أين يتوقف هذا المشهد السائل في الشرق الأوسط؟
كيف سيرتسم على نحو نهائي؟
ما هو مستقره؟
ربما قبل نهاية هذا العقد، ستكتمل اللعبة. تسييل الحدود الجغرافية، الدولة المركزية الرخوة، وانتهاء مهمة الأكواز الحدودية لسايكس بيكو. الشرق الأوسط الصغير المفتوح برمته على مركز وحيد على شاطئ المتوسط اسمه تل أبيب، تنتهي معه مفاعيل الدولة القومية، وتبدأ مهمة الدولة المفتوحة ذات الحدود المسالة، التي ستظل رموز سيادتها تلوح في خلفية المشهد، علم وشرطة ونشيد وطني، لكنها لن تملك السيادة التامة الكافية، لأن العامل الأقوى هو الذي يرتسم المشهد برمته قياساً له، وهو اقتصاد المنفعة. الايديولوجيات سوف تجفف. الايديولوجيات ذات الطابع اليميني المتصلب والمتشدد سواء كان دينياً أو قومياً سوف تنتهي بتجفيفها، ولن يسمح بإعادة أنابيب التنفس الصناعي لها.
إسرائيل هي الدولة المركزية الوحيدة، والدول المحيطة هي أرض مفتوحة لتأسيس البنى الاقتصادية اللازمة لربط جميع هذه الأراضي المفتوحة بعضها مع بعض في عتلة تعلو على أيه مصلحة قومية أخرى، هي عتلة الاقتصاد الواحد، شيء يشبه فيدرالية الولايات المتحدة، سوق واحدة تشمل الأردن وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين ودولة الكيان – إسرائيل – والعراق، وقد تضم إليها تركيا في وقت لاحق. سوق عمالة شاب وعملاق، وثروة نفطية ضخمة ورغبة في الاستسلام من طرف، مقابل إرادة في السيطرة من طرف آخر. دول محمية أثناء سيرها على الطريق بمظلة عسكرية عملاقة، أميركا هنا لتبقى، هنا كوريا جنوبية أخرى، والوجود الأميركي هو وجود دائم لتعطيل أية مقاومة، ولتعبيد المسار أمام إسرائيل التي أصبحت المركز، ونحن أصبحنا الأطراف.
خذلنا كل فرصة أتيحت للتقدم، ما استطعنا فعله، وبحرفية عالية، هو إقامة ديكتاتوريات معمرة، رحلت آخرها منذ أشهر. الشرع هو مجرد تفصيل، تفصيل ربما يكون غير معمر، الشرع هو المعول الذي استخدم للقضاء على آخر هذه الديكتاتوريات، أتى وهو يحمل ورقة دفتر الشروط، أنتَ جزء من مشروع الشرق الأوسط الصغير، وهنا في التعريف يختلف مع الشرق الأوسط الكبير الذي أقترح سابقاً كتسمية ويضم إيران وأفغانستان والعراق وتركيا وبقية الدول الناطقة باللغة العربية، وربما إندونيسيا وبنغلادش ودول الطوق الجنوبي للاتحاد السوفييتي قديماً، وحتى طريق دافيد نفسه، على طول الحدود السورية العراقية هو ليس أكثر من طريق اقتصادي يربط هذه الأطراف في سلسلة محكمة محمية بالمظلة الأميركية.
سيصبح الإسرائيليون شركاء في كل شيء، من زراعة البادية السورية بعد إرغام تركيا على ضخ المياه اللازمة لإقامة مستعمرات زراعية عملاقة وأمازونية، إلى الدفع في الاستثمار في الطاقة في حقليها العراقي والسوري، إلى إقامة المعامل العملاقة التي لا تسمح الحيزات الجغرافية الضيّقة في اسرائيل بإنشائها، والمتخصصة ربما بالصناعات العسكرية. دول بحدود مسالة، وسلطات مركزية رخوة، وبأيديولوجيا مجففة، تدور حول مركز واحد موجود على الضفة الشرقية للمتوسط.
هذا هو المستقبل. هذا هو الشرق الأوسط الصغير. عقل ترامب حاضر هنا، ربما هو الملهم، وربما هو المنفذ، لكنه حاضر راهناً، ونتنياهو كان خلاقاً في الدمار كإله الموت الهندي شيفا، وهو ما تمم به المشهد الذي سيكون ضحيته هو نفسه، وعلى أنقاضه سوف يقفز إلى مقدمة المشهد صناع الشرق الأوسط الصغير، من تلك البطانة المختبئة الآن والمتحينة فرصتها لاحتلال مقدمة المشهد، مشهد الشرق الأوسط الجديد.
وبالعودة الى إسرائيل، ربما كان علينا استذكار ذلك الاقتباس عن نابوليون بونابرت:
لا تترددوا، ترى لو تردد يوليوس قيصر عند ضفاف الروبيكون، لاختفى من صفحات التاريخ.
نحن ترددنا، واسرائيل أقدمت، ننسحب من صفحات التاريخ لأننا ترددنا، وفي ظل هذه المحكمة التي لا ترحم، محكمة التاريخ…التاريخ سيصلبنا.
————————
هامش: نهر الروبيكون هو نهر صغير في شمال شبه الجزيرة الإيطالية، وكانت الفيالق الرومانية في شمال هذا النهر سواء في جارمانيا أو غاليا ممنوع عليها عبور هذا النهر لأن عبوره سيعتبر عصياناً مسلحاً موجهاً إلى روما.
يوليوس قيصر كان قائد الفيلق المعسكر في جارمانيا أو المانيا الحالية واعتقد أن اسم هذا الفيلق كان الفينيكس. قرر العودة إلى روما بعد سماعه أخبار الاضطرابات وشبه حرب أهلية هناك، ولم ينصت إلى قواده وجنرالاته عندما حذروه من عبور الروبيكون.
عبره، ولم يتردد.