا الإنسان، وهذا ما يبينه سيرجي قره – مورزا في كتابه التلاعب بالوعي:

/ لنحدد مادة حديثنا سائرين من العام إلى الخاص.

ثمة في جميع التصورات عن العالم، بدء من الأساطير القديمة ذاتها، فعل الخلق. تحول الآلهة الفوضى إلى الكون، أي إلى كل منتظم، الجزيئات جميعها فيه مرتبطة بخيوط وأوتار غير مرئية….. لقد حطمت الثورة العلمية وكوبرنيكوس وغاليله ونيوتن هذا التصور عن العالم بصفته كونا متناغماً، واكتشفوا الفضاء وجعلوا الوقت مستقيماً، غير أن فكرة التأثير المتبادل بين الأشياء ظلت باقية، ولكن على هيئة الحتمية الميكانيكية، كل

شيء في العالم مترابط..بقانون الجاذبية الكونية/

    من الأكثر عمومية، الذي هو الكون، التنظيم والنظام، إلى الخاص الذي هو نحن على الكرة الأرضية. لا يمكننا الانعتاق من هذا النظام والتنظيم الكونيين، لكننا نستطيع بناء الحركة وفق سنن وقوانين هذا التنظيم والنظام، لذا علينا فهمهما. فأي تفكك أو محاولة تفكيك لهما هو انهيار للكون برمته. فالكون أعقد من أن يكون حالة ميكانيكية مطلقة، وكذلك المجتمع، فهناك تأثير متبادل مستمر بين أجزاء أو مكونات التنظيم والنظام الكونيين وهو ما يسبب الحركة وضروراتها وكل ما تتطلبه، فأين موقعنا من هذه الحركة، وكيف نتحرك؟

نستنتج من قول سعادة في محاضرته العاشرة أن مكونات التنظيم والنظام هي:

التنظيم هو فكري وسياسي وعملي

النظام هو فكري، عقلي، اجتماعي

إن تحطيم المنظومة الكونية المستقرة وتبدل هيكليتها، يجب أن تلفت نظرنا إلى كارثة عظمى.

/ اللغة والتفكير منظومتان كبريان معقدتان، يمكن التأثير فيهما بهدف برمجة سلوك الإنسان

الإنسان كائن اجتماعي….. وحدهم الوحوش والآلهة قادرون على العيش خارج المجتمع، الفرد هو تجريد وتصور مثالي عن الإنسان المعزول تكون في القرن السابع عشر مع نشوء المجتمع الغربي المعاصر. .. أسطورة الفرد غير قابلة للتحقيق في الممارسة، فالإنسان يظهر ويوجد ليس فقط في تفاعل متبادل مع الآخرين، بل تحت تأثيرهم أيضاً…. الرضيع الذي ربته الوحوش الضارية (مثل هذه الأحوال مدروسة ومعروفة) إنه ليس إنسانا ولا يمكن ان يستمر في العيش. لا يصير إنسانا حتى الرضيع الذي تعزله أمه عن الناس الآخرين.

هذا معناه أن برنامج السلوك الكامن فينا بيولوجيا غير كاف لنكون أناسا. إنه يتمم ببرنامج آخر مكتوب برموز الثقافة. وهذا البرنامج إنتاج جماعي. /

ولنا هنا، حق الثقافة والتثاقف

ونرى في سياق كتاب نشوء الأمم أهمية الثقافة بالنسبة للمجتمع.

/أي نوع من التأثير في سلوكنا هو الذي نحدده بصفته تلاعباً!!

يفسر معجم أكسفورد للغة الانكليزية كلمة التلاعب، بأنها فعل التأثير في الناس أو التحكم بهم بمهارة، وباستهانة مبطنة خصوصاً، كتحكم أو معالجة مخفيين. ويعرف معجم علم الاجتماع المعاصر 1969 الصادر في نيويورك التلاعب بأنه، نوع من استخدام السلطة الذي يؤثر من يتمتع بها في سلوك الآخرين، من غير أن يكشف عن طابع السلوك الذي ينتظره منهم.

يرتكز فن (لاعبي السحر) هؤلاء الممثلين …على خصائص الإدراك والانتباه البشريين. أي على نفسية الإنسان. يحقق لاعب السحر نجاح تأثيره حين يستغل الصور النمطية النفسية لدى المشاهدين، مشتتا انتباههم وحارفا إياه ومن ثم مركزاً إياه، ومؤثرا في مخيلتهم بأن يكون لديهم وهم الإدراك. وإذا كان الممثل متمتعا بالحرفية فإن اكتشاف التلاعب يصير صعبا جداً، حتى لو كان الشكاكون الأذكياء ينظرون بكامل أعينهم.

بإمكاننا أن نميز مؤشرات أساسية وعامة للتلاعب، أولا أنه نوع من التأثير الروحي النفسي..هدف فعل المتلاعب هو الروح والبنية النفسية للشخصية الإنسانية. يعرف عالم الاجتماع الألماني غيربيرت فرانكه، عام 1964, التلاعب: ينبغي أن نفهم عملية التلاعب في كل الأحوال بصفتها تأثيرا نفسيا ينفذ سراً، وتالياً، على نحو يضر بأولئك الأشخاص الموجه لهم. ابسط مثال على ذلك هو الدعاية. 

التلاعب بالوعي الاجتماعي صار تكنولوجيا….. لا يصير الإنسان ضحية للتلاعب إلا إذا كان منخرطا فيه بصفته مساهما في تأليفه، ومشاركا به, لا يتحقق التلاعب إلا إذا أعاد الإنسان بناء وجهة نظره وآرائه ومزاجه وأهدافه تحت تأثير الإشارات الحاصل عليها, وبدأ يتصرف وفاقا للبرنامج. أما إذا ساوره الشك وعاند، ودافع عن برنامجه الروحي فإنه لا يغدو ضحية.   

  يتلخص الشرط الأول للتلاعب الناجح في أن الغالبية العظمى من المواطنين في الغالبية العظمى من الأحوال لا ترغب في إهدار قواها الروحية والذهنية ولا الوقت على التشكيك ببساطة في الأنباء…. لأن الغرق السلبي في تيار المعلومات أسهل بكثير من إعادة المعالجة النقدية لكل إشارة. 

المؤسس الرئيسي منذ البداية لنظرية التلاعب بالوعي الجماهيري وتقنيته كان الولايات المتحدة الأمريكية.

لا يقتصر التحضير للتلاعب على تهديم التصورات أو الأفكار فقط، بل يكمن أيضاً في خلق أفكار ورغبات وأهداف حجيجة وبنائها. هذه البناءات الخدمية مؤقتة ومهمتها الرئيسية هي إحداث الخلط في الأفكار وجعلها غير منطقية وخالية من الروابط، وإجبار الإنسان على الشك في الحقائق الحياتية الراسخة، ما يجعله ضعيفا أمام التلاعب.

إن الإنسان يعيش في عالمين، عالم الطبيعة وعالم الثقافة، يمكننا النظر إلى هذا الطابع المزدوج الذي يميز الوسط المحيط بنا من زاوية أخرى. يعيش الإنسان في عالمين – عالم الأشياء وعالم الرموز. الأشياء التي صنعتها الطبيعة والتي صنعها الإنسان هي الأساس المادي لعالمنا. أما عالم الرموز فيتصف بتنوع أكثر بكثير، وهو مرتبط بالأشياء، لكن بروابط معقدة وآنية وغالبا ما تكون عصية على الالتقاط (الإلهام لا يباع لكن المخطوط يمكن أن يباع). حتى أنواع الرموز الخاصة المألوفة منذ الطفولة، كالنقود (التي ظهرت كي توحد عالم الأشياء مع عالم الرموز) مليئة بالأسرار. كانت النقود منذ نشأتها مادة للجدل…. إن النقود بصفتها رمزا مليئا بالأسرار وقد صارت منذ القديم منبعا لا ينضب للخدع والتلاعبات. وعالم الرموز كله، بالمجمل،هو المرمى الأول للمتلاعبين.

اللغة بصفتها منظومة للمفاهيم والكلمات (الأسماء) التي يدرك بها الإنسان العالم والمجتمع هي وسيلة الإخضاع الرئيسية …. دخل مخزون الإنسان المعاصر الثقافي تصور وكأن الإخضاع يبدأ من المعرفة التي تعد أساس الإقناع. غير أنه في الأعوام الأخيرة بات يزداد أكثر فأكثر عدد العلماء الميالين إلى الرأي بأن المشكلة أعمق وأن الوظيفة الابتدائية للكلمة كانت منذ فجر البشرية التأثير الإيحائي والإخضاع لا من خلال الإدراك، بل من خلال الشعور.

ظهور الإنسان مرتبط بالتبدلات التشريحية – أي تطور الحقول الثلاثية لقشرة الدماغ – لقد سمحت هذه الحقول بالاحتفاظ في الذاكرة بالانطباعات عن العالم المحيط وإسقاطها على المستقبل. وصار الإنسان البدائي وكأنه يعيش في واقعين – خارجي حقيقي ونفسي داخلي متخيل- …. الواقع المتخيل كان أشد سطوعاً، على ما يبدو، وأكثر حركة، وولد اجهاداً انفعالياً قوياً…..

ظهرت الكلمة التي انحصرت قوتها لا في محتواها الإخباري، بل في تأثيرها الإيحائي.

قوة التأثير الثانية هي الوعي المتطور وعملية المعرفة، يقول بيكون منذ فجر العالم: المعرفة سلطة (يعتبرها المترجم أنها ترجمة أدق للجملة، المعرفة قوة)

يقول لافوازيه، المنهج التحليلي هو لغة…. المنهج التحليلي واللغة مترادفان. التحليل يعني التفريق والتقسيم (المعاكس للتركيب)، الإخضاع معناه التقسيم.

صارت اللغة الطبيعية في الزمن الحديث في المجتمع الغربي الجديد تستبدل بها لغة مكونة تكويناً خاصاً. صارت الكلمات الآن أكثر عقلانية… (اكتسبت عوضا عن ذلك ثمناً) …. حين صار التلاعب بالوعي الوسيلة الأساسية للسلطة بدلا من القوة احتاج أصحاب السلطة إلى حرية الكلمة التامة. أي إلى تحويل الكلمة إلى أداة لا شخصية لها وخالية من الروح. طبعا لا يمكن حرية الكلمة التامة أن تكون في كل مجتمع – ثمة دائما شيئا ما مخالف لتعليمات الرقابة، وكما قال توماس جيفرسون، لا تستطيع أي حكومة أن تقوم من غير رقابة: فحيث تكون الصحافة حرة لا يكون أحد حراً.

يكتب الفيلسوف الفرنسي إيفات إيليتش الذي درس دور اللغة في المجتمع، “صارت الكلمات في السوق في زماننا واحدة من السلع الرئيسية التي تحدد الناتج القومي المحلي. النقود تحديدا هي التي تحدد ما سيقال ومن سيقول وأي نوع من الناس سيقال له. تتحول اللغة لدى أغنياء الأمة إلى ما يشبه قطعة الاسفنج التي تمتص مبالغ لا يمكن تصورها. صارت اللغة المتحولة إلى رأس مال، خلافا للغة الأصلية، منتج صناعة لها تكنولوجيتها ودراساتها العلمية.”

يعد عالم الاجتماع الأمريكي هارولد لاسويل مؤسس الاتجاه العلمي المعني بدور الكلمة في الدعاية (ومن ثم التلاعب بالوعي) …. لقد وضح منهج التحليل الدلالي للنصوص – أي دراسة استخدام هذه الكلمات أو تلك من أجل نقل المعاني أو تشويهها….. بنى لاسويل منظومة كاملة نواتها تشكيل الأسطورة السياسية عن طريق انتقاء الكلمات المناسبة.

شكل انفصال الكلمة (اسم) عن الشيء والمعنى المختبئ فيه خطوة مهمة على طريق تدمير الكون المنتظم كله… ما أن بدأ الإنسان يتكلم، كلمات بلا جذر، حتى صار يعيش في عالم مجزأ، وما عاد يجد ما يستند إليه

في عالم الكلمات…. تحول بناء مثل هذه الكلمات، عديمة الجذر، إلى أسلوب مهم في تدمير اللغات القومية ووسيلة لتذرير المجتمع.

استمد الاختصاصيون الكثير من البرنامج اللغوي للفاشيين، قال موسوليني، تمتلك الكلمات قوة سحرية هائلة، إذ انكب الفاشيون على دب التعصب في الجماهير، فإنهم أقدموا على خطوة أخرى نحو قطع الصلة بين الكلمة والشيء. يسمى برنامجهم أحياناً، الإرهاب الدلالي

خذوا كلمة إنسانية، ما هو معناها المموه؟

الإنسانية هي ليست ببساطة شيئاً ما جيداً وطيباً، بل إنها تصور فلسفي محدد عن الإنسان يبرر ممارسة سياسية محددة تماماً…. وجوهرها هو تأليه فكرة الإنسان المحددة تماماً، مع قمع أو تدمير، لجميع أولئك الذين لا يندرجون ضمن هذه الفكرة، الإنسانية مرتبطة ارتباطا وثقا بفكرة الحرية التي تفهم على أنها ضم الشعوب والثقافات كلها في الثقافة الأوربية. يبرز من هذه الفكرة الازدراء والكراهية تجاه الثقافات التي تقاوم ذلك.

تم تحقيق مقولة الإنسانية بالشكل الأنصع والأكمل من قبل أولئك المثاليين الراديكاليين الذين هاجروا من أوربا إلى أمريكا وكانت نتيجته الأبلغ التدمير الحتمي للهنود الحمر.

طرد الأنغلو سلكسون الهنود والزنوج من المجتمع، لا لأنهم شككوا بفكرة حقوق الإنسان العامة، بل لأن هذه الفكرة لا يمكن أن تطبق على تلك (المخلوقات العاجزة عن العقلانية)، يكتب دو توكويل، أن الحديث كان يدور عن تدمير جماعي للناس مع احترام كامل وصادق لقوانين الإنسانية.

نمت نظرية المجتمع المدني من فكرة الإنسانية. وقد طور مؤسسها الفيلسوف لوك فكرة حقوق الإنسان المصانة…… قدم أورويل في روايته, 1984, وصفا خياليا للنظام الشمولي الذي كانت وسيلة القمع الرئيسية فيه هي اللغة الجديدة، وهي لغة مبتكرة خصوصا لتغيير معاني الكلمات المعروفة.

يتصل جبروت الكلمات اتصالا وثيقا بالصور التي تحفزها ولا يرتبط مطلقا بمعناها الحقيقي….

يكتب هربرت ماركوس:

إخضاع الإنسان اليوم يتخلد ويتسع ليس فقط من خلال التكنولوجيا، بل بصفته تكنولوجيا أيضاً، ما يقدم أسساً أيضا لشرعنة السلطة السياسية شرعنة تامة ولتوسيعها لتشمل مجالات الثقافة كلها.

حق الاستقلال الروحي والنفسي       

ولو دخلنا أكثر في موضوعة الإنسان، كنسب الذكاء وكيفية حصوله وغيره….، لوصلنا لنتائج قد تساعدنا أكثر في تجاوز المعايير الغربية والأمريكية الموضوعة من قبله والتي تساهم في إحقاق دورة الاستهلاك القومية والعالمية، التي يريدها رأس المال العالمي، للوصول إلى أقصى ما يمكن من الأرباح المالية من كل فرد حسب موقعه الاجتماعي وبنيته الذهنية وحاجاته و…. .

    إن كافة الكلمات – المصطلحات المستخدمة في الخطاب الفكري والثقافي والسياسي وعلى مستوى العالم لا يتم التعامل معها على أساس مفهوم معين متفق عليه. وقد أضاف سعادة في محاضراته فكرة المدلول المكاني الذي يدل عليه المفهوم، ودون ذلك فإنه سيفهم منها من يشاء ما يشاء، ويحملها من ثقافته الراهنية أو الموروثة، وبالنتيجة يشير إلى مدلول غير مرئي، وقد يكون مغلوطاً.

      نضيف هنا من موروثنا، ففي حياتنا اليومية يتم التعريف بالشخص باسمه وعمله، دون حقيقته، ومهما كان عالمه الداخلي، لكن هذا التعريف لا يبين حقيقة الإنسان، من أنت؟ ماذا تعمل؟ وذلك بسبب سيطرة الاقتصاد على محيط الإنسان مع انخفاض المستوى المعاشي إلى درجة كبيرة، والتراجع الثقافي مع ضعف عملية التفاعل العام داخل المجتمع والبيئة الطبيعية.

يجب أن نضيف السؤال، ما أنت؟ وعندئذ فإننا نكون قد نظرنا إلى هذا الإنسان بكليته، وإلى حقيقته لا بجزئية تختزله إلى كائن ناقص في وجوده. من أنت؟

سؤالان اساسيان لمعرفة الإنسان للإنسان لتتجلى الإنسانية الحقيقية الشاملة، ليس كمساعدات مالية أو طبية أو غذائية أو …. غيره.

 وهذا يحتاج إلى حراك مجتمعي نفسي يتحقق من خلال مؤسسات ثقافية نفسية مجتمعية.

إن أي كلمة – مصطلح في الخطاب العام، بكل تنويعاته، يجب أن ترتبط بمفهوم قمنا نحن بفهمه ومعرفته وبمدلول يرتبط بواقعنا وحياتنا. فإي إلغاء أو تقطيع أو تجزئة للعلاقة، كلمة – مصطلح – مفهوم – مدلول، يلغي من الثقافة معناها المحلي ويعرقل إمكانية الاستفادة منها. وبالتالي نرى أننا أمام ضرورة فحص للكلمات (الياس مرقص) أو إعادة مساءلة مفهوم الإنسان (علي حرب).

فعلينا إذا أن ندخل في الإجابة على السؤال، ما الإنسان؟ لنستطيع أن نرى ونحدد حقوقه.

ربما استطعنا الإضاءة على بعضا من الاختراقات لبنية الإنسان وحياته وواقعه، المجتمعية والعالمية، ويمكن لنا أن نذهب لنرى الكيفية التي أسس عليها سعادة لنعمل نحن على فهمنا للإنسان.      

يقول سعادة في محاضرته السابعة:

/وإذا عدت في الأخير إلى النظرة الروحية في الأمور….. إن العالم قد شهد في هذه البلاد أديانا تهبط إلى الأرض من السماء، أما اليوم فيرى دينا جديدا من الأرض رافعا النفوس بزوبعة حمراء إلى السماء. /

ومن هنا يحق لنا أن نفهم أن سعادة قصد من القومية الاجتماعية نقل مركز الثقل الروحي من خارج الإنسان إلى داخله بواسطة المجتمع، وإلا فسيبقى الإنسان في غربة روحية دائمة، وذلك ليس بالوعظ، بل بالفكر والممارسة، بالانطلاق من واقع حياة الإنسان وتطوراتها وانعكاساتها.

يمكن لنا أن نستنتج أننا بحاجة لإعلان عالمي لحقوق المجتمع قبل حقوق الإنسان، أو لحقوق الإنسان – المجتمع، فإذا استطاع المجتمع الحصول على حقه في الحياة، في هذا العالم، فمن الطبيعي أن يحصل الإنسان على كل حقوقه.

يبدو أن الحرية تأخذ حيزاً كبيراً في الوقائع وكل الطروحات الفكرية والفلسفية والعلمية.

يكتب سعادة في كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري:

/فك قيود الروح المادية بنظرة إلى الحياة والكون فاهمة/, وهنا يدلنا على ضرورة فهم آليات تحرير الروح الإنسانية من القيود المادية.

/يعتقد أن نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن لأنه كان موقنا من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأنا وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمرا تافها إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد. سواء أكان رجلا أم امرأة، شابا أم شابة، أدب حي وفن وموسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي واحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاونا خالصا وتعاطفا جميلا يملأ الحياة آمالا ونشاطا. حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئا قابل الإنتاج. وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية”. /, فالحرية السياسية ليست حلا لحرية الإنسان.

بين القيود المادية والتقاليد الرجعية يقف الإنسان عقيما تائها عن حياته ومستقبل أحفاده.

حق التحرر من التقاليد الرجعية الرثة.

هذا هو ما يعانيه الإنسان من قهر وهدر بأشكال وأنواع مباشرة وغير مباشرة، ونستنتج أن حقوق الإنسان ليست مجموعة من النقاط يوافق عليها العالم فيأخذ الإنسان حقوقه، لأن الإنسان لا يمكن تجزئته إلى وجودات متعددة أو إلى مراحل، هو كل لا يجزأ، فقضيته كلية تشمل كل وجوده.

فما هي حقوق هذا الإنسان لإزالة القهر والهدر والتلاعب الذي يخضع لهما؟! وكذلك تخلصه من الموروث الذي يسيء له ولحقوقه.

إن حقوق الإنسان لها عدة أبعاد:

البعد المجتمعي، البعد الدولي، وكيفية العلاقة بينهما.

اعتقد في البدء، من المهم التمييز في فهمنا بين حق العيش وحق الحياة.

حق العيش، حق الحياة:

    لا يطرح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الفرق بين وجود الإنسان في إطار العيش أم في إطار الحياة!!

يكتب سعادة:

/نحن لا نهتف يعيش! يعيش! بل يحيى! يحيى! لأننا نريد الحياة بكل معانيها، لا مجرّد العيش. وفي الحياة من المعاني ما لا وجود له في العيش.

أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع، ملخص خطبة الزعيم في أول مارس، سورية الجديدة، سان باولو، العدد 63، 1940/4/27

 الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرّق بين العز والذل/.

    حيث أن الإنسان أحد الكائنات الحية فله ما للكائنات الحية من حق العيش، فالكائنات الحية (النبات، الحيوان،), بشكل عام قدمت لها الطبيعة كل ما يساعدها على العيش. أما الإنسان فقد انتقل من مرحلة الاعتماد على ما تقدمه الطبيعة إلى مرحلة متقدمة تطورت حتى وصلت اليوم إلى مرحلة الحياة، مرحلة الكرامة والعز، وقد دفعت البشرية أثماناً باهظة مقابل هذا التطور الهائل.

    فهم الغرب الفرق بين العيش والحياة، فقدم للفرد حقا للعيش مما يسد هذا الحق لكل كائن حي، أما إذا أراد الحصول على حق الحياة فيجب أن يقدم للمجتمع وأن يكون شريكا في الإنتاج والتقدم والارتقاء ليحصل على حق الحياة التي يطمح إليها. وفي هذا السياق قال سعادة في محاضرته الثامنة (المبدأ الاصلاحي الرابع):

/كل عضو في الدولة يجب أن يكون منتجاً بطريقة من الطرق/

/لا يمكننا ان نحل قضية العاطلين عن العمل بقانون ضمانة اجتماعية يضمن لنا بعض الحقوق القليلة، ولكنه لا يضمن لنا مواردنا الطبيعية ولا حق العمل. فالعاطلون عن العمل هم عمال ويجب أن يجدوا عملا وان يقوموا بنصيبهم من الانتاج. ولكن كيف يجدون العمل وأين….. /, وهذه المقولات ليستحق الفرد حق الحياة الذي يرتقي إليه من حق العيش.

حق العمل

حق التحكم بمواردنا

ويكتب في كتابه نشوء الأمم:

/فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة/

حق العمران

حق الارتفاع بمستوى الحاجات إلى مستوى الكماليات.

هذا الشرط الإنساني الاجتماعي – الفردي الذي وضعه سعادة هو لتقديم حق الحياة لكل فرد في المجتمع، بعد حق العيش. وتعطيل العمران في مجتمعنا لأسباب كثيرة تساعد على هدر حقوق إنساننا لأسباب داخلية وخارجية.

/لذلك كان الإنتاج مقصداً رئيسياً من مقاصد التفكير في الدولة القومية. وعلى أساس الإنتاج فقط يمكن النظر في إيجاد العدل الاجتماعي الحقوقي بين الذين يشتركون في الإنتاج. /

حق الإنتاج.

إذا، فإن من أولويات القومية الاجتماعية، النظر في حق العيش وحق الحياة، الارتقاء بمستوى الحقوق من مستوى العيش إلى مستوى الحياة، وكيف يمكن للإنسان الوصول إليهما، التي تتطلبان حسب ماورد في خطاب الأول من أيار:

/أيها المنتجون علما وفكرا وغلالا وصناعة/

نرى هنا أهمية الإنتاج العلمي والفكري في خطاب سعادة، في عيد العمل. وهذه قضية أخرى، قضية العمل وكيف يجب أن ننظر إليها. ومن هنا رفضه لفكرة النقابات، ليس لأنه ضد حقوق العمال، إطلاقاً، بل لأنه نظر إلى هذه الحقوق من موقع تأمين فرص العمل لكل فرد في الأمة وهذا لا يتم دون استرداد التحكم بمواردنا وإلا فإن فرص العمل ستتدنى وحق العمل لن يعود وارداً.

ونضيف هنا:

حق الإنتاج العلمي، لكن حتى الآن يتم اغتيال العلماء أو تهجيرهم أو محاصرتهم اجتماعيا.

حق الإنتاج الفكري، وهنا مأساتنا.

 

لهذا فإن سعادة غير تسمية عيد العمال إلى عيد العمل.

/ايها العمال والمزارعون السوريون، ان أول حق من حقوقكم الطبيعية والاجتماعية هو حق العمل والانتاج. وبدون وصولكم الى هذا الحق تبقى مسألة الاجور وقوانين العمل وقوانين الضمانة الاجتماعية مسألة وهمية، فقوانين العمل والضمانة الاجتماعية لا تحل مشكلة البطالة ولا مشكلة الفقر العام.

ان الحركة القومية الاجتماعية تعمل وتحارب لتأمين الأرض السورية ووحدة مواردها لكم واعطائكم حق العمل وحق النصيب منه فالقومية الاجتماعية تعني توزيع غنى لا توزيع فقر، فاطلبوا العدل الاجتماعي في غنى النهضة القومية الاجتماعي/.

فالعدالة في القومية الاجتماعية هي:

العدالة الاجتماعية الحقوقية

العدالة الاجتماعية الاقتصادية

من الملاحظ أنه فيما سمي الربيع العربي تم التركيز على العدالة الاجتماعية الحقوقية (ديمقراطية، حرية..) دون النظر إلى العدالة الاجتماعية الاقتصادية، وهذا يثبت أنهم يريدون ترك الاقتصاد في الفوضى العامة دون تنظيم ودون تقدم، لتبقى لهم السيطرة على الفائض الاقتصادي والمالي.

/……فلا يمكننا ان ننهض الا بإنتاج عظيم ولا يمكننا ان ننتج بلا موارد للإنتاج، وبلادنا غنية بمواردها، خصبة بأرضها، ولكن انعدام الوعي القومي في شعبنا أفقدنا معظم مواد أرضنا الأولية الهامة. /

حق الوعي القومي

حتى نحن لم نربط كما يجب قوميتنا ووعينا القومي وحياتنا في رباط واحد، ويمكن أن نستأنس لغويا بذلك:

الاشتقاقات اللغوية لفعل قام: قام، قوم، قومية، مقاومة، تقييم، تقويم….

إلى ما هنالك من الاشتقاقات التي تشير إلى ما كتبه سعادة أن:

القومية هي ثقة القوم بأنفسهم

/…. الإنسان يجب أن ينتج وكلما ازدادت مطاليبه وحاجاته ازدادت حاجته إلى الإنتاج. /

هكذا ترتقي حياته إلى مستوى الحياة الجيدة دائما. والخروج من مرحلة العيش.

يقسم ابن خلدون الحاجات الإنسانية إلى:

حاجية, ضرورية, كمالية.

فماهي الحاجات التي نريد للإنسان أن يصل إليها؟، بشكل آخر، ماهي الحياة الجيدة للإنسان؟، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يحدد ما هي الحياة الجيدة!!

كيف يحصل الإنسان على هذه الحاجات؟!!

/إذاً كل شيء آخر هو نتيجة عمل الإنسان. وهكذا نعود أيضاً إلى الإنتاج. الإنسان يجب أن ينتج وكلما ازدادت مطاليبه وحاجاته ازدادت حاجته إلى الإنتاج.

ما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا وهو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني “. /

فالإنتاج هو الأساس الذي يجب يتقدم إليه الإنسان، وهذا الإنتاج يحتاج إلى تنظيم اجتماعي – اقتصادي، هو الفضاء الذي يؤسس لكينونة الإنسان والمساهمة في تحديد إحداثياته.

فلا يمكن أن نتخيل حقوقا للإنسان منفصلة عن الإنتاج، والإنتاج يحتاج إلى مجتمع، وإلى تنظيم اجتماعي اقتصادي قبل النظر إلى الفرد بشكل منعزل عن المجتمع، فالبداية هي من المجتمع لا الفرد!!

/من حق الدولة أن تنظم للأفراد وتحدد لهم وتسن القوانين اللازمة لضبط الإنتاج وتقسيم العمل وتوزيع الإنتاج الحاصل من العمل/

وما يريده الغرب فعلاً، إلغاء دور الدولة نهائيا في سياق الليبرالية المتوحشة.

“وان الاشتراك في الإنتاج اشتراكاً فعلياً شرط الاشتراك في الحق العام”

يمكننا أن نستنتج حتى الآن أن الإنسان هو:

كيان، وظيفة ودور، في سبيل الوصول إلى مكانه الخاص به في المجتمع يحدد منه إحداثياته المجتمعية والكونية.

فله حق:

حق الكينونة

حق تأمين الوصول إلى مكانه الخاص به

     في الخطاب العام وتنويعاته وعلى مستوى العالم، يدعي فيه الجميع، أن الغاية هي الإنسان وحياته ومستقبله، لكن لم يطرح أحد ما هو هذا الإنسان، إلا الغرب، ولم يتم طرح الكيفية العملية ليكون هذا الإنسان هو الغاية.  

يكتب سعادة: /ندرك أن عقيدتنا تقول بحقيقة إنسانية، كلية، أساسية هي الحقيقة الاجتماعية، الجماعة، المجتمع، المتحد، فالاجتماع للإنسان حتمي لوجوده، ضروري لبقائه واستمراره، والمجتمع هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية. والقيم الإنسانية العليا لا يمكن أن يكون لها وجود وفعل إلا في المجتمع، فمتجه القيم كلها هو المجتمع، هو مصدرها وهو غايتها. /

يكتب سعادة في نشوء الأمم، الفصل الرابع:

/…… وهكذا نرى أنّ المجتمع هو الحالة والمكان الطّبيعيّان للإنسان الضّرورّيان لحياته وارتقائها…….. وسواء أكان الاجتماع البشريّ موروثاً من اجتماع سابق الطّور البشريّ أم حادثاً بعد نشوء البشريّة، فما يهمّنا منه أنّه أمر واقع ملازم للبشريّة وأنّ خصائصه ملازمة لخصائص الإنسان حتّى إنّه يستحيل تطبيق مقاييس اجتماع الحيوان ونظمه عليه ويمتنع كلّ وجه لجعل الاجتماع الحيوانيّ قياساً له.

وجدنا في الاجتماع الإنسانيّ ظاهرتين مفقودتين في غيره، هما استعداد الفرد لبروز شخصيّته واكتساب الجماعة شخصيّتها الّتي تكوّنها من مؤهّلاتها الخاصّة وخصائص بيئتها. …….بل هنالك الفارق الأساسيّ الأوّلي الّذي يجعل لأعمال الإنسان وللاجتماع البشري صفة مستقلة تبطل كل مقابلة (اجتماعية) بين الإنسان والحيوان، هو ظهور الفكر الّذي له كلّ الأهميّة في الحياة والاجتماع الإنسانيّين

ولمّا كنّا لم نجد الإنسان إلاّ مجتمعاً ووجدنا بقايا اجتماعه في الطّبقات الجيولوجيّة أيضاً، فنحن محمولون على الذّهاب إلى أنّ الاجتماع الإنسانيّ قديم قدم الإنسانيّة، بل إنّنا نرجّح أنّه أقدم منها وأنّه صفة موروثة فيها/

 

يلاحظ عدم ذكر الأرض في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكأن الإنسان موجود على الكرة الأرضية ولم ينشأ في أرض معينة ومجتمع محدد، فيحق له الذهاب إلى أي مكان في العالم ليأخذ الجنسية خارج أرضه. وهذا شكل خبيث لإلغاء التاريخ.

حق حماية الأرض حق من حقوق الإنسان.

الأرض، الوطن، البيئة، المحل، المكان، الطبيعة:

 

 الحقيقة أن خطابنا الفكري والثقافي والسياسي لا يساعدنا على أن نميز الفرق بين هذه المصطلحات أعلاه.

    إذا كان المكان يؤدي وظيفة محدودة ومحددة دائما فهو نهائي، مغلق، ولا كوني، ولا خيارات ولا احتمالات فيه، فيكون الإنسان فيه كائناً أرضياً، وقد يصل إلى مستوى أدنى الكائنات الحية.

    يجب على المكان أن يكون مفتوح على احتمالات، ويعبر عن ارتقاء وانفتاح الشخصية الانسانية بما يتجاوز الطبيعة الفردية لها، إلى ميتا فيزيقيا الكون والجمال. فكلما كان المكان –الفضاء- صغيرا-ضيقا زاد عدد الحدود ووطأتها، ولنتخيل أن فيه طاقات وإمكانيات كبيرة، أي فيه ارتقاءً فكرياً نفسياً واضحاً أكبر من إمكانيات المكان أو من الأرض، عندها لا شك أن المكان سيستنفذ بسرعة مع الوقت ويتحول إلى يقين، ثوابت، حالة منتهية لا خيارات ولا احتمالات فيها، لتضعف بعدها الحركة فيه مع تقدم حركة الزمن. لكن وحسب الحالة الثقافية فإنه وباستمرار الحركة فإنه سيرتق بالنسبة إلى الفكر والجمال إلى أبعاد فكرية وروحية ونفسية أعلى، أما مع التراجع والترهل أو الهمجية فتبدأ الغربة الداخلية لتصبح خارجية فيما بعد.

                                                                                                                                              

   أما إذا كان المكان كبيراً شاسعاً مع ضعف الإمكانيات فلا شك أنه سيتحول إلى يقين بسبب هذا الضعف، ثوابت، حالة منتهية, وهذا الضعف في الإمكانيات, أي التراجع الفكري والروحي والنفسي الواضح, يتبعه التراجع والضعف في الحركة, وبالتالي حكماً سيكون هناك تراجعاً عاماً لا يمكن إنقاذه إلا من خارجه ( خارج مفترض , هذا الخارج إما أن يكون غيبياً أو يكون عدواً وفي حده الأدنى متآمراً علينا لأن له مصلحة حتماً خارج مصلحتنا, وهكذا يكون تحالف الغيب والعدو الخارجي, وقد يكون عدواً داخلياً يتعاون مع الخارج أكان غيبياً أو جماعات أخرى, ولنلاحظ الهجوم الهمجي والشرس علينا من الدين الغيبي, غير المجدي, ومن العدو الخارجي بالتعاون مع عناصر من الداخل ), ويلغى المتخيل الممكن ذو الآفاق, فالأساس في المكان إمكانيات الإنسان وما تستطيع أن تقدمه الأرض, والتفاعل فيما بينهما.

    إن إلغاء المتخيل من الواقع، يحول الواقع إلى أشياء، فلا نعود نستطيع أن نرى الأمور إلا بما يفيد التقنية وحسب، فتتحول المصلحة إلى منفعة. وضعانية – مالية عندما يضيق ويتقزم ويتطابق الوجود مع الواقع (الوجود أوسع من الواقع)، يصبح الواقع هو صنماً منتهياً. فإذا كان الواقع مبني شيئياً، بالتحليل العياني، فالواقع أشياء، وهذا إلغاء للواقع وتفتيت له إلى وقائع – التشييئ إلغاء للواقع للعلاقات للاوعي وللمستقبل -. وامتلاك المستقبل بتجزئة الحاضر الفكري والثقافي، هو تشييئ له.   

    لا حدود حقيقية للمكان الذي نستطيع أن نصل إليه. وعلينا ألا ننسى أننا نستطيع أن نملأ الأرض بالأمكنة. لكن يبقى للأرض حدود. فبالفكر والخيال والأحلام يتوصل الإنسان الى أماكن لم يصلها أحد من قبل. أما الأرض فينتهي تأثيرها عندما تتشيئ أو تتحول الى مادة …. بالتالي ننفي عنها البعد الروحي – النفسي، وإن النظر إليها والتفاعل معها كمادة يؤسس الى نظرة مادية عن الأرض، وضعانية-تقنية-علمية، وبالتالي الى استهلاكها واستهلاك المواد الخام فيها، وتلويث البيئة دون طرفة عين.

    عندما نخفض المكان الى أرض باستنزاف فكرنا وروحنا ونفسيتنا، فإننا نخفض المعرفة إلى إيديولوجيا تبريرية، لأن المكان معرفة، ونعيش بدلاً من أن نحيى في مكان مواز مفترض غير المكان الحقيقي وغير الواقعي، مكان غيبي، أو نذهب إلى الانعزال.

    ما الفرق بين الأرض والأرض، والمحل، والمكان، والوطن؟

علينا أن نجيب على هذا السؤال. الآن.

    إن الاقتصاد الضعيف يصغّر المكان ضمن الأرض وقد يلغيه، ليصغر الوطن بعد ذلك، فتصغر الأرض التي يمكن أن نراها، فمن المكان يستطيع أن يرى الفرد كل الأرض، إن الاقتصاد الضعيف يفرض علاقات تكون تابعة إلى مستوى المكان الروحي النفسي وللمستوى المعاشي، لتصبح الاجتماعية عشوائية أو في حدها الأدنى التقليدي ويصبح كل فرد لوحده صياداً للفرص، وبالتالي عودة إلى مجتمع القنص والصيد لتحقيق حاجات استهلاكية أو حاجات الوجود الأساسية فلن يفكر أحداً بالحضور عندها، بل بالعيش فقط، بل يسيطر معنى الوجود الفردي ومفاهيمه.

    إن الحالة المبدعة هي التي تجعل المكان مكاناً دائماً، ونكشف فيه مزيدا من الأمكنة والأمكنة، ولا يتراجع أو ينحل إلى محل يحل فيه الإنسان ويمضي أو أرض يسكن فيها وحسب، كما الحياة القبائلية حيث تحل حيث وجود الطعام والشرب ثم ترحل عنه عندما ينتهي، ويتحول المواطن إلى المواطن الرحل كما البدوي الرحل من محل إلى آخر، فلا وطن للبدوي إلا طعامه وشربه وشرب حيواناته، هم دون زمن ولا يتقنون من الزمن إلا ما يتعلق بحاجاتهم البدوية، زمن الطبيعة.

    إن الطبيعة دون إنسان، أبدية وسكون، فالإنسان هو الزمن والحركة وهو الوطن شرط أن تكون له القدرة والإمكانية والاتساع لأن يكون وطناً، وطن للإنسان، ووطن للأرض أيضاً.

    لا بديل عن الثقافة لإعادة صياغة الناس لخيارات واحتمالات مختلفة أو متعددة، وبما يتناسب مع طبيعة الإنسان. لا يوجد ثقافة اذاً كان أو أصبح الوطن في خطر فالثقافة طاقة إنسانية تثبت عناصر المستقبل وتتطلع إليه.

والمكان الإيديولوجي لا يتسع لإيديولوجيا أخرى، أحادي يلغي الآخر، غير حقيقي، وهم واقعي، وبالتالي فنحن دون الثقافة في صراع دائم على الوهم ومع الآخرين، فإما أن ينضموا تحت لواء الإيديولوجيا أو الحرب بسبب الوصول إلى نقطة إلغاء الآخر الإيديولوجي الذي لا مكان له في إيديولوجية غيره.

    إن المكان الاقتصادي هو في سياق الاكتشاف والتمكن من الأرض لصناعة المكان الكلي (الفضاء) الذي ننشده، وفي هذا السياق يجب أن يكون الاقتصاد، فالصراعات الاقتصادية في عمقها هي صراع على امتلاك المكان والزمن، بينما التحكم بالتقدم الاقتصادي وإضعاف دورته هو إضعافاً وتحكماً بالاجتماع وتخفيضاً للمكان إلى أرض ثم إلى محل.

إن الاطمئنان يحرر الحالة الايديولوجية لصالح المكان والاقتصاد (الواقع) الراهن.

إذاً، لماذا الاقتصاد؟

    لأنه هو الذي يضيق أو يوسع العالم الخارجي للإنسان الى درجة الضغط على عالمه الداخلي، وهذا هو ما يولد التغييرات الحقيقية فيه أما تعطيل الاقتصاد فيؤدي بنا إلى الانتظار، والشعور بالانتظار، ويضع الإنسان في موقع التلقي وعدم الاستقرار، أو يأخذه إلى غيب يعيش فيه ويصدقه .

    إن لمستوى الاقتصاد علاقة بالهم الأعلى للجماعة، فإذا كان المستوى الاقتصادي أكبر من الهم الأعلى للجماعة، فإنه يؤدي إلى الترف والاستنزاف والتبذير، ولابد من دولة منظمة تمسك بالفائض وتعيد توزيعه انعكاساً على الخدمات العامة والرفاه والتقدم العلمي.

أما إذا كان أصغر من الهم الأعلى للجماعة فإنه يؤدي إلى قلاقل، خفض الانتاج، مساعدات، واستنزاف للطبيعة وللتاريخ، فلا بد عندها من وجود دولة ترتقي بمستوى الاقتصاد وتنظم واقعية الهم الأعلى للجماعة ولابد من التنمية الاجتماعية الاقتصادية لتعني إعادة صياغة أهداف الفرد والمجتمع في وحدة للاتجاه وللعمل.

    لذلك فإن تصاعد الهم الأعلى الفردي أو الفئوي لأسباب فردية أو فئوية، قد يوصل صاحبه الى الخيانة أو التخوين.

    إن المكان هو معرفة واجتماع، وهو الذي يكون فيه الآخر موجوداً وحاضراً، ويستوعبه.

    لقد كان تثمين الأرض خاطئاً وغير ممتلئ بأبعاد الإنسان، وذا قيمة مستقلة عن الإنسان، وبالتالي كان الإنسان يدفع دائما لينتمي إلى ما لا يشعر فيه تحت ضغط حضور الإيديولوجيا، فوطن البيئة الفرد ذاته !! , أليس للبيئة وطن؟ على الوطن أن يكون حاملاً لاحتمالات الكون، وإلا فاغتراب…….وبالتالي ليس هناك وطن، فتشتد عندئذ قضية البحث عن وطن داخل الوطن أو خارجه. إن افتراض الأرض كمكان قسري (أيديولوجي), هو إلغاء للاجتماعي والاقتصادي, وللتفاعل , وللتشكل . .

    إن فقدان شعور الفرد بالعدالة هو نتيجة للعلاقة المختلة بين مساحة وجوده وحضوره وامتداد إمكانياته، فحياته كلها تدور حول الوجود بينما لديه الإمكانية ليكون حاضراً, وهكذا يكون الانتماء بالحضور ومن خلالها يجد الإنسان الهوية إذ يوجد علاقة خطيرة بين الأرض والهوية والانتماء, فدوائر الانتماء عند الحيوان محددة بالغريزة, وتخفيض حضور الإنسان إلى وجود ليلبي الحاجات الغريزية فقط هو انتهاك كبير لحقوق الإنسان وهو تخفيض الكون إلى طعام وجنس وإلى كل ما هو غريزي ثم هو تخفيض لمستويات التفاعل بين البشر, وبين الأفراد داخل المجتمع, وبالتالي منع الكيان, منع التكون والكينونة, أي كيان, منعه من أن ينمو, ليولد التمرد والرفض الذي يعبر عن اكتشاف الذات بعيداً عن المجتمع .

    بعد كل هذا يفقد الإنسان معنى الحقيقة، وحقيقته، فأهم مفاصل تعريف الحقيقة هي الأرض – المكان – البيئة – الطبيعة – المحل – الوطن واكتشاف العلاقة فيما بينها.

     إن المستقبل هو نحن آخرون، كلنا، غير ما نحن عليه الآن، وإلا فالأبدية للأيديولوجيا وللآن، وللحظة الإيديولوجية، وهذا تأبيد للحظة الراهنة. هذه اللحظة التي لا تتسع للمستقبل معها وستبقى للأبد، ونتوقف عندها بينما يمر الزمن.

حق بناء الاقتصاد وتطوره

إن تطور مشكلة التمييز والعنصرية في العالم يدفعنا إلى ما كتبه سعادة عن هذا الموضوع في الفصل من كتاب نشوء الأمم:

التمييز والعنصرية:

نرى في المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يرد مايلي:

المادة 2

    لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي، أو القانوني، أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته.

    إن التمييز له أصول في العالم الغربي والأمريكي، أو في الأصل الوطني والاجتماعي، لاتيني، أفريقي، مسلم محمدي……وأخيرا التمييز المذهبي، وكذلك في عالمنا العربي. وحتى العنصرية التي تظهر أكثر اليوم في انتشار اليمين الأوربي وأمريكا، فهي وليدة النظرة إلى العالم وإلى الآخر استخدمتها مصالح رأس المال العالمي ومصالح الغرب وأمريكا والصهيونية، ولضرورات السيطرة والحكم والتحكم بالشعوب وبمواردها الوطنية.

    في هذا المجتمع نشأت نظرات عنصرية في العالم، التي كانت داخل المجتمعات، واليوم بعد أن أصبح العالم كله على صلة وتواصل كبيرين، فقد أصبح التمييز والعنصرية بين المجتمعات، ولم يعد داخلياً، بمعنى آخر، عولمة التمييز والعنصرية. وهذا ما بدأ به على أقرب تقدير الأمريكي ضد الهمود الحمر.

أول مايتبادر إلى ذهننا هو النظرة إلى التمييز والعنصرية بالنسبة للأفراد أو للمجتمعات.

يكتب سعادة في الفصل الثاني من نشوء الأمم:

/معتقدات السّلالة:

ليس بين جميع العقائد البشريّة عقيدة غير الدّين لعبت دوراً خطيراً في السّيطرة على عواطف الأقوام كعقيدة السّلالة فقد كانت السّلالة مقرونة بالنّسب ومرادفة للفوز والمجد والأرستقراطيّة ولذلك كانت سبباً للفخار والمباهاة والعجرفة.

وكما أنّ العرب أولعوا بالافتخار بالأنساب وهجوا بعضهم بعضاً ….كذلك كانت شعوب أخرى كثيرة تجري على مثل ذلك في أوائل عهودها. ففي القرون الوسطى كان الأشراف يعدّون أنفسهم من دم أفضل من دم العامّة المحتقرة منهم. وكان المظنون أنّ الفلاحين هم من نسل حام الذي قيل إنّ نوحاً دعا عليه بالعبوديّة. وكانت طبقات الفرسان في أقاليم مختلفة تعتقد أنّها متحدّرة من أبطال طروادة الّذين قيل إنّهم قطنوا إنقلترا وفرنسا وألمانيا بعد سقوط تلك المدينة العظيمة. وفي فرنسا، موطن الفرنك، كان هؤلاء يردّون بالتّسلسل إلى فرنسيين، أحد أبناء هكتور. ويقال في الحقيقة إن نقولا فريره (Nicholas Freret) سجن في الباستيل سنة 1714 لأنّه خطّأ هذه النّظريّة!.

وفي سنة 1749 حاول أستاذ ألمانيّ في روسيا اسمه مللر أن يثبت أنّ الرّوسيّين هم من سلالة فنّيّة ــ تترّية.

شغفت أقوام كثيرة بحبّ [السّلالة] وعدّها مصدر جميع الخلال والمناقب الحميدة، بشرط أنّ تكون نقيّة خالصة. وهكذا نشأ أفراد وجماعات تتشبّث بنقاوة سلالاتها وكلّ فرد أو جماعة تدّعي أنّ سلالتها أفضل السّلالات وأكرمها عنصراً. ولم يسلم مثل هذا الادّعاء من الغلوّ البعيد فقيل إنّ جميع السّلالات الأخرى منحطة من الأصل ولا تستطيع كلّ قوى التّمدن والتّربية أنّ ترفعها إلى مستوى السّلالة الفضلى، وإنّ الشّيء الوحيد الّذي يرفعها هو امتزاجها بهذه السّلالة، …. ومن أغرب معتقدات السّلالة ما أدّى إلى الادّعاء أنّ البشر مفطورون على الشّعور بالسّلالة ولذلك يجب رفض كلّ محاولة من شأنها إضعاف أو إبطال النزاع الطّبيعيّ./

وقد اختفت اليوم هذه النظرة التمييزية والعنصرية المباشرة لكنها عادت وظهرت بأشكال أخرى، ولها طابع سياسي واقتصادي, تحت عنوان أن المهاجرين إلى الشمال يأخذون فرص العمل لأبناء البلاد الأصلية, مثلا.

 /مدلول السّلالة:

إذا وضعت تحت البحث قبيلة من القبائل أو شعباً من الشّعوب وأخذت تعود القهقرى بأنسابه حتّى تردّها إلى أب واحد، ثمّ تردّ هذا الأب إلى عائلة متفرّعة من أبناء نوح، وتستمرّ في ذلك حتّى تبلغ إلى آدم، وقسّمت بعد ذلك الأقوام البشريّة على هذه القاعدة إلى فروع آدم وهميّ وقلت إنّ معنى السّلالة مشتقّ من هذا التقسيم فإنّك قد اختلط عليك علم السّلائل وعلم الأنساب، فلا تميّز بين الواحد والآخر. /

وهذ الخلط بين النسب والسلالة لازال موجودا حتى اليوم، وبهدف منع التشكل القومي. وينظر إلى (العروبة) كاستمرار دموي وليس اجتماعي اقتصادي فنقع في فخ العربنة وليس في العروبة العلمية.

 

/بيد أنّه على مثل هذا جرى الأوائل في العصور المتمدّنة الأولى فكان النّسب عندهم أصل الأجناس وتعليل حدوثها، لأنّ ما استندوا إليه في معرفة ذلك كان حكاية الخلق الخياليّة الّتي تنوّعت رواياتها في متعدّد الأديان. ….. وبدهيّ أنّ مثل هذا القول لا يوصلنا إلى حقيقة مدلول السّلالة أو ماهيّتها. /

هنا علينا أن نتوقف عند الموضوع الديني الذي يراهن على النسب فيمتنع التفاعل القومي عن الفعل ومن ثم التشكل باتجاه التفتيت والتفكيك، فموضوعة النسب تفكك الشعب إلى جماعات على أساس رابطة الدم، وحصر ومحاصرة الناس في مذاهبها أو دينها الذي يؤدي إلى حصر القوى النفسية للإنسان في مجالات ضيقة محددة مسبقا.

/……. وقد ظهر بالبحث والدّرس أنّ البيض ليسوا سلالة واحدة لأنّهم جماعات مختلفة الأشكال متباينة القامات وكذلك السّود والصّفر والحمر الخ. وبناء عليه لا يعتمد الأنتربولوجيّون العصريّون، في تقسيم النّوع الإنسانيّ، على ظاهرة واحدة فقط، بل على عدّة صفات فيزيائيّة أوّلها وأهمّها مساحة الجمجمة وحجمها وقد اعتمد هدن في ذلك على فوارق الشّعر ولون البشرة والقامة وشكل الرّأس، وأوصاف الوجه، والأنف، والعينين. وعلى ما يشبه ذلك جرى غريفث تايلر في تقسيمه ووصفه الجماعات البشريّة إلاّ أنّه يعتمد على الدّليل الرّأسيّ أوّلاً للتّقسيم الرّئيسيّ في حين أنّ هدن يأخذ الشّعر مقياساً أوّلياً، وجمهور علماء الأنتربولوجيا، يعتمدون الدّليل الرأسيّ فارقاً ثابتاً في السّلالات. /  

نشوء السّلائل وعددها:

عرفنا ….. أنّ الجنس البشريّ نشأ بالتطور، ولكنّ كيفيّة حدوث ذلك لا تزال غامضة. …. وقد اختلف العلماء في تعيين عدد السّلالات ولعلّ ذلك عائد إلى اعتماد بعض أدلّة أكثر من البعض الآخر. والأمانة لغرض هذا الكتاب تقضي ألاّ نتوسّع في هذا البحث أكثر ممّا يجب، ولذلك يحسن بنا للتّوفيق بين غرض الكتاب وهذا الموضوع أنّ نقسّم السّلالات البشريّة إلى قسمين: أوليّ (Primitive) ومرتق وهذه الأخيرة هي شعوب آسيا وأوربّا أصلاً. وهذه الشّعوب مقسّمة بحسب أدلّتها الرّاسية إلى ثلاث سلالات رئيسيّة هي السّلالة الغربيّة (Westic) أو سلالة البحر المتوسّط، والسّلالة الشّماليّة (Nordic) والسّلالة الشّرقيّة (Ostic) أو الألبيّة والأولى هي ذات الدّليل الرّأسيّ المستطيل 72 ــ 75، والثّانية ذات الدّليل المتوسّط 75 ــ 79، والثّالثة ذات الدّليل العريض المفلطح فوق 85. وهذه السّلالات جميعها من السّلالات البيضاء القوقاسيّة.

السّلائل والعقليّات:

إنّ السّلالات أمر فيزيائيّ واقع والأدّلة على وجوده متوفّرة. ومّما لا شكّ فيه أنّ هنالك فوارق بين السّلالات في الارتقاء والتّمدن والاستعداد لهما عند السّلائل الأوّلية، فالثابت أنّ بعض السّلالات التي ضربت في الأودية الخصبة كوادي النّيل ووادي الفرات ووادي هوانهو أو الأراضي الخصبة كسوريا أنشأت، بما كان لها من الاستعداد، مدنيّات رفيعة في حين أنّ سلالات أخرى نزلت أودية أميركا الخصبة، ولكنّها لم تستفد منها شيئاً ولم تنشئ مدنيّة تستحقّ الذّكر. وقد يكون ذلك نظراً لعدم اكتمال تطوّرها. ويستثنى من ذلك طبعاً بلاد المكسيك حيث اكتشفت بقايا مدنيّة من نوع راق.

وإذا تركنا السّلالات الابتدائيّة وعمدنا إلى السّلالات الواقعة ضمن نطاق المدنيّة الآسيويّة ــ الأوربيّة وجدنا أنّها كلّها قد برهنت عن توفّر مزايا الارتقاء فيها. ومع ذلك فيمكننا أن نجد في كلّ منها ما سمّاه لازرس (Lazaraus) وشتينطال النّفسيّة السّلاليّة وهذا قسم من الدّروس الإتنلوجيّة ــ النّفسيّة لا يقصد منه درس الظّواهر النّفسيّة في مختلف السّلالات، أي درس الفوارق العقليّة من وجهة نظر السّلالة، بل درس النّفسية السّلاليّة كما هي تمييزاً لها عن النّفسيّة الفرديّة. وبديهيّ أنّ لكلّ فرد نفسيّة أو عقليّة خاصّة مستقلّة، ولكنّ ذلك لا يعني أنّها أساس للمقابلة والتّفضيل السّلاليّين. وللسّلالات عقليات مستقلّة موجودة فعلاً، ولكن يجب ألاّ يتّخذ ذلك حجة للتّمسك بعقائد تفاضل السّلالات المتمدّنة تفاضلاً أساسيّاً جوهريّاً كما رأينا فيما تقدّم من هذا الفصل.

أجل، يجب ألاّ يستنتج من المميّزات النّفسيّة أو العقليّة أنّ هنالك مواهب عقليّة سلاليّة خاصّة مكتسبة من الشّكل السّلاليّ ومقتصرة على السّلالة، ومتوارثة فيها، لأنّ الواقع قد برهن على غير ذلك. فحيث امتزجت السّلالات قديماً، كانت المدنيّة أرقى.

فإذا أخذنا الوجهة الفرديّة ودرسنا تسلسل بعض النّوابغ وجدنا أن لا عبرة بنقاوة السّلالة. فالشّاعر الكبير إسكندر بوشكين المبدع في الأدب الرّوسيّ القوميّ كان ذا عرق زنجّي، فقد كان لبطرس الأكبر قائد زنجيّ رفعته درجة ذكائه إلى مرتبة مهندس المدفعيّة العامّ وصيّرته ذا أملاك واسعة وتزّوج سيّدة روسيّة من الأشراف، وحفيد هذا الزّنجيّ هو بوشكين أعظم شعراء روسيا. والكاتبان الفرنسيّان الشهيران دوماس الأب والابن كانا ذا عرق زنجيّ.

فمدنيّة بابل الّتي يعدّها العلماء أو جمهورهم، أولى المدنيّات الّتي أثّرت على سير التّمدّن العامّ نحو الارتقاء لم تكن عمل سلالة واحدة. أو قوم أصفياء، كما كان الظّنّ القديم، بل نتيجة احتكاك واختلاط الشمريّين بالساميّين

والّذي نرجّحه أنّ السّلالات البشريّة هي عدّة تطوّرات أو سلسلة تطورّات حدثت في ظروف وبيئات تطوريّة، أي قبل استقرار البيئة الطّبيعيّة على حالتها المعروفة الآن، وقبل أن يكون الارتقاء قد مكّن الإنسان من التّحوّط ضدّ اختلاف البيئات/

فسعادة تعامل علميا مع فكرة السلالات وألغى ما يقال عن دورها في تطور وارتقاء الشعوب، واعتمد على مقولة التفاعل مع البيئة وداخل المجتمع كأساس للتطور والارتقاء، فلا عنصرية ولا تمييز ولا استعلاء في القومية الاجتماعية. لكن القضية في الفكر والتفكير الدينيين الذي ينظر إلى الأنساب ويقسم الناس ويمنع تفاعلها على هذا الأساس، مثل مقولة شعب الله المختار ذات الأساس الديني التي تؤدي إلى الاستعلاء على الآخرين، أو مقولة خير أمة أخرجت للناس، وهذا ليس ضد الدين ولكن لإعادة قراءة الدين بذهنية وعقلية علمية منطقية وصحيحة، وعدم اجتزاء وتقسيم ما يطرحه الدين.  

    نستطيع أن نقول أن قضية التمييز والعنصرية لا يمكن إزالتها بقانون دولي أو محلي أو بتغيير نظام حكم هنا أو هناك (نقصد التمييز بكل طروحاته الثقافية والعرقية والدينية والمذهبية…والقبائلية) , ولايعني أنها تكفينا بأن تكون في رؤوس المفكرين والعلماء, التمييز والعنصرية هي موروث ثقافي قد يغيب لكنه يعود ليظهر بأشكال أخرى وخاصة اليوم ببروز مصالح عالمية وإقليمية.., التي تحاول السيطرة بالتمييز والعنصرية على مستوى كل العالم كأحد فعاليتها للسيطرة.

لهذا قدم سعادة في كتابه ما ذكرناه أعلاه ما يفند كل أصل فكري – ثقافي للتمييز والعنصرية وأسس نهضة وحزب لترسيخ ثقافة قومية اجتماعية وأمة ذات مصالح وسعى للعدالة الأنترنسيونية في العالم. لهذا فإن / الدولة شأن ثقافيّ بحت، لأنّ وظيفتها، من وجهة النّظر العصريّة، العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه في شكل نظام يعيّن الحقوق والواجبات إمّا بالعرف والعادة ــ في الأصل ــ وإمّا بالغلبة والاستبداد. فهي إذن شأن من شؤون المجتمع المركّب، لا وجود لها إلا في المجتمع/

/ ليست الدّولة في ذاتها مقياساً للثّقافة العقليّة، بل بما تنطوي عليه من حقوق. /

/ الدّولة هي الّتي تشكّل المجتمع وتعيّن مداه وتكيّف شؤون حياته وتمثّل شخصيّته. /

الدّولة بطبيعتها قوّة والقوّة تطلب دائماً السّيطرّة. ….. ولكنّنا نقول إنّ الدّولة الشّاعرة بقوّتها في عهد لا إرادة ظاهرة فيه سوى إرادتها، لم يكن لها مندوحة عن الاستبداد. فهي كانت شيئاً فوق المتّحد الاجتماعيّ وكانت تدّعي سلطة من عالم فوق هذا العالم. أمّا الإرادة العامّة الّتي هي من خصائص كلّ متّحد فكانت شيئاً إمّا باطناً وإما كامناً

القوّة السّائدة بأنّها [من صفات الإرادة العامّة الّتي عمّمها الاتحاد في القصد]

لم ينقذ الدّولة من هذه الفوضى في الغرب إلاّ الاتّجاه نحو المدينة، فنشوء المدن ونموّها والعمل الصّناعيّ والاتّجار أوجدت المحيط والجوّ الصالحين لحرّية العمل وتبادل الأفكار والمعارف. إنّ المدينة كانت دائماً أصلح مكان لنموّ الفكرة الدّيمقراطيّة. وهي المكان الوحيد الّذي يمكن أن تتمركز فيه الحياة السّياسيّة. وهكذا نجد مدن ألمانيا وإيطاليا الحرّة توجد الطّرق اللاّزمة لنشوء الحركات الاجتماعيّة والسّياسيّة الّتي أخذت تعدّ السّبيل لعصر جديد من عصور الدّولة هو عصر الدّيمقراطيّة ونشوء القوميّة.

 

المصلحة والإرادة:

/المصلحة الشّكليّة لكلّ شخص فهي خصوصيّة قبل كلّ شيء، لأنّ غرضها خصوصيّ، معيّن ومحدّد….. يمكننا أن نعدّ المصالح المتشابهة الجوهريّة من أهمّ المصالح الاجتماعيّة. فتأمين سدّ حاجة الجوع والبرد يسهل جداً في الاجتماع، وكلّ مجتمع لا يؤمّن سدّ هذه الحاجات لا يمكنه أن يثبت، ولهذا السّبب نرى الأفراد الذّين لا يجدون تأميناً لمصالحهم الحيويّة في متّحدهم يهجرونه حالما يتمكّنون من ذلك، إلى بيئة جديدة يجدون فيها غرضهم الأوّليّ. حيثما وجد متّحد كانت مصلحة حياة كلّ فرد من أفراده، مصلحة حياته العامّة، أولى مصالحه. /, وقد سبق سعادة الإعلان باعتبار أن /المصالح المتشابهة الجوهريّة من أهمّ المصالح الاجتماعيّة… حيثما وجد متّحد كانت مصلحة حياة كلّ فرد من أفراده مصلحة حياته العامّة، أولى مصالحه /

فكيف نؤمن مصلحة الفرد؟

لهذا نرى أن الهجوم المركب الذي تشنه أمريكا في العالم لتحويل الدول إلى دول فاشلة هدفه دفع / الأفراد الذّين لا يجدون تأميناً لمصالحهم الحيويّة في متّحدهم يهجرونه حالما يتمكّنون من ذلك، إلى بيئة جديدة يجدون فيها غرضهم الأوّليّ/ وهذا مانراه في الواقع العملي أن الحصار الاقتصادي واللعب والتحكم بقيمة العملة الوطنية وإثارة الفتن الداخلية و…وأخيرا دفع أهالي غزة في فلسطين للهجرة خارج فلسطين, يؤدي إلى أن يفكر الأفراد بالهجرة إلى خارج وطنهم. وهنا يؤمن لهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مكانا ليعيشوا فيه كأفراد وعائلات فقط ودون تاريخ خارج وطنهم ويتجنسوا بجنسية الوطن الذي هاجروا إليه.

فلماذا لا يدعمون المجتمع ويؤمنوا له سبل الارتقاء والتطور!!

والمصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع أو المتحد. ومن تصوّر شيئاً من ذلك فقد اختلط عليه ما هو شأن المتّحد وما هو شأن الجمعيّة أو الشّركة.

نتكلّم عن المصلحة والإرادة متابعة للاصطلاح العامّ ولأنّ المصلحة والإرادة أوفى بالتّعبير وأوضح. فالحبّ الجنسيّ، مثلاً، هو أشدّ من مصلحة، هو حاجة بيولجيّة، والجوع كذلك حاجة بيولجيّة ولكنّ سدّ الجوع مصلحة ترتقي أو تنحطّ، وإرواء الحبّ مصلحة ترتقي إلى أعلى مراتب النّفسيّة وتنخفض إلى أدنى مراتب الحيوانيّة ــ البيولجيّة، والتّوسّع في معنى المصلحة يشمل كلّ ما تنطوي عليه النّفس الإنسانيّة في علاقاتها. وبهذا المعنى نتكلّم عن المصلحة الاجتماعيّة. وإذا كانت المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدهما سلبيّ وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة، فالمصلحة هي الّتي تقرّر العلاقات جميعها والإرادة هي الّتي تحقّقها. وبديهيّ أنّه لا إرادة حيث لا مصلحة، فحين يجوع الإنسان يريد أن يأكل وحين يعطش يريد أن يشرب وحين يشتاق يريد أن يحبّ. فالمصلحة هي طلب حصول ارتياح النفس. وتحقيق ارتياح النّفس هو غرض الإرادة. وهكذا نرى أنّ المصلحة غير المنفعة أو الفائدة، وليست هي دائماً وليدة الشّعور بالحاجة ولا هي والحاجة شيئاً واحداً. إنّنا نعني بالمصلحة في هذا البحث كلّ ما يولّد أو يسبّب عملاً اجتماعيّاً وبناء على هذا التّعريف يمكننا أن نقول إنّ رابطة المتّحد هي رابطه المصلحة، فالمصلحة وراء كلّ متّحد. وكلّما نمت الحياة وازدادت ازدادت المصالح الّتي تولّد الاجتماع وقلّت المصالح المفرّقة.

كما أدّى استعمال الأمثال في الكلام على المجتمع إلى شيء كثير من الهذر، كذلك أدّى الكلام غير المنقود إلى إساءة فهم وإساءة استعمال المقصود من المصلحة والإرادة. وتجنّباً للوقوع في فوضى الاصطلاحات الّتي عمّمتها لغة الجرائد في قطرنا تعميماً فاضحاً يجعل كلّ دراسة جدّية لوضع الأشياء في مواضعها عملاً شاقاً، رأيت أن أعرض هنا للمحة من المصالح الاجتماعيّة الّتي يمكننا أن نسميها مصالح المتّحد، أو مصالح لها خصائص ربط النّاس في متّحد.

إنّ المصالح، مبدئياً، صنفان يجب ألاّ يصير بينهما خلط وتداخل كما يحدث عادة في تعميم المصطلحات الفنيّة. فهنالك المصالح المتشابهة أو الشّكليّة التي هي لكلّ فرد مثلما هي لكلّ فرد آخر، كتحصيل المعاش، أو ربح الصّيت، أو جمع الثّروة، أو أيّ مصلحة أخرى شخصيّة خاصّة. فهذه المصالح هي شكليّة أو متشابهة، ولكنّها لا تقتضي اتّحاد من يريدونها أو إيجاد علاقة اجتماعيّة ثابتة فيما بينهم. وهنالك المصلحة العامّة أو المشتركة الّتي يجمع عدد من النّاس على الاشتراك في تحقيقها لأنّها تشمل الكلّ، كمصلحة خير القرية أو المدينة أو القطر. ومهما كان الباعث على العمل لهذه المصلحة، فالمصلحة نفسها تظلّ مصلحة الجميع لأنّها تشملهم، أي إنّه قد يكون حبّ المجد هو الموحي أو الدافع لبعض الأشخاص على العمل للمصلحة العامّة، فتكون المصلحة في هذا المثل مركّبة بالنّسبة إلى الشّخص، ولكنّها بالنّسبة إلى العموم عامّة بسيطة، وهنا نضطرّ إلى التّمييز بين المصلحة العامّة الأوّليّة بالنّسبة إلى الكلّ وبين المصلحة العامّة الثّنويّة بالنّسبة إلى الشّخص الّذي يتّخذ من المصلحة العامّة وسيلة لمصلحة شكليّة شخصيّة هي المصلحة الأوليّة له. فالأساس الاجتماعيّ للمصلحتين واحد هو خير المجتمع وهو وحده يوجد علاقة المصلحة الاجتماعيّة الثّابتة. ومهما يكن من الأمر في هذه المسألة فمصلحة المتّحد تظلّ قائمة لأنّها دائمة وهي تختلف عن مصلحة قريبة منها هي مصلحة الشّركة، فهذه المصلحة تقوم على أساس المصلحة الشّخصيّة البحت، وكلّ اعتباراتها العامّة مقرّرة بالمصلحة الشّكليّة لكلّ شخص فهي خصوصيّة قبل كلّ شيء، لأنّ غرضها خصوصيّ، معيّن ومحدّد. فإذا رجعنا إلى مثل الشّركة السّوريّة ــ الإنكليزيّة المتاجرة بصنف معيّن وجدنا أنّه متى وجدت شركة من هذا النّوع نفسها تجاه حالة لا تسمح بالإثراء الّذي هو غرضها، لم يبق للشّركاء أيّة مصلحة أخرى يجب اعتبارها، والشّركة تزول بزوال غرضها. الشّركة وسيلة مصالح خصوصيّة متماثلة. أمّا المتّحد فهو مجمع الحياة الاجتماعيّة. هو مقرّ الأحياء المتّحدين في الحياة بكلّ مصالحها. الشّركة أو الجمعيّة هي شيء جزئيّ أمّا المتّحد فشيء شامل كامل فيه تقوم جمعيّات من كلّ نوع وتزول وهو مرجعها. هو أكبر وأوسع من أيّة جمعيّة ومصالحة عموميّة وبعضها ثابت لا يزول إلاّ بزوال الحياة. باندثار المتّحد كما بنكبة من النّكبات.

يجب ألاّ يفهم من هذا الإيضاح أيّ تناقض بين ما نقوله هنا وبين ما قلناه في الفصل الخامس من أنّ رابطة الاجتماع الأساسيّة هي الرّابطة الاقتصاديّة. فيجب أن لا نتصوّر الرّابطة الاقتصاديّة عبارة عن عمليّة اقتصاديّة أو غرض من أغراض الرّبح الاقتصاديّ، بل مصلحة تأمين حياة الجماعة وارتقائها. ولذلك يمكننا أن نعدّ المصالح المتشابهة الجوهريّة من أهمّ المصالح الاجتماعيّة. فتأمين سدّ حاجة الجوع والبرد يسهل جداً في الاجتماع، وكلّ مجتمع لا يؤمّن سدّ هذه الحاجات لا يمكنه أن يثبت، ولهذا السّبب نرى الأفراد الذّين لا يجدون تأميناً لمصالحهم الحيويّة في متّحدهم يهجرونه حالما يتمكّنون من ذلك، إلى بيئة جديدة يجدون فيها غرضهم الأوّليّ. حيثما وجد متّحد كانت مصلحة حياة كلّ فرد من أفراده، مصلحة حياته العامّة، أولى مصالحه. إنّ مصالح الحياة هي مصالح كلّ متّحد، ولكن ليست مصالح أيّ متّحد مصالح كلّ متّحد لأنّ مصالح المتّحد ليست بيولجيّة فقط، بل هي مصالح نفسيّة (عقليّة) ومصالح حيويّة نوعيّة أيضاً وقديماً ميّز أرسطو بين [الحياة] و[الحياة الجيّدة] (217)، فإذا كانت مصالح الحياة الجيّدة كذلك، فإنّ مصالح الحياة الجيّدة هي الّتي تتنوّع وتتّحد بتنوّع المتّحدات وتحدّدها، مولّدة أنواعاً جديدة من الاشتراك في الحياة. ولكنّ جميع هذه المصالح لا تقوم إلاّ على أساس المصلحة الاقتصاديّة، وقد رأينا في درسنا [المجتمع وتطوّره] كيف ارتقى المجتمع وفاقاً لنجاح المصلحة الاقتصاديّة.

إذا كانت المصلحة الاقتصاديّة أساسيّة في كلّ مجتمع فهو لأنّها تخدم كلّ مصلحة أخرى حيويّة أو نفسيّة. والمتّحدات جميعها تتماثل في أنّ لها مصالح حيويّة، ولكنّها تتفاوت في هذه المصالح وفي مصالح الحياة الجيّدة بالنّسبة إلى المرتبة الثّقافيّة والدّرجة الاقتصاديّة. ففي القبائل الّتي لا تزال على درجة الرّابطة الدّمويّة نجد المصالح القائمة على الحاجات الحيويّة العضويّة أكثرها من نوع المصالح الجنسيّة وهي المصالح الّتي تتعلّق بالزّواج والعائلة والنّسب، أمّا مصالح الحاجات الحيويّة اللاّجنسيّة، أي مصالح الطّعام والشّراب واللّهو وغيرها فهي بسيطة جداً من رعاية وجمع نبات وثمر. وأمّا مصالح الحاجات النّفسيّة (العقليّة) فقليلة وضعيفة جداً وهي تنحصر في بعض القصائد أو الأغاني وكلّها تدور على محور العلاقات الجنسيّة والحرب أو الغزو وفي الدّين الّذي يعني التّسليم لإرادة عليا أو لقوّة خارقة، للّه القدير العلاّم، خالق السموات والأرض. وجميع هذه المصالح عامّة في المجتمع الفطريّ ومتداخلة، فهي مركّب.

الحقيقة أنّ المصالح لا تتعدّد وتتعيّن إلاّ في المجتمعات الرّاقية وفي هذه المجتمعات تتحدّد المصالح وتولّد جمعيّات معيّنة. والمصالح وجمعيّاتها تتميّز وتتنوّع بحيث تجعل وحدتها أتمّ وأوضح.

في المتّحد الرّاقي نجد المصالح جميعها تتنوّع وتتعين بتنوّعها وتؤدّي إلى إنشاء جمعيات من كلّ نوع منها، تجمع كلّ جمعيّة الأفراد العاملين لمصلحتها. وهذه المصالح على ثلاثة أنواع: النّوع الأساسيّ وهو يشمل المصالح الحيويّة والمصالح النّفسيّة (العقليّة). والمصالح الحيويّة هي: أوّلاً: الجنسيّة، وجمعيّاتها العائلة في أشكالها. ثانياً: اللاّجنسيّة، وهي ما تعلّق بالغذاء واللّباس والمدرأ وتؤدّي إلى إنشاء الجمعيّات الزّراعيّة والصّناعيّة والتّجاريّة، وجمعيّات الصّحة، والطّبّ، والجراحة. أوّلاً: المنطقيّة من علميّة وفلسفيّة ودينيّة وتهذيبيّة، وتتّحد في الجمعيّات العلميّة والفلسفيّة والدّينيّة، (الكنيسة) والتّربويّة. وفي المدارس والمعاهد التّهذيبيّة. ثانياً: الفنّيّة. وتتناول جمعيّات الرّسم والدّهان، والموسيقى، والتّمثيل، والأدب. ثالثاً: المصالح الخصوصيّة، مصالح السّلطة والجاه. والعاملون لها ينشئون الأندية الخاصّة والجمعيّات العسكريّة والقوميّة. ثمّ تأتي المصالح الاقتصاديّة البحت (تمييزاً لها عن المصالح الاقتصاديّة الحيويّة الّتي تبعث الجمعيّات الحيويّة في نوعيها الجنسيّ واللاّجنسيّ) وهذه تتناول الجمعيّات الماليّة والتّجاريّة الكبرى والمصارف والشّركات المتّحدة [كالتّرسط] وغيرها، والاتّحادات التّجاريّة وجمعيّات المستخدمين وجمعيّات المستخدمين الخ. وتأتي في أرقى المراتب المصالح السياسيّة وأكبر جمعيّاتها، الدّولة، تشمل جميع مصالح المتّحد الأتمّ الّذي هو الأمّة ويتفرّع من الدّولة جمعيات أخرى أصغر منها تختصّ بالمتّحدات الّتي هي أصغر من الأمّة هي الحكومات المحليّة للمناطق والمدن. وبعد الدّولة نجد الأحزاب السّياسيّة الّتي هي جمعيات تختصّ بمصالح الفئات. ثمّ تأتي الجمعيّات السّياسيّة للقيام على مصالح معيّنة. ثمّ الجمعيّات القانونيّة والقضائيّة وغيرها. وهنالك أيضاً المصالح الاجتماعيّة العموميّة وهي تشكّل جمعيّات التّعارف والصّحبة وأندية السّمر والتّسلية البريئة أو المفيدة.

هذه صورة غير تامّة من مصالح أيّ متّحد راق وهي على ما بها من نقص تمثّل جلياً بعد المرحلة بين مصالح الجماعات الفطريّة والمجتمعات المتمدّنة الرّاقية. وكلّما ارتقى المتّحد في ثقافتيه الماديّة والعقليّة ازدادت المصالح المعيّنة الّتي من شأنها ترقية الحياة الجيّدة وتجميلها.

    في سياق البدء لفهمنا الإنسان من القومية الاجتماعية، لابد لنا من معرفة المرحلة الاجتماعية التي وصلت إليها البشرية في تطورها وارتقائها. ومن الطبيعي أن تكون هذه المرحلة هي غايتنا، بغض النظر عن أية ضغوط وإعاقات وطروحات عالمية يحاولون فرضها علينا مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفق سياسة الأقوى أو توازن القوى.

يكتب سعادة في مقدمة كتابه نشوء الأمم:

/إنّ الوجدان القوميّ هو أعظم ظاهرة اجتماعيّة في عصرنا، وهي الظّاهرة الّتي يصطبغ بها هذا العصر على هذه الدّرجة العالية من التّمدن. ……أما ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التّطوّر البشريّ شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدّها تعقّداً/.

فعلينا أن نبحث في كيفية وصولنا إلى هذه المرحلة كذلك في ما استجد في العالم من تطورات، مثل حقوق الإنسان. فلدينا هنا قضيتان، قضية التشكل القومي وقضية حقوق الإنسان.

هل هما قضيتان منفصلتان؟!!، بالطبع لا، هما متمفصلتان في قضية واحدة، قومية اجتماعية.

يقول سعادة في محاضرته الثامنة عند شرحه للمبدأ الإصلاحي الرابع، الاقتصادي:

/الحالة في بلادنا لا تزال في بادئ الأمر بين الفرد والمجتمع بين الرسمال الفردي والمصير القومي. /

فعلينا اكتشاف الطريق الواصل من هذ الحالة إلى الحالة القومية الاجتماعية التي نريد، تطورا وارتقاء. إذ كيف يمكن لهذا الفرد المطالبة والحصول على حقوقه قبل الوصول إلى الحالة الاجتماعية المجتمعية التي تستطيع تأمين كل حقوق هذا الإنسان. فالقضيتان ليستا منفصلتين، قضية التشكل القومي وقضية حقوق الإنسان.

    تعرضت منطقتنا لمشاريع تقسيم عديدة وقاومها الشعب، فمنذ سايكس-بيكو واغتصاب فلسطين ومحاولات تقسيم سورية إلى خمس دول وما يحصل اليوم من الإصرار العنيد على تقسيم المنطقة وتحريض نزعات انفصالية ومذهبية، ورغم كل ما نحن فيه فإن الشعوب قاومت ذلك حتى وصلت أخيرا إلى عملية فيضان الأقصى. وكانت ذروة الهجوم المتسلسل علينا هي عملية التهجير بالتدمير الشامل في غزة وإلغاء كل مقومات العيش

لماذا؟!!، والإجابة المباشرة هي، لمنع التشكل القومي وحجب حقوق الإنسان عنه. وحدة هذين المانعين يدفعان الإنسان والعقول ورأس المال والصناعة إلى الخروج خارج البلاد باستمرار.

إن منع أو عرقلة التشكل القومي يفقدنا السيطرة على مواردنا الباطنية وإلى عدم قدرتنا على امتلاك الزمن، زمننا ومن ثم الارتماء في حضن الزمن الغربي، التبعية بكل أنواعها. يتم دعم التعليم وتطوره لكن يرافقه التراجع الكبير في فرص العمل وإمكانية إثبات الإنسان لحضوره وفقدان الإنسان لحقوقه الأولية مما يدفع هذا الإنسان، الذي تأسس في مجتمعه، إلى الهجرة.

وبوجود التخلف العام يبقى الهم العام متوقفاً عند مستوى تحقيق العيش في حده الأدنى.

ما الفرد الذي نريد أن نصل إليه في سياق التشكل القومي؟

يكتب سعادة في مقدمته لنشوء الأمم:

/ رأت المدرسة العلميّة أنّ الإنسان ليس إلاّ كائناً واحداً من الكائنات الحيّة، وأنّه خاضع للنّظام الجاري عليها كلّها. فحيث الحياة في كلّ مظاهرها غير ممكنة لا يستطيع الإنسان أنّ يعيش. ولمّا كان الإنسان مظهراً من مظاهر الحياة العامّة فلا يمكن البحث في كيفيّة نشوئه على حدة ولذلك لا بدّ من جعل السّؤال [من أين جاء الإنسان؟ ضمن نطاق سؤال أوسع هو: منّ أين جاءت الحياة؟ /

بينما كان الصراع الفكري في أوربا حول أسبقية المادة أم الوعي في الوجود. هنا، وبتصحيح السؤال الفلسفي الكبير أخرج سعادة الإنسان من ضيق أفق الغرب في نظرته للإنسان، وكأن الإنسان كائن مركزي في الكون! إلى كونيته، إلى سؤال فلسفي يتضمن حقيقة الوجود.

كلّ جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القوميّ، الشّعور بشخصيّة الجماعة، لا بدّ لإفرادها من:

 فهم الواقع الاجتماعيّ وظروفه وطبيعة العلاقات النّاتجة عنه. وهي هذه العلاقات الّتي تعيّن مقدار حيويّة الجماعة ومؤهّلاتها للبقاء والارتقاء، فبقاؤها غامضة يوجد صعوبات كثيرة تؤدّي إلى:

إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع

فيعرقل بعضه بعضاً ويضيّع جزءاً غير يسير من فاعليّة وحدته الحيويّة ويضعف فيه التّنّبه لمصالحه وما يحيط بها من أخطار من الخارج. /

وهذا ما يعمل عليه أعدائنا دائماً، /إساءة الفهم وتقوية عوامل التّصادم في المجتمع/

كما كتب سعادة في مقالته /نظرة سعاده إلى الإنسان النظام الجديد، بيروت، المجلد 1، العدد 2، 1/4/1948/

/ إنّ إنسان سعاده هو غير إنسان السفسطائيين ومعرفة إنسان سعاده هي غير معرفة إنسان السفسطائيين. إنّ الزعيم ينظر إلى الإنسان من مستوى فكري جديد ويرفع بنظره الإنسان من حدود فرديته المنحصرة في إمكانيتها إلى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون.…..إنّ نظرة سعاده إلى الإنسان هي فتح فلسفي جديد ومركز انطلاق نحو سمو إنساني جديد. إنّ نظرة سعاده ترفع موضوع الإنسان من سفسطة الجزئيات إلى فلسفة الكليات. إنها فهم جديد، شامل، لحقيقة الإنسان ومعرفة الإنسان والقيم الإنسانية. /, بينما تقوم السياسات الغربية والأمريكية على حصر الإنسان في حدود إمكانيته وفرديته. فضرورات الاستهلاك في الغرب وأمريكا تتطلب بقاء النظرة الفردية ووضع الأفراد في مستويات تراتبية متعددة من الإمكانيات.

    في الغرب الإنسان كائن اقتصادي بل ومالي، يبحث عن طرق تأمين حياته وحسب، أما سعادة فقد أراد إطلاق اجتماعية الإنسان المنفتحة على الكون، إعطاء الإنسان كونيته. وبهذا فقد تجاوزت القومية الاجتماعية الإعلان كيفيا بشكل كبير. وعلينا أن ندرك مسؤولياتنا الكبيرة الملقاة على كاهلنا وعلى عاتق المؤسسات الحزبية.

إن إطلاق اجتماعية الإنسان المنفتحة على الكون تقتضي بالضرورة معرفة الإنسان لإحداثياته الكونية وتقدم معرفته بها حسب تطور نظرته إلى الكون. وحتى موقعه بالنسبة إلى الكائنات الحية الأخرى. وهذا من حقه في الوعي وليس من حق العلماء والمفكرين فقط.

يكتب سعادة في كتاب نشوء الأمم:

/النّظرة الفرديّة للاجتماع الّتي يجدها الدّارس في [التّعاقد الاجتماعيّ] لروسو هي مستمدّة من حالة المجتمع بعد ظهور الفرد عاملاً فيه، وقبل ذلك لا اختيار للفرد في الاجتماع والمجموع. فوجوده الأنانيّ في تلك الحالة الأوّلية لا يظهر إلاّ في التّمييز بينه وبين غيره في بعض العلاقات النّفسيّة (الذّهنيّة). إن هو إلاّ نقطة في موجة صغيرة لا يمكنك تعيينها، كيفيّة وكميّة، إلا إذا فصلتها عن جسمها. / وهذا ما نلاحظه ونراه في الشباب المهاجرين عندما يصبحون في مجتمع آخر متقدم (موجة أخرى)، يتميزون، لأن المجتمع الجديد متحرر ومنظم أما مجتمعنا فلا زال في طور التحرر والتنظيم, أي أن الموجة التي قصدها سعادة لم تتشكل بعد. لهذا طرح سعادة تعاقداً تحررياً تغير ما هو عليه تعاقد روسو، يقوم على الاستقلال والحرية باتجاه غاية أخيرة /الحياة وخيرها وحسنها/ وللفرد الاختيار في أن يقبل هذا التعاقد أو يرفضه. ونعود لنؤكد أن قضية حقوق الإنسان لا تقوم بمعزل عن التشكل القومي ليحقق له الحياة الجيدة التي طلبها إعلان حقوق الإنسان. خاصة إذا عرفنا أنه لا يوجد حتى الآن عقد اجتماعي في مجتمعات الجنوب نتيجة استعمارها وتخليفها ونهب ثرواتها مع فائضها الاقتصادي المتحقق، لكن يوجد شكل الدولة الغربي الذي فرض على العالم، فهل يتناسب معنا شكل الدولة الذي فرضه علينا الاستعمار بعد مرحلة ما سمي مرحلة استقلال الكيانات، من أجل التحرر والحرية؟

    إن ظهور الفرد ككيان وإمكانية فاعلة عاملة بعد التطور الكبير بعد روسو في التربية والتعليم والصحة و.., دون تشكل الموجة التي ذكرها سعادة أعلاه, أدى إلى فرد يبحث عن وجوده, كيفيا وكميا, وكينونته خارج مجتمعه, فرد له من الاستقلال النفسي في سياق الثقافات الغربية والعالم لأنه لم يستقل نفسيا على أساس الثقافة القومية وعلى أساس تاريخه, بالعكس يطرحون مقولات مثل, نهاية التاريخ, نهاية الجغرافيا, صراع الحضارات…. . لكل هذا فإن التشكل القومي، أساسي في سياق قضية حقوق الإنسان.

يقول سعادة في محاضرته السادسة:

  /إن الاستقلال الروحي شيء واضح جداً ومبدأ فاعل له فاعلية عظيمة في حركة الحزب السوري القومي الاجتماعي.

 هو يوجه الفكر والشعور إلى الحقيقة الداخلية.

 إلى حقيقة هذه الذات الفاعلة التي هي المجتمع السوري بكل طبيعته بكل مواهبه بكل مثله وأمانيه. وقد قلت في حديث سابق وفي الاجتماع الأخير أيضاً إن النفسية السورية، إن هذه الحركة التي تميز وتعبر عن هذه النفسية هي الناحية الذاتية من هذا الوجود، الناحية الفاعلة فيما هو وضع وفيما هو كون.

نحن نكون الناحية السلبية، والأرض، وهذا الكون الذي أمامها هو الناحية الإيجابية لنا.

 ومن هذا يقتضي أن يكون لنا استقلال روحي، وفي خطاب قديم عبرت، أنه استقلال فكري أيضاً.

إنه استقلال روحي فكري، أي إنه استقلال نفسي بكل معنى الكلمة.

 ولست أدري كيف أن وجود مبدأ مثل هذا المبدأ، المبين في تعاليم الحركة السورية القومية الاجتماعية، لم يكن كافياً للمفكرين والأدباء في هذه البلاد ليدركوا أن حركة تقول بمبدأ من هذا النوع ليست بالحركة التي يمكن أن تخضع أو تسخر لأغراض غريبة عن ذاتيتها أو مقاصدها في الحياة والفن…..لا يعني هذا أيضاً أنه لا يمكن لنفسيتنا أن تتفاعل مع النفسيات الأخرى. لا يعني ذلك مطلقاً، بل إنه يفسح المجال لهذا التفاعل. /

ونرى هنا أهمية استقلالنا النفسي في هذا العالم الذي تموج فيه ثقافات عدة ونموج معها.

أي مجتمع يريد سعادة؟ 

يريد المجتمع الذي له درجة من الاجتماعية والمستوى الاجتماعي المناسب لنا وللتطور والارتقاء:

يكتب في الفصل الرابع من نشوء الأمم عن الاجتماعية:

/اجتماعيّة هذه الجماعات فهي لا تبلغ إلى هذه الدّرجة العالية الممثّلة، في المجتمعات المتمدّنة، بالجمعيّات وسائر المؤسّسات الّتي تمثّل بدورها الأعمال الذّاتيّة والأفكار الحرّة الصّادرة عن الأفراد الّذين يؤلّفون المجموع المتمدّن، وتمثّل، فوق ذلك، النّفسيّة الفاعلة في المجموع ونوع روحيّته الاجتماعيّة . وبالإيجاز نقول إنّ أغراض الجماعات الأوّليّة المتوحّشة والجماعات البربريّة المنحطّة أو المتأخّرة محدودة جداً بالنّسبة إلى أسباب سدّ الحاجة المعاشيّة مباشرة أو مداورة إلى مدى محدود. وفي حين أنّ أفعال مؤلّفي هذه الجماعات الاجتماعيّة محدودة نرى أنّها لا تتناول مطلقاً الأفعال السياسيّة أو، على الأقلّ، الأفعال السياسيّة النّظاميّة. وهذا، من الوجهة العامّة وبالاختصار، هو المستوى الاجتماعيّ الّذي وقفت عنده الجماعات الأوّليّة والجماعات المنحطّة أو المتبدّية أو المتأخّرة من السّلالات الرّاقية العمرانيّة. /

سعادة لم يبخس المجتمع المتمدن حقه ودوره في صناعة التاريخ، بل اعتبره مرحلة من تاريخ العالم لابد من النظر إليها.

وهنا لابد لنا من أن نميز نحن بين الشعب والمجتمع؟!!

يقول سعادة في محاضرته الثالثة:

/ويتراءى لي أن أمتنا كانت، منذ عصور قديمة جداً، أمام عدة مسائل تتطلب أجوبة صريحة هي:

هل نحن أمة حية؟

هل نحن مجتمع له هدف في الحياة؟

هل نحن قوم لهم مثل عليا؟

هل نحن أمة لها إرادة واحدة؟

هل نحن جماعة تعرف أهمية الأعمال النظامية؟”

وهذه الأسئلة هي أيضاً بسيطة وواضحة جداً، ولكنها أسئلة خطيرة وأهميتها واضحة للمدقق البصير المتبصر في القيم الإنسانية وفي طرق التفكير الفلسفي وأهدافه. /

وفي سياق الأسئلة التي تتطلبها الأمة، لا يتساءل هنا سعادة فيما هو الشعب!!

    إن إلغاء مصطلح الأمة من خطابنا الفكري والثقافي والسياسي، وكذلك مصطلح المجتمع، أدى إلى تعميم مصطلح الشعب كبديل، حيث أن تقسيمات سايكس بيكو قصرت دائرة التفاعل إلى حدود الدولة – الأمة، الأمة كحالة قسرية في إطار جغرافية الدولة, حدودها السياسية, أضيق من جغرافية الحقيقة التاريخية للأمة. وقد أدى هذا التقسيم الجغرافي وضبطه بالقوانين الدولية والمنظمات الدولية والإقليمية وتوازن القوى العالمية الجديدة ذات المصلحة ومالها من التفوق العلمي والتقني، إلى فقدان الإمكانية للحصول على موقع جيوسياسي في هذا العالم بفقدان القدرة على بناء المثل العليا الواحدة والإرادة الواحدة والهدف الواحد العام، والمصلحة الواحدة. فالشعب هو مجموع أفراده:

   / الشعب ليس إلا مجموع أفراده فكما تكون حقيقتهم تكون حقيقته. المجلة، بيروت المجلد 8، العدد 2، 1/4/1933

إن المجتمع غير المجموع. إن المجتمع أعمق بكثير من المجموع العددي وأسمى بكثير منه. إنه أعلى، بما يُدرك قياسه، عن نظرة تحسبه مجرد عدد من الناس. الأفراد، في المجتمع، يأتون ويذهبون، يكملون آجالهم ويتساقطون تساقط أوراق الخريف. ولكن الحق لا يذهب معهم، بل يبقى، لأن الحق إنساني، والإنساني اجتماعي. فهو يبقى بالمجتمع وفيه. /

(النشرة الرسمية للحركة القومية الاجتماعية – بيروت المجلد 1- العدد 2-1-12 -1947الاعمال الكاملة ج 7-)

إن إلغاء مقولة المجتمع لصالح مقولة الشعب يلغي الحق، لأن الحق الإنساني يبقى بالمجتمع وفيه وليس بالشعب الذي هو مجموع أفراده. وبالتالي كل التقسيمات الجغرافية والأثنية والعشائرية هي لإلغاء الحق العام، لصالح من؟؟!! فنحن لسنا مجرد مجموع من البشر على أرض ما، لسنا قطيعاً، بل مجتمعاً له غايات ومثل عليا على أرضنا الواحدة.

    لا شك أن الغرب قدم للبشرية ما قدمه، لكن علينا أن نفهم كل العناوين التي حاربنا بها ومن ثم إعادة صياغتها في سياق تشكلنا القومي، مثل:

حقوق الإنسان، حرية الرأي، حرية التعبير، المجتمع المدني………

ما هو الإنسان الذي نريد أن نصل إليه؟

هو الإنسان – المجتمع

يكتب سعادة في مقدمة نشوء الأمم:

/كان ظهور شخصيّة الفرد حادثاً عظيماً في ارتقاء النّفسية البشريّة وتطوّر الاجتماع الإنسانيّ. /

نلاحظ تلازم الارتقاء والتطور وتأثيرهما في شخصية الفرد وكيفية حضورها.

وبناء على ما ذكر أعلاه نتساءل:

ماذا لو حصل ارتقاء النفسية البشرية دون تطور الاجتماع الإنساني؟

وماذا لو حصل تطور الاجتماع الإنساني دون ارتقاء النفسية البشرية؟

هذا الشرخ بين تطور الاجتماع وارتقاء النفسية هو ما يتدخل فيه الغرب دائماً.

إشكاليتان كبيرتان!!

لقد أكد سعادة على الفرد، لكنه رفض فرديته والنظرة الفردية التي يريد الغرب فرضها علينا، رغم أنه يكتب في الفصل الثاني من كتاب نشوء الأمم:

 ….  وبديهيّ أنّ لكلّ فرد نفسيّة أو عقليّة خاصّة مستقلّة….

ولا نرى هنا أي انتقاص من الفرد، بل هو يرى ويريد من كل فرد في المجتمع، ولكل فرد.

كذلك يكتب:

/ أما ظهور شخصيّة الجماعة فأعظم حوادث التّطوّر البشريّ شأناً وأبعدها نتيجة وأكثرها دقة ولطافة وأشدّها تعقّداً، إذ إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي ــ اقتصاديّ ــ نفسانيّ يتطلّب من الفرد: 

 أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته.

وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه

وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ

وأن يربط مصالحه بمصالح قومه  

وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه. /

وعلينا أن نرى العقل والذهن لدى الإنسان.

    نلاحظ استخدام سعادة للمفردات المتقاربة المعنى مثل: يضيف، يجمع، يزيد. وحيث أن سعادة كان متمكناً من اللغة العربية فإننا يجب علينا أن نفهم من الفروقات اللغوية بين الإضافة والزيادة والجمع أمراً ما.

أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته.

في المعاجم العربية تأخذ كلمة الإضافة معنى إنزال الرجل ضيفاً، مزاولة عمل آخر غير العمل الرسمي، ربط اسمين ببعضهما للتعريف أو للتخصيص، نسبة بين شيئين يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر مثل الأب والابن والأخوة و.. .

   نفهم هنا، أن الأولوية هي للشعور بالشخصية ثم يضاف إليها الشعور بشخصية الجماعة.

فللشعور الفردي قطبين، الشخصي والجماعي. الشعور بشخصية الجماعة تحل ضيفة على الشعور بالشخصية. لا تماهي بينهما، عنصرين متمايزين منفصلين في وحدة شعور الفرد، وربما يتصارعان داخل الفرد. ويحصل الشعور بشخصية الجماعة إما فكريا أو عملياً، والشعور الناتج عن الفكر من الغلط النظر إليه كتعميم على كل أفراد المجتمع إلا للنخبة الفكرية والمثقفة، لكن الأحداث والحياة اليومية وكيفية تناولها هي التي تؤثر على كل الأفراد فينضاف الشعور بشخصية الجماعة إلى الشعور بشخصية الفرد.

والإضافة هنا هي عملية تفاعلية بين عنصرين متمايزين منفصلين في نفسية الفرد.

لكن ماذا يحصل عند عدم قدرة الفرد على جمع الشعور بشخصية الجماعة إلى الشعور بشخصيته.

أو إذا كان لا يشعر بشخصيته

أو عدم الشعور بشخصية الجماعة.؟

لا شك أنه خلل هائل على طريق تحقيق الغاية.

أن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه

والأساس هو إحساس الفرد بحاجاته، ليزيد عليها إحساسه بحاجات مجتمعه.

مثل يزداد طوله، يزداد وزنه، فهي عملية تنمو باستمرار أو تتوقف عن النمو. النمو في طرفين فرد – مجتمع، نمو الحاجات الفردية من الحاجي إلى الضروري إلى الكمالي في عملية اجتماعية ترتبط بحالة كلية مجتمعية.

لكن كيف تكون الحالة عند الإحساس بالحاجات الفردية دون الإحساس بحاجات المجتمع؟

أن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ

من المهم أن يفهم الفرد نفسه، ليجمع بعدها إليه فهمه نفسية متحده الاجتماعي.

جمع عنصرين غير متمايزين في نفسية الفرد.

مثل جمع تفاحتين، لكن يبقى لكل تفاحة فرادتها.

لكن ما هو الحاصل عند عدم الجمع بين فهمه لنفسه وفهمه لنفسية متحده الاجتماعي.؟

وهنا نرى كل ما يتوجب على النظرة لحقوق الإنسان أن تقيمه وتساعد الإنسان على الفهم والشعور والإحساس بالحاجات وفهمه لنفسه وقدرته على تحديد مصالحه وكيف يرى الآخر ومفهومه للخير و…… والعقل والذهن والفكر و…..

ونرى أن هذا هو الإنسان – المجتمع الذي قصده سعادة. ولم يشأ سعادة تجريد الإنسان وحرمانه من تفاصيله، مكوناته التاريخية من أجل يختزل كل حياته في البحث عن المنافع فقط. بل أراد له بناء شخصيته والإحساس بحاجاته وفهمه لنفسه ومعرفة مصالحه ومد جسور الخير مع الآخرين…. وحرمانه من كونيته يكون بحرمانه من معرفة شخصية أمته وإحساسه بحاجات مجتمعه وفهم نفسية متحده الاجتماعي ومصالح قومه ثم تحديد الآخر له بعلاقات ضيقة. 

    لنفترض أن الفرد شعر بشخصيته دون شعوره بشخصية الأمة أو أحس بحاجاته دون إحساسه بحاجات مجتمعه، أو فهم نفسه دون فهمه لنفسية متحده الاجتماعي ولم يعرف علاقة مصالحه بمصالح قومه وكان الآخر بالنسبة له مجرد علاقة اقتصادية بحتة، ما هو الفرد الذي سنحصل عليه؟ هذا هو الفرد الذي يريده الغرب، بشكل عام، مجرداً من كل ارتباطاته المجتمعية. أما في سياق التحرر القومي فلا يمكن أن يكون هذا الفرد هو المقصود، بل الإنسان – المجتمع.

إن سعادة قدم لنا الإنسان في كليته وليس في حدود معينة ضيقة وفق معايير الاستهلاك، وعلى حقوق الإنسان أن تشمل الحقوق لكلية الإنسان وليست لمكونات محدودة.

ونرى أن كل هذا متعلق في المجتمع بالاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم والقانون والعدالة والحرية والنظام والواجب والقوة و…… والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي…وغيره.

إن قضية حقوق الإنسان ليست قضية حقوقية بحتة، هي قضية تعادل كل وجود الإنسان.

إن ظهور شخصية الفرد كنتيجة للارتقاء النّفسية البشريّة ولتطوّر الاجتماع الإنسانيّ، يدفعنا إلى التفكير بأن نطمح وننظر إلى:

الإعلان العالمي لتطور المجتمعات

الإعلان العالمي لارتقاء النفسية البشرية

يكتب سعادة في الفصل الرابع من نشوء الأمم:

/إنّ الفائدة المعيّنة الأساسيّة الّتي يمكن استخراجها من درسنا حياة الحيوان الاجتماعيّة وغير الاجتماعيّة هي في علاقة هذا بالمحيط وفي أنّ أفعاله ناتجة عن تفاعل ثلاثة أضلاع هي: الجسم ــ النّفس (الدّماغ) ــ المحيط (أو سمّها غير هذه الأسماء إذا شئت أو استسهلت ذلك لنوع البحث أو العلم الّذي تريده). فإذا كانت حياة الحيوانات المتجمهرة تجري ضمن هذا المثّلث، فحياة الإنسان أيضاً تجري ضمنه. ومن تطبيق هذا الأساس الواحد على كلا الإنسان والحيوان نتوصلّ بالاختبار إلى تعيين الفوارق الجوهريّة بين الحياتين. وهي الفوارق في كيفيّة فهم المحيط من الوجهة النّفسيّة. ففهم المحيط من هذه الوجهة، فيما يختصّ بالظّواهر النّفسيّة كالوعي والإحساس والإرادة والفكر والتّصوّر وما إليها، ليس ممّا يمكن استكشافه في الحيوان. وهي هذه الظّواهر الّتي لها كلّ الأهميّة في حياة الإنسان الاجتماعيّة ــ في فهم الإنسان محيطه. /

فللإنسان إذاً: حق الفهم

أضلاع مهمة تجعلنا نرى الإنسان بدائرة أوسع، وأينما هاجر الإنسان سيكون له هذه الأضلاع، ولكن المحيط هو الذي يتغير، وفي بعض المجتمعات يختفي المجتمع ويأخذ مكانه التلفاز والإعلام، كالمجتمع الأمريكي، أو يتناهى تفاعل الإنسان مع محيطه إلى درجة ضعيفة جدا وخاصة عندما يصبح مضطرا للعمل كل ساعات النهار ولا يتبقى له من الوقت ما يسمح له الاستماع إلى التلفاز.

    من حقوق الإنسان المحافظة على هذا التركيب، جسم – نفس – محيط متفاعلة معا باتجاه واحد، ولكن يتم التدخل خارجيا لفصل هذه الأضلاع أو منع تفاعلها، أو بسبب الجهل والتخلف، ضد تطور الاجتماع وارتقاء النفسية.

يتضمن المحيط, المحيط الاجتماعي والمحيط البيئي, لهذا منهم من يعرف الوطن بالإنسان ومنهم من يعرفه بالأرض, لكن سعادة يؤكد على أسبقية الأرض على الإنسان, فقد يتسع المحيط ليشمل كل الوطن وقد يضيق إلى درجة كبيرة في حدود سياسية مصطنعة ضيقة لن تجدي فيها كل محاولات التطور والارتقاء نفعا, وهذا ما عمل عليه الغرب بالتقسيم الجغرافي للأوطان عبر اتفاقيات سايكس – بيكو ووعد بلفور الشهير, ولم يمانع أو يحارب الفكر القومي غير الاجتماعي فهو يدرك بسبب تقدمه العلمي في علمي الاجتماع والجغرافية السياسية أن التقدم والارتقاء للفكر القومي البحت غير الاجتماعي هي محاولات عبثية. هذا عدا عن بث روحية التمذهب والتدين والاثنيات والقبائلية و…., ليذهب المحيط الاجتماعي والبيئي إلى دوائر غير مجدية ولن تفيد مستقبلنا. فمرة يكون المحيط الكيان الصغير ومرة أخرى محيط أصغر ومرة يكون منطقة انتشار أصحاب مذهب واحد أو دين واحد أو أثنية وحيدة…. فلا يستقر للإنسان فكر ويتشتت شعوره. وهنا يظهر دور الوعي التاريخي واليومي في استقرار الفكر والشعور.

إنّ في المبدأ السوري القومي إنقاذاً لا يقتصر على سورية، بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله. ونهضتنا لا تعبّر عن حاجاتنا نحن فقط، بل عن حاجات إنسانية عامة

أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الرابع، ملخص خطبة الزعيم في أول مارس، سورية الجديدة، سان باولو، العدد 63، 1940/4/27

في الفصل الرابع من نشوء الأمم:

./…. وأحوال هذا المجتمع، أو الجماعات، الاجتماعيّة هي بحكم الضّرورة متابعة لأحوالهم الاقتصاديّة ومطاوعة لها. فنظامهم الاجتماعيّ يقوم على الرّابطة الدّمويّة المنتهية بالقبيلة. والفرد في هذا النّظام ككلّ فرد آخر بدون فرق أو ميزة، أي إنّ قيمته هي في الغالب عدديّة عامّة لا نوعيّة خاصّة، لأنّ فقد العمران ونقص المطالب الحاجيّة والكماليّة يبطلان المواهب الشّخصيّة وينفيان المزايا الفرديّة، وكذلك نرى أنّ نظامهم يخلو من الحقوق الشّخصيّة والملك الفرديّ وإذا وجد شيء من ذلك فهو في صورة أوّليّة غامضة. ومن درسنا أحوال العرب الذين هم في جوارنا نرى أنّ الفرد لا يكون عندهم سوى وحدة عدديّة في القبيلة سواء في ذلك أهل الوبر وأهل المدر، والانتساب إلى إحدى القبائل هو ضرورة. ومن هذه الحقيقة ندرك أهميّة الثّأر الّذي يعني حقّ القبيلة لا حقّ الفرد كما سيجيئ ويرى فقدان الملك الشخصيّ عندهم في أنّ الفرد لا يمكنه الاعتماد على نفسه في الدّفاع عن الممتلك وفي أنّه إذا فقد أحد مقتنياته توجّب على بقيّة أفراد القبيلة أن يعطوا كلّ واحد من ماله ما يعوّض على الرّجل خسارته/

    إذا قبلنا أن الإنسان في وجوده، هو كيان ودور ووظيفة، فهو لا شك أنه في موقع معين قيمته عددية ويكون في أمة متشكلة قيمة نوعية خاصة، ففي القيمة العددية ينطبق عليه علم الإحصاء فما يحصل له يحصل لجميع الأفراد في المجتمع ويخضع للصدفة والاحتمالات، أما عندما تكون قيمته نوعية خاصة فهو ينشأ وفق تربيته وتعليمه وصحته وعائلته وثقافة مجتمعه. وفي سياق العمران يكون له مزايا فردية، شخصية، علمية، فكرية….

حق الطبابة

حق التعليم

حق النمو في عائلة

/ في أحطّ درجات الاجتماع البشريّ وأبسطها نجد الجماعة أو العشيرة وعبثاً نحاول أن نجد الفرد، فهو لا وجود له اقتصاديّاً ولا حقوقيّاً ولذلك فهو ليس بداءة الاجتماع ولا شأن له في تعيين الاجتماع وكيفيّته. /

الوجود الحقوقي والاقتصادي للفرد

وسعادة هنا يبحث عن وجود الفرد عبر تاريخيته من وجوده الحقوقي والاقتصادي الذي نستنتج أنه الأساس والتعبير عن الفرد في المجتمع، هذا الوجود هو الذي يحتاج إلى متابعة سياسة حقوق الإنسان من أجله. لكن السياسة الأمريكية ومصالح رأس المال الأمريكي، الامبريالية، تقتضي اعتبار العالم كله مجتمعاً واحداً وللفرد حرية التحرك فيه كيفما شاء، وهذا عكس نظرة سعادة تماما للإنسانية / فالمجتمع الإنسانيّ ليس الإنسانيّة مجتمعة، ومن يدري هل يقدّر للإنسانيّة أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور؟/ وهو تساؤل مستقبلي وليس راهنياً.

وحيث أن له حق الانتخاب في المتحد أو اعلى مستوى الأمة فله وجود سياسي من خلال الأطر السياسية الموجودة، أكانت متخلفة أم عصرية.

وقد يرتقي وجود الفرد في هذا الزمن إلى وجود نفسي.

كذلك يكتب في الفصل الرابع:

/في الاجتماع الإنسانيّ ظاهرتين مفقودتين في غيره، هما استعداد الفرد لبروز شخصيّته واكتساب الجماعة شخصيّتها الّتي تكوّنها من مؤهّلاتها الخاصّة وخصائص بيئتها. وهاتان الظّاهرتان الأساسيّتان اللّتان تميّزان الاجتماع البشريّ تمييزاً شديداً بخصائصهما لا وجود لهما في عالم الحشرات والحيوانات الدّنيا ولا في عالم الحيوانات العليا…/

بل هنالك الفارق الأساسيّ الأوّلي الّذي يجعل لأعمال الإنسان وللاجتماع البشري صفة مستقلة تبطل كل مقابلة (اجتماعية) بين الإنسان والحيوان، هو ظهور الفكر الّذي له كلّ الأهميّة في الحياة والاجتماع الإنسانيّين.

حق التفكير

حق المشاركة الفكرية في المجتمع 

في النهاية، يحق لنا أن نفكر من جديد بعد ما يقارب من التسعين عاماً من وضع سعادة لعقيدته:

هل نحن على الطريق الصحيح؟

واضح من طبيعة الصراع المحتدم اليوم في بلادنا أن المشروع السياسي لسعادة هو مشروع جيوسياسي ومحط لصراع الأمم القوية، ومركز للتحولات التاريخية الكبيرة، وأن الأقوياء وأصحاب المصالح الاقتصادية لا زالوا يطمحون إلى السيطرة عليه، مثل طريق الحرير وطريق الهند – حيفا, وأن الحزب لن يستطيع المضي في هذا المشروع كما يراه سعادة, وقد يتقدم به آخرون غيرنا. فمن المفيد وضع رؤيا أخرى للحزب.

لابد من تغيير زاوية النظر للعقيدة لأن الظرف الجيوسياسي العالمي اليوم يتغير عما كان عليه عند التأسيس, والحزب ليس طرفا فاعلا في التشكيل الجيوسياسي القادم, هذا التشكيل الذي يتصارع عليه اليوم الصين وروسيا وايران وتركيا والغرب وأمريكا و.., فعلى الأقل لنحاول أن نبقى حاملين للقضية السورية وبجانب الإنسان السوري اليوم ووفق الوضع الجيوسياسي الجديد القادم حيث أن الوحدة القومية, التي كانت ممكنة عند التأسيس وقبل موجة الاستقلالات السايكس بيكوية في القرن الماضي, أصبحت خارج سياق فعالية الحزب, لابد لنا اليوم من التفكير في كيفية أخرى لنستطيع وليحق لنا الاستمرار.

    اقتراحات:

من المفيد أن نذهب إلى زاوية نظر مختلفة جديدة إلى العقيدة تنطلق من الواقع الراهن، الإقليمي والدولي، وتنطلق كذلك من الواقع الاجتماعي والاقتصادي والإنساني والسياسي الذي نحن فيه، وحتى نستطيع أن نخاطب الأجيال الجديدة من واقع حياتها وآمالها:

اعتبار أن زاوية الارتكاز في العقيدة والسياسة والخطاب الفكري السياسي هو الإنسان.

يبقى البيان الانتخابي الذي كتبه سعادة للانتخابات اللبنانية عام 1946 موجهاً هاماً في اتجاهنا الجديد.

إن أعداء الأمة لم يتغيروا

إجراء تغييرات في النظام الداخلي

إن التعبير عن مصالح الشعب لا يصح إلا بالانطلاق من المتحدات، فقد ثبت فشل كل التحالفات الفوقية بعيدا عن الشعب. ولابد من الالتحام مع الشعب والتعبير عنه في واقع حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

إعادة قراءة المبادئ الأساسية والإصلاحية، وربما تصبح للمبادئ الإصلاحية الأولوية في علاقاتنا مع الشعب.

    ولو كان بشكل أولي، لابد لنا من النظر إلى الإنسان، وخاصة بعد ما حصل في سنوات ما سمي الربيع العربي، حيث انكشف التباعد بين الأجيال الجديدة والمشاريع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المطروحة من قبل الأحزاب والدول والأنظمة السياسية. وكذلك ما لاحظناه أخيرا بعد 7 أكتوبر في غزة التعاطف الشعبي الواسع على مستوى العالم عكس سياسات دولهم التي انتخبوها ديمقراطياً بالتمثيل، وهذا يتطلب منا أن نتوسع في فهمنا للديمقراطية التعبيرية لتكون السياسات العامة والدول تعبر عن مصالح الشعب داخلياً وعالمياً.

وكل هذه الاقتراحات تنطلق من اعتبار الإنسان الركيزة الأولى في بناء أي نظام راهن ومستقبلي.    

المراجع:

كتابات ومؤلفات أنطون سعادة

التلاعب بالوعي، تأليف سيرجي قره – مورزا، ترجمة عياد عيد.

الإنسان المهدور، تأليف د مصطفى حجازي.

الإنسان الأدنى، تأليف علي حرب.

 

نيقولا ديب

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق