أثارت الخطبة التي ألقاها السيد حميد الياسري (رابط فيديو بنصها الكامل في نهاية المقالة)، ردود أفعال قوية، بعضها مؤيد وآخر رافض وثالث حذِر مُحَذِّر، فيما تغافل عنها البعض الرابع وآثر السلامة، ولكن الحادثة ككل تصلُح لتقديم بعض الإشارات والمفاتيح الأولية المهمة لفهم وتحليل الوضع الذي وصل إليه العراق، ومعاينة المسار الذي دخل فيه، واستشراف الآفاق المثيرة للقلق التي سيفضي إليها.
سأحرر أدناه بعض ما ورد على لسان السيد الياسري وبعده أورد مثالاً على ردود الأفعال الرافضة عليه، خالصاً من ذلك إلى بعض الاستنتاجات التي تُحايث الموضوع. وقبل ذلك يحسُن التعريف بالسيد الياسري. فهو خطيب حسيني، محسوب على أحد فصائل “حشد العتبات/ يقود لواء أنصار المرجعية”، وكان هو نفسه قد قاتل في معارك القضاء على عصابات داعش التكفيرية، واستشهد أحد أولاده في إحدى المعارك.
أقوال من الخطبة
مما ورد في خطبة السيد الياسري خلال إحياء طقوس العاشر من محرم بمدينة الرميثة الفراتية التابعة لمحافظة المثنى هذه الفقرات الحرفية:
*من الدقيقة 5 وأربعين فما بعدها: “من الإمام الحسين، تعلمنا أن مَن ينتمي للوطن ويوالي غير الوطن فإنها خيانة عظمى، فإنه دجل عظيم، وإنه خداع كبير، أما أنْ يأتينا الصوت والتوجيه والإرشاد من خلف الحدود، فهذه ليست عقيدة الإمام الحسين، فنحن نرفض هذه الانتماءات ونرفض هذه الولاءات ونعلن ذلك بأعلى أصواتنا، فلا خوف ولا تردد ولا أي شيء يمنعنا، إنَّ مَن يوالي غير هذا الوطن فهو خائن ومحروم من حب هذا الوطن”.
*”أعلمُ أن هذا الكلام يجرح، وأعلمُ أن هذه الكلمات صرخات ورصاصات سوف تضرب صدور المتخاذلين والخائنين والمتقاعسين والذين باعوا ولاءهم إلى مَن
هم خلف الحدود”.
*”وأن هذه الرصاصات في قلوب هؤلاء سوف تعود في يوم من الأيام وتضرب قلبي وقلبكَ، وأعلمُ أن هناك من يكتب ويسجل هذه الكلمات ويبعثها لأسياده، وأسياده يبعثونها إلى أسيادهم خارج الحدود، وسوف يفتي المفتي خارج الحدود بقتلي وقتلك بتهمة أننا نزعزع الولاء، ونهدد هذه الولاءات الورقية الزائفة الزائلة في يوم من الأيام”.
*”ذلك سيحدث كما قالوا وحكموا وصوبوا رصاصاتهم، وقالوا إن هذا الفقير الذي خرج إلى الشارع للمطالبة بحقوقه عميل، وكذلك صاحب “البسطية” البسيط الفقير الذي حمل العلم العراقي وراح يطالب بقوته قالوا عنه هذا عميل. وعمال المساطر الفقراء والمساكين الذين قالوا للفساد لا، وقالوا للمفسدين لا، قالوا إنهم عملاء ويجب أن يموتوا، وفعلاً قتلوهم وماتوا. الأمر خطير أيها الأحبة، يحتاج إلى الصوت وإلى الكلمة وإلى الشجاعة”.
*”في يوم من الأيام عندما قلت عبارتي التي اعتبروها كفراً، واعتبروني مارقاً عن الدين، قلت إن من يوالي غير وطنه لا دين له”. (الحاضرون يهتفون يشاركهم الخطيب هتافهم: نعم، نعم، للعراق!).
ردود أفعال على الخطبة
رد الشيخ قيس الخزعلي زعيم مليشيا “عصائب أهل الحق” سريعاً حيث غرد قائلاً: “أسوأ ما في محاولات بعض القوميين المعممين الذين يريدون الاستتار بالوطنية لتمرير مشاريعهم هو محاولة ربط الإمام الحسين بهكذا أفكار، لأنه ببساطة سيكون الحسين عليه السلام (المولود في الحجاز) قد جاء من خارج الحدود
وأراد توريط العراقيين بصراع المحاور والتسبب بمقتلهم، وأن الذين تصدوا له (وقضوا عليه) وأفشلوا مشروعه هم العراقيون الوطنيون باعتبارهم كانوا من أهل الكوفة”. وختم الخزعلي كاتباً “من العجب أن تصدر أمثال هذه التفاهات من شخص معمم وعلى منبر الإمام الحسين”.
من الواضح أن رد الشيخ الخزعلي خارج السياق التاريخي والسياسي تماماً، لأنه اكتفى بعبارة تأويلية وقوَّل الياسري مالم يقل ووصفه بما ليس فيه، ومَن لم يشاهد أو سمع كلام السيد الياسري قد يظن أنه فعلاً “من القوميين المعممين” الذي قالوا هذا الكلام الذي لا وجود له في الفيديو. وحتى إذا أخذنا كلام الخزعلي على محمل التأويل والتقويل فهو خارج السياق التأريخي والجغراسياسي وخاطئ جملة وتفصيلاً؛ فلم تكن هناك حدود وداخل وخارج في دولة الإسلام – في القرن الهجري الأول – لأنها كانت تشمل الحجاز والعراق وبلاد الشام ومصر، بل كان مركز الدولة وعاصمتها الثانية بعد المدينة المنورة هي الكوفة، وما بلاد الشام – بمصطلحات عصرنا – إلا إقليم متمرد بزعامة واليه معاوية بن أبي سفيان على المركز منذ بدء خلافة الإمام علي بن أبي طالب ونقله عاصمة دولة الإسلام إلى الكوفة.
تحليل واقتراحات
مما يؤشر عليه، أو يشير إليه هذا الحادث / الخطبة يمكن تسجيل التالي:
1-إن ما طرحه الياسري بخصوص ولاء بعض الأحزاب والفصائل المسلحة للخارج، وتحديداً لإيران بوصفها دولة ولاية الفقيه، لم يعد شائعة يتم تداولها خفية أو اتهاماً تسقيطياً دون أدلة بل هو واقع حال يصرح به الولائيون أنفسهم بل إن بعضهم يفاخر به.
2-إنَّ من حق العراقيين أن يتساءلوا عن سبب سكوت السيد الياسري والفصائل التي يحسب عليها طوال السنوات الماضية عن هذه الأمور وعن غيرها منذ بدء الاحتلال الأميركي وكتابة الدستور المكوناتي وشيوع الفساد والطائفية والمذهبية، وعن إهماله حتى الآن لقضية فقدان الاستقلال والسيادة العراقية بسبب ذلك الاحتلال وعن الهيمنة الأميركية الراهنة.
3-إن ما وجهه الياسري من اتهامات للولائيين وقياداتهم بالإفتاء بتكفير الآخر المخالِف والمختلِف وحتى قتله أمر يؤشر على الدرجة المقلقة التي بلغتها الجدالات السياسية بين الفصائل المليشياوية والأحزاب في المشهد السياسي وهو ينذر باحتمالات خطرة مستقبلاً قد تصل إلى درجة الصدام المسلح، وينبغي تفادي حدوث هذا الاحتمال بكل السبل، ولا سبيل أضمن لتحقيق ذلك من تفكيك نظام المكونات والمحاصصة الطائفية والعرقية التوافقي بشكل سلمي وإعادة كتابة الدستور الاحتلالي المكوناتي.
4-إنَّ الخوف أو تخوِيف الناس من قول الحقيقة وتوجيه النقد بحجة “تفادي الفتنة” حتى من قبل حسني النوايا والحريصين، لن ينفع في حل أية مشكلة بل هو يراكم المشاكل ويؤجل حلها ويساهم في إسكات الوطنيين ودعاة النظام الديموقراطي المواطني من الدفاع عن قناعاتهم.
5-في ظل غياب البديل الاستقلالي الديموقراطي العراقي المؤثر وانتهازية القوى التي تسمي نفسها قوى الإصلاح والتغيير التي تشارك في نظام الحكم الفاسد وتحصل على حصصها من غنائمه وفساده؛ فلا الياسري – مع الاحترام لشجاعته وآرائه ذات النزوع الوطني – ولا الفصائل التي يحسب عليها ولا خصومه الحاليين في الفصائل الولائية يحملون مشروعاً وطنياً للحل، ولا يمكن التعويل على ما يحدث بينهم من خلافات آنية من المرجح أنهم سيتمكنون من حلها حتى إذا اشتبكوا بالسلاح، وقد تمكنوا فعلاً من حلها ومعالجتها في مناسبات كثيرة لحماية نظام الحكم الذي يتقاسمون غنائمه. وعليه سيكون من المؤكد أنهم سيوحدون قواهم وجههم ضد أي تيار وطني استقلالي جذري يهدد نظامهم التابع الفاسد، أي إنهم في المحصلة ومن حيث الجوهر قوى محافظة دافعت وستدافع عن نظام الفساد والتبعية وفقدان الاستقلال.
6-وفي ظل الغياب المأساوي لأي بديل استقلالي ديموقراطي مؤثر حالياً، سيكون من المفيد تثقيف الشباب المستقيل والمتعاطفين منهم مع التيار المتنامي المؤيد للسيد الياسري، تثقيفهم عبر حوار صريح وشفاف بآفاق الحل الوطني الديموقراطي ومكافحة الأوهام الطائفية والفردانية والمغامرة وإقناعهم بضرورة التعويل على قواهم الذاتية وتنظيماتهم وتجمعاتهم النقابية والسياسية وفي مواقع التواصل الاجتماعي وكسب هؤلاء الشباب لهذا الخيار الواقعي والقريب جداً من صبواتهم وآمالهم وقناعاتهم الوطنية الاستقلالية المشوَّشة في الوقت الحاضر، والتركيز على الهدف الأول المتمثل بالخلاص من الاحتلال الأميركي السياسي والأمني والتبعية لإيران وتحويل قضية استعادة استقلال وسيادة العراق وتغيير نظام المحاصصة الطائفية سلمياً إلى قضية آنية وراهنة وملحة، لا قضية أخرى تتقدم عليها، ومن حق العراقيين أن ينظروا بريبة إلى كل شخص أو مجموعة أو برنامج يغفل أو يتناسى أو يؤجل هذا الهدف المركزي الأول فبدون استقلال وسيادة لا يمكن القيام بأي تغيير أو إصلاح أو إعادة إعمار بلد منهوب ومدمر كالعراق!
———————————————–
*فيديو لكلمة السيد حميد الياسري:
https://www.youtube.com/watch?v=phXEMVbOuA4&ab_channel=%D8%A7%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%B1%D9%8A