العالم الآن

إدلب.. لماذا؟!

في كارثيّة النصر الكامل أو الحكم بالغلَبة

  سؤالٌ حيَر عقول الكثير من السّوريين، خلال سنوات الحرب الشّرسة على بلدهم، وبعد سقوط دولتهم بشكل دراماتيكيٍّ محزن وقاسي، عاد للواجهة، خاصَّة لدى العقلاء والشّرائح الواسعة التي كانت تؤيد الدَّولة ومؤسّساتها، وتتطلَّع برجاء لانتهاء الحرب بصورة مختلفة تماماً، تضمن بقاء الدّولة و”انتصارها” كما كانوا يتصورون وينتظرون.
“لماذا كانت الدولة تصر على نهج المصالحة والمسامحة، ولماذا تجنَّبَتْ صيغة الحسم العسكري الكامل، وهو كان بمتناول يدها في مرحلة طويلة!!”

  حتى نقوم بتحليل هذا السّؤال السّياسي المفاهيمي، سنعود لحادثة تاريخيّة مُلهمة جداً في هذا السّياق..

  في نهاية خمسينات القرن الماضي، إبَان تأزُّم الصّدام في لبنان بين القوى اليمينيَّة اّلتي يتزعمها الرّئيس اللّبناني وقتها كميل شمعون، وبين القوى الوطنيّة المعارضة له. أثناء أحد اجتماعات القوى الوطنيّة في منزل رئيس الوزراء حسين العويني، على وقع صدام عسكريّ في الشّارع بين الطّرفين، دخل أحد قادة مسلحي المعارضة إلى الاجتماع، وأخبر الرّئيس العويني نبأ “إحكام المناضلين محاصرة منزل الرئيس شمعون، واقترابهم من إحراز النّصر الكامل”.. وفيما بدا الارتياح على وجوه بعض الحاضرين، أجاب العويني بحكمة وطنية تاريخية قلَّ نظيرها، فقال:

  “النّصر الكامل!! أعوذ بالله من النّصر الكامل.. أعوذ بالله من النّصر الكامل”

  إنَّ الرّجل كان يدرك تماماً كما يبدو، معنى أن يحقّق طرف وطنيّ داخليّ “نصراً كاملا” على طرف وطني آخر، وهذا ما يعني، وربّما أهمّ ما يعنيه، أن هناك كسراً تاماً للمشاعر والوجود الوطني لشريحة أو فئة من الشّعب، وهذا له انعكاسات خطيرة على السّلم الأهلي من جهة، وعلى طبيعة تكوين الهويّة الوطنيّة من جهة أخرى، وهي الأهم على كلّ حال. فكيف يمكن تصور الحالة المعنويّة والإحساس الوطنيّ لدى طرف تمَّ كسره بشكل تام؟! وأيُّ وعي وطنيّ مشوَّه سوف يحمِلُه هذا الطّرف، وكيف يمكن أن يُصبِح فاعلاً ومساهماً في بناء ومنعة “وطن” تم كسره فيه؟! هذه الأسئلة حاكمة وأساسيّة ومرشدة، في آنٍ معاً، في سياق بحثنا هذا.

  أثناء حصار القوات الحكوميّة السّوريّة للأحياء التي تحصّن فيها المسلحون بداية الأحداث، في قلب مدينة حمص القديمة (بين عامي 2012-2014)، حيث بدأت الفصول الحقيقيّة للثّورة السّوريّة، تعالت أصوات المطالبين بالحسم العسكري، ولكن تلك الأصوات لم تلقى لها آذاناً تسمعها أو تستجيب لها، عند صانع القرار السّوريّ الّذي فضّل فكرة أطلق عليها اسم “المُصالحة”، تلك الآليّة الّتي حكمت معظم سير العمليات العسكريّة على مساحة الجغرافيا السّوريّة، التي وصلتها الجماعات المسلّحة، والتي كانت دائما تتحصّن في قلب الأحياء السّكنيّة بعيداً عن البراري والبساتين، حيث اعتاد الثّوار على القيام بنشاطهم الثّوريّ، وقد عرفت سورية نفسها ذلك النّهج الثّوريّ أثناء الثّورة على الاحتلال الفرنسيّ مثلاً، يوم اتَّخذ الثّائرون من بساتين الغوطة الدّمشقيّة مجالاً لعملهم المسلّح، بعيداً عن الأحياء السّكنيّة الّتي يُفتَرَض بهم أن يُقَدِّموا لها الحريّة لا الدَّمار.

  في اتّفاقيات “المصالحة” كان يتمّ إخراج المسلحين من المدن والبلدات الّتي تحصّنوا فيها، مع الإبقاء على المدنيين، وأيضاً إعطاء الضّمانات لمن يرغب من المسلّحين في ترك سلاحه للبقاء في منزله وحيِّهِ، ما سُميَ آنذاك بالـ “التّسوية”. حَكمت هذه الآليات العمل على استعادة السّيطرة على معظم مناطق ريف دمشق، وحي الوعر في حمص، ومن ثمّ مناطق الرّيف الشّمالي لمدينة حمص، وبعض مناطق حلب وريفها، فيما اعتُمِدَ الحسم العسكريّ في بعض المناطق الأخرى عندما تعذّر انجاز الاتّفاقات المطلوبة، لمجمل أسباب لسنا في وارد بحثها هنا، ولكن في المقابل كان يحدث أيضاً في بعض الحالات السّماح حتّى للمسلّحين في الاحتفاظ بأسلحتهم الخفيفة والبقاء في مدنهم وبلداتهم، كما حدث في درعا وتلبيسة (ريف حمص)، لا بل وصل الأمر لحد دمجهم في قوات الدّفاع الوطنيّ بعض الأحيان، وقد أبلى بعض هؤلاء بلاءً حسناً في استعادة الأمن ومواجهة المسلّحين في مناطقهم، كما حدث في بعض الأمكنة في محافظة درعا الجنوبيّة.

  كانت السّمة السّائدة هي فكرة المصالحة وعدم وصول الأمور إلى فكرة “القضاء الكامل على المسلحين” وليس هناك شاهد أدلُّ على ذلك أكثر من فكرة “إدلب” نفسها التي ابتدعتها السّلطات السّوريّة لكي تكون مكاناً واحداً لتجميع المقاتلين، بغية توفير الجهد العسكريّ وحصر الجبهات الكثيرة المشتعلة في محور ومنطقة واحدة، إضافة إلى الإبقاء على هامش معقول ومتاح لإنهاء الأزمة عبر آلية “المصالحة” والحلّ السّياسيّ للأزمة، الذي وإن أمكن حدوثه بين أطراف بعضها انتصر في المعارك وبعضها لم ينتصر، ولكن مع تجنّب الوصول إلى حافّة هاوية الانكسار الكامل لطرف. ذلك يبدو منطقياً للغاية، خاصّة وأنَّ الدّولة السّوريّة كانت تتعامل بشكل رئيس مع مواطنين سوريين، مع حفظ حقها بطرد الأجانب الّذين لم يكونوا موضع نقاش على كل حال، ولم تكن فكرة بقائهم مطروحة في أي وقت من الأوقات، ولهذا عرقل وجودهم حل الكثير من الملفات، وعلى رأسها ملف إدلب الّذي كان سيوفّر على سورية كلّ ما تلا ذلك من انهيار.

  إنَّ البعض يلجأ لتفسير ذلك الحرص من السّلطات السّياسيّة الّتي كانت تّحكُمُ الدّولة السّوريّة، على الحفاظ على تركيبة المجتمع وهويّته الوطنيّة لدى أوسع شريحة مُمكنة من أبنائه، وخاصّة هؤلاء الثوار الذين تمردوا على الدّولة، البعض يلجأ لتفسير ذلك على أنّه “رغبة وَسعيٌ من تلك السّلطات للاحتفاظ بالسّلطة” ونحن هنا كباحثين في الأمر، وإن كنَّا لا نَدّعي العِلم بسرائر النّفوس، ولكِنّنا نوافق على هذا الطّرح بالمبدأ، فهو وارد جداً، لا بل إنَّهُ جوهر العمل السّياسي على كل حال، أي أن يقوم هذا الطرف أو ذاك بخدمة أهداف المجتمع، بغية الوصول للسلطة أو الاحتفاظ بها، فالسّياسة لا تُعنى بالنّوايا ولكن بالنَّتائج.
إذا تأمّلنا في المشهد السّياسيّ والإعلاميّ العالميّ اليوم، نجد أنَّ هناك جهداً هائلاً ومستمراً بشكلٍ حَثيثٍ، على المستويات الاستخباريَّةِ والاعلاميَّةِ والسّياسيّة، لوأدِ أي مولود يمكن أن يُعقَدَ عليه أمل المصالحة والتّعافي لدى المجتمعات، ليس فقط بين الدّول كما كان سائداً على مدى قرون، ولكن على مستوى الشّعب المدينة البلدة وأحياناً الحي والشّارع. الفتنة تتمُّ زراعتها وسقايتها بشكلٍ علنيٍّ وواضح لِتكبر وتستمرّ، حتى صارت عناوين مثل “السّلم الأهليّ” أو “الوحدة الوطنيّة” ضرباً من ضروب الخيال العلمي في مجتمعات كالمجتمع السّوري أو العراقي أو اللّبناني، وحتّى الفلسطينيّ. تماماً كما يُمكِننا رصد تلك الرّعاية الدّوليّة لمشهد انكسار طرف واسع من أبناء الشّعب السّوريِّ والعراقيِّ قبله (كأمثلة) ومباركة ذلك عبر إيصال ودعم القوى المتطرّفة الّتي تحكم وتقرّر بأحاديّة شرسة جدّا، وبطريقة تصادر حقّ المواطنين في هذه المجتمعات حتّى بالحزن والحداد. إنَّ هذه الوصفة المتّبعة هي سلاح التّدمير الشّامل الّذي بدأت القوى الغربيّة باستخدامه منذ عقود، وهو يؤتي أكُلَه بطريقة مفجعة بالنّسبة لنا كعرب، ويبدو أنّنا نسير بطريق ما يزال طويلاً باتّجاه التّدمير الذّاتي، مدفوعين برغبات ومصالح القوى التي تتقاسم نفطنا وغازنا وأسواقنا، وحتّى دماءنا المُهرقة.

د. أحمد العربي

باحث وأديب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق