العالم الآن

الإدمان على الطائفية والفساد

لبنان: نموذجاً

يقول علم النفس إنَّ موضوع الإدمان ومهما كان نوعه، عليه أن يتطابق مع البنية الذهنية للفرد وإلاَّ لما كان سيدخل الفرد بظاهرة الإدمان ويمارس طقوسها.

هذا تماماً ما أكدته النظريات النفسية وأثبته علم الأعصاب، أي أن موضوع الإدمان لا ينحصر فحسب في المواد العضوية (المخدّرات والكحول والتبغ…) بل ينطبق أيضاً على السلوكيات الفردية والاجتماعية كالكذب والإيمان والتعصب الأعمى لأية ايديولوجية متحجّرة كانت أو لا.

 بهذا المعنى، الإدمان السلوكي على الفساد والطائفية يختلف عن الإدمان المتعارف عليه فقط من ناحية أن المخدر في هذه الحالة يتم ضخه من داخل الدماغ ولا يأتي من خارج الجسد. ومن هنا يمكننا القول إنَّ الفساد والطائفية يندرجان بقائمة الإدمان الذي من شأنه افراز هرمونات داخلية في الذهن تفعل فعلها كما أي مخدر خارجي، وبالتالي يشعر الفاسد والطائفي بالنشوة بمجرد القيام بأي سلوك يتناسب مع موضوع ادمانه يأتي عليه بنتيجة إيجابية تشعره بالنشوة فيتحول سلوكه المتكرر إلى طقس خاص بموضوع الإدمان. الانهيار الذي نعيشه اليوم ليس سوى بلوغ هذا الإدمان مرحلة الزلزلة غير القابلة للضبط بفعل الإرادة الذاتية.

انطلاقاً مما سبق، لا بدَّ أن يكون العلاج الشافي للفساد والطائفية قائم على بعد نفسي واجتماعي سلوكي وعلائقي كما معرفي وقانوني. وكل هذه الأبعاد لم تدرج بعد بشكل جدي في معركة محاربة الفساد والطائفية.

يمكننا الجزم أن الفاسدين لن يقدموا من تلقاء أنفسهم للعلاج النفسي، وكما تبين حتى حينه أن النبذ الاجتماعي للفساد لم يبلغ مستوى حذفه من القيم والأخلاق الاجتماعية سوى لفظياً، لأن الإدمان هنا أصبح ظاهرة اجتماعية ليس من السهل الإقرار بها كونها ترسخت في العقلية الأخلاقية العامة للمجتمع، كما أنه ليس من المناسب علاجها بشكل موضعي وفردي. أما على المستوى المعرفي فقد تأصّلت آليات الفساد في الخريطة المعرفية للأجيال منذ أكثر من جيلين وبالتالي اصبحت آلية ميكانيكية تنتشر بالعدوى الاجتماعية ومن خلال التربية.

 فكيف يمكن للمدمن على الفساد، والحال على هذا النحو، أن يضع ويقرّ قوانين تمنعه من ممارسة ادمانه؟

وعلى ذلك، يمكننا استنتاج أن كل وسائل العلاج غير متوفرة لأن السلطة العليا الفارضة والضاغطة للعلاج غير موجودة أصلاً. وإن وجدت بحدود معينة فهي تتمثل بالدول الخارجية التي ليس من مصلحتها أن يشفى مجتمعنا من الفساد ولا من الطائفية، أي تماماً كتاجر المخدرات الذي لا يناسبه خسارة أحد زبائنه.

وبما أن الإيمان المقلوب المتمثل بالطائفية في بلادنا والفساد قد اجتمعا كموضوعين مركبين لنمط ادمان موحد يبرر كل منهما الشق الآخر، ويدخلان في جدلية مغلقة لا نفاذ منها وتبرر نفسها بنفسها، يكون من الصعب جداً أو من شبه المستحيل على المدمن الفاسد والطائفي أن يشفى من تلقاء نفسه. وبالتالي أية آلية سياسية تشاركية مع المدمنين لا تجدي نفعاً مهما كانت تسميتها، توافقية، أو انتخابية، أو تنظيمية، أو اصلاحية طالما لم تنشأ من سلطة أعلى منها وموثوق بأدواتها وقدرتها على تقديم العلاج.

كما أنَّ الاعتقاد بأنَّ المدمن على الطائفية والفساد سيتوب من تلقاء نفسه هو اعتقاد بمثابة وهم لأن موضوع الإدمان في هذه الحالة لا يعود على المدمن نفسه بأضرار سلبية مباشرة صحية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية. إلاَّ أنَّ هذا الإدمان السلوكي المشعب ينخر في جسد المجتمع ويعطل تقدمه ويجعله يدور في دوامة التخلف. وهذا ما يفسر حاجة بلد كلبنان مثلاً إلى وصاية خارجية دائمة تنظم طقوس ادمانه ولا تعالجه.

من هذا المنظور، يمكن القول إنّ كل المساعدات الخارجية الاقتصادية ليست سوى جرعة مجانية للمدمنين، وأن كل الجمعيات الأجنبية والعالمية تعمل على تقديم دعم اجتماعي موضعي لا هدف علاجي له، وإنما للمحافظة على حياة المدمن.

لا شكَّ أن العلاج الأسلم، يتمثل في قدرة غير المدمنين – اللاطائفيين وغير الفاسدين – على تجفيف طرق الإدمان ومنابعه الداخليّة والخارجيّة، وإعادة تأهيل المدمن ليتمكن من رفض مخدر الطائفيّة والفساد وتنقية نظام القيم الاجتماعيّة من هذا المخدّر.

بذلك تكون الثورة.

كارلو جوليان

كاتب وفنان تشكيلي من لبنان

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق