[في إطار ملف: الصراع الوجودي على المياه الذي يعّده الباحث سعادة مصطفى أرشيد، نقدم الجزء الثاني، الذي يتضمن رصداً لاستراتيجية المياه في المشروع الصهيوني.]
II
منذ انطلاق المشروع اليهودي (الصهيوني لاحقاً بعد عام 1897)، والعمل على الاستيلاء على الأرض ومصادر المياه جاري بتسارع وبتخطيط دقيق، مستفيداً من المعلومات الغزيرة التي وفرها لقادته، صندوق إعادة اكتشاف فلسطين الممول من الحكومة الانجليزية وأثرياء يهود وبعض البروتستانت المتطرفين. قام الصندوق المذكور بتمويل الرحلات إلى فلسطين لمجموعة من الآثاريين و اللغويين وعلماء الاجتماع والتاريخ والزراعة والاقتصاد، ومعهم خبراء المساحة ورسم الخرائط، الذين كان أشهرهم اللورد الشاب هوراشيو كتشنر، الذي أصبح لاحقاً معتمداً بريطانياً في مصر وحاكماً للسودان والبحر الأحمر، ثم وزيراً للحرب في مطلع الحرب العالمية الأولى .
عُقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل – سويسرا عام 1897، حيث اتفق المؤتمرون على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ألقى رئيس المؤتمر ثيودور هيرتزل كلمة المؤتمر الختامية وقال في نهايتها: لو أردت إيجاز أعمال المؤتمر ببضع كلمات لكانت: (لقد تم وضع حجر الزاوية للدولة اليهودية التي ستكون حدودها الشمالية منابع نهر الليطاني). ومن اللافت للانتباه أن هيرتزل أعلن حدود دولته الشمالية فقط !! وهكذا يكون الصهاينة الأوائل قد حددوا حدود دولتهم بعيداً عن الاستناد للتوراة وأساطيرها، وبعيداً عن الالتزام بـ (الوعد الإلهي) المعطى لأجدادهم (المزعومين) !! بل جاءت هذه الحدود مائية عند منابع الأنهار ومصادر الماء التي يجب ان تكون تحت سيطرتهم. استكمالاً لتوصيات مؤتمر بازل، قامت الوكالة اليهودية في عام 1905 بتكليف مهندس المياه فيللي بوس (ويللبوس) اليهودي الألماني بدراسة الوضع المائي للأغوار، الذي وضع تقريراً جاء فيه: أن مياه نهر الأردن لا تكفي لحاجات التطور الزراعي الذي تخطط له الوكالة اليهودية على المدى البعيد، وأن الحل هو في تحويل مياه نهر الليطاني وينابيع الجولان.
لاحقاً وأثناء الإعداد لمؤتمر الصلح (فيرساي – 1919) تقدم رئيس الوكالة اليهودية حاييم وايزمان بطلب إلى لويد جورج رئيس الوزراء الإنجليزي، يذكّره بضرورة الالتزام بحدود الوطن اليهودي الواردة في وعد بلفور، ذلك الوطن الذي يشمل منابع نهر الليطاني وجبل الشيخ وسفوح حرمون وهضبة الجولان وحوض نهر اليرموك، وأثناء انعقاد المؤتمر ازدادت شهية وايزمان ووكالته اليهودية، إذ بعث برسالة للمؤتمر يطالب فيها بأن تصل حدود الدولة اليهودية حتى مدينة صيدا، وان تشمل نهر الزهراني وبحيرة القرعون البقاعية ووادي التيم. ثم عندما اجتمعت اللجنة الانجلو-فرنسية لترسيم الحدود عام 1921 بين فلسطين (الانتداب الانجليزي) وسورية (الانتداب الفرنسي) – ذلك قبيل الإعلان عن تأسيس إمارة شرقي الأردن – طالبت الوكالة اليهودية الانجليز – الذين استجابوا لطلبها – بأن تصبح بحيرة طبريا والحمّة والجولان جزءاً من فلسطين، حيث أن هذه المناطق كانت في منطقة النفوذ الفرنسي أي في سورية الانتدابية، وقد وافقت فرنسا في النهاية على الصفقة بالتنازل عن طبريا و مناطق اربد ليصبح تحت النفوذ الإنجليزي، باستثناء الجولان.
يجد الباحث من هذه الشواهد على ان الترسيم المعادي لحدود الأوطان المصطنعة كان لخدمة المشروع الصهيوني أما حدود دولة (إسرائيل) فكانت ترسم بالماء لا بالحبر، وهي شواهد كثيرة لا يتسع لها مقال أو بحث وإنما كتب ومجلدات.
قبيل قيام الدولة الموعودة عام 1948، عملت الهاغاناه وغيرها من المليشيات اليهودية على طرد أكبر عدد ممكن من السكان، أصحاب الأرض إلى خارجها بعيداً، ولاحقاً عند إعلانهم قيام الدولة باشرت حكومتهم الاولى بسن قوانين أدت إلى تشريع تهجير من تبقى من السكان إلى الخارج، أو إلى مناطق غير مناطق سكناهم ومصادرة أرضهم ومياههم، ومنها حوض الحولة الذي تم تجفيفه، والاستيلاء على ما لم يتم شراءه من أرض الحولة (أسماء باعة أراضي الحولة للوكالة اليهودية معروفة وموثقة). ثم بدأت عملية استصلاح صحراء النقب القاحلة بتزويدها بالمياه من بحيرة طبريا ونهر الأردن، ثم منعت (إسرائيل) بقوة السلاح إقامة أية مشاريع مائية تؤثر على نهر الأردن، الأمر الذي استدعى عقد القمة العربية الأولى في الاسكندرية والتي أقرت بناء سد خالد بن الوليد على نهر اليرموك ورصدت أموالاً عربية لتنفيذه، إلاّ أنَّ (إسرائيل) قامت بقصفة وتدميره وكان واحداً من بين أسباب عديدة أدت إلى حرب حزيران عام 1967، حيث اعتبرت إسرائيل أن الشروع بأعمال بناء السد يعتبر بمثابة إعلان حرب.
عند إعداد اتفاقية أوسلو التي تم توقيعها في عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة (إسرائيل)، تم الاتفاق على شكليات السلطة ومظاهر السيادة، مثل طوابع البريد الفلسطينية ورفع الأعلام فوق المباني، وهي التي كانت جريمة يعاقب عليها الاحتلال قبل توقيع الاتفاق. كما تم السماح بفرش البساط الأحمر وعزف النشيد الوطني عند استقبال الضيوف الأجانب، وإصدار بطاقات الهوية الشخصية ووثائق السفر بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي، وإن سمح هذا الأخير بتسمية وثيقة السفر (travel document ) بجواز سفر (pass port). لكن تم تأجيل التفاوض لخمس سنوات حول جوهر السيادة والدولة المستقلة وعاصمتها القدس وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي طردوا منها وتفكيك المستوطنات التي أقيمت في الضفة الغربية، حيث يفترض أن تكون الدولة الفلسطينية، كما تم تأجيل مناقشة مضمون سيادة هذه الدولة على حدودها ومعابرها، وأخيراً الشاهد فيما أوردناه حول مسألة المياه.
انقضت السنوات الخمس وأعقبها أربع خمس أخريات….. وإلى الآن لم تحصل تلك المفاوضات، وليس ثمة ما يشير إلى إمكانية البدء بها، أو التوصل إلى نتائج في الملفات الخمس المؤجلة، حيث أنَّ (إسرائيل) فرضت حقائق على ارض الواقع، جعلت التفاوض صعباً، بل مستحيلاً، ضمن موازيين القوى الراهنة، بحيث لا يمكن تجاوزها أو رفضها بالأساليب المعمول بها حالياً.
يطرح الإسرائيلي والأمريكي حلولاً لمسألة المياه، من خارج صندوق المياه المسروقة، وهي لا زالت مشاريع على الورق، ومنها مشروع قناة البحرين، الذي تم الاتفاق مؤخراً على تحديث دراساته القديمة. قناة البحرين هي أنابيب ضخمة تنقل مياه البحر الأحمر إلى غور الصافي جنوب البحر الميت الذي أخذت مساحته بالتقلص نتيجة لسحب مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب، حيث ستقام محطة تحليه مياه ذات قدرة عالية، وسيتم ضخ المياه المركزة الأملاح الناتجة عن عملية التحلية للبحر الميت لإنقاذه من الجفاف المتوقع، فيما يتم توزيع المياه الحلوة بنسبة 40% (لإسرائيل) و 30% للأردن و 30% للسلطة الفلسطينية. يدور الحديث أن (اسرائيل) تريد كامل المياه، مقابل أن تعطي الأردن بدلاً منها مياهاً من منطقة الباقورة وتعطي السلطة الفلسطينية مياهاً من آبار الضفة الغربية التي لا زالت تسيطر عليها .
ما تجدر ملاحظته أن الاستيلاء على مياه نهر الأردن في السابق كان يستدعي قمة عربية، وعملاً مشتركاً على تمويل بناء سد خالد بن الوليد، وكان ذلك سببا من أسباب عديدة قادت إلى حرب 1967. أما الآن فيبدو من السهل و العادي و الطبيعي تأجيل ملف المياه إلى وقت لا ينتهي عند من احترفوا التفاوض واستمرأوه واعتبروه أسلوب حياة ومصدر تسلية وثرثرة وتفكه ومقايضة أساس الحياة بالبقاء السياسي الذي له الأولوية عما عداه .
ما يؤكده هذا البحث المعمق هو أن الصهاينة لديهم القدرة والإمكانيات و. وتسخير العديد من الخبراء وأبحاثهم لمخططاتهم واستراتيجيتهم الواضحة والبعيدة المدى بينما نحن كطرف عربي كنا دائما نتصرف كرد فعل وليس فعل ولم نكن نملك هذه النظرة المستقبلية الاستراتيجية لأسباب عدة. أتمنى أن تصل هذه المعلومات والدراسة وتعمم لاهميتها.
سلمت و دام قلمك
في كل مرة اقرأ تحليلك الواقعي و المرتبط بحقائق ادرك بأن قادتنا بحاجة الى من يرفع الغطاء عن اعينهم و من ثم الوم نفسي لان من وضعهم في مناصبهم يعلم بأنهم لا يليقون و لا و ان يتوصلوا الى بعض مما في تحليلك ..من كان يذهب للمفاوضات يحمل في يده مسبحة و قبيله الاسرائيلي يحمل ملفات بحاجة الى من يحملها …. لا زلنا لا نستحق وطن
قد تأتي اجيال بعدنا تستحقه