من يدخل إلى مدينة زنوبيا، تدمر (بالميرا)، التي أقيمت قبل ما يزيد عن 25 قرناً، سيكون مضطراً لقراءة العبارة المنحوتة تحت قوس البوابة الرئيسة للمدينة والتي تقول: لا تشتم إلها لا تعبده، ومن الراجح أنَّ كاتب هذه العبارة كان في ذهنه أن يضيف: فإن غيرك يعبده.
العبارة هذه، لا بدَّ أنها تمثل إلزاماً لمن يدخل المدينة العظيمة على أن يتقبل التعددية، وألاَّ يرفض الآخر. وفي السياق ذاته، نقرأ تعليمات وتوجيهات الإمام علي لأحد ولاته على شمال العراق، حيث تتعدد الأديان والمذاهب: واعلم أن الناس صنفان، أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. وفي آيات الكتاب: إنَّ الدين عند الله الإسلام، والإسلام هنا وفق مدرسة العقل، هو التسلّيم للرب الواحد الأحد.
الداعي لذكر ما تقدم، هو ما جرى في فرنسا مؤخراً من إساءة لنبي الإسلام، الذي يؤمن برسالته ما يزيد عن مليار ونصف المليار مؤمن، يحبونه ويجلونه. وهو بكل المعايير أمر مرفوض ومدان، لما فيه من نفي للآخر ومن تجبّر وعدوان على معتقدات قد لا يؤمن بها رسّام الكاريكاتير الفرنسي ومعه آخرون، فيما غيرهم يؤمن بها، ولا يملك هو أو غيره الاستخفاف أو الاحتقار أو التهكم على ما لا يؤمنون به، وهو نتاج فلسفات التفوق والعنصرية. واستطراداً فإن ما حصل من ردود فعل في فرنسا طالت قطع الرؤوس وقتل الآمنين، هو أيضاً مدان وهو نتاج مقابل للفكر الإقصائي التكفيري الداعشي الذي طالما أزهق أرواحاً وسفك دماء وأحرق أحياء واحتّز رؤوس مسلمين، وبعضهم وهم رُكّع ُسجّد في بيوت الله. فهم وفق عدوانية فكراً، مخالفون لما يحتكره من حقيقة، وخارجون عن الملة المحمدية.
تداعت آثار هذه الأحداث عجائب (وستتداعى)، أدهشت العقل وطرحت أسئلة بعضها لا يمكن أن يجيب عليها الإنسان الحائر؟
من هذه العجائب أنَّ فرنسا وغيرها من رعاة الإرهاب في الغرب، قد أصاب عقلهم وإدراكهم القصور، عندما دعموا الإرهاب في سوريا والعراق واستثمروا بالفوضى في ليبيا. لم يدرك هؤلاء من مدّعي التفوق والمعرفة أنَّ هذا الإرهاب لا بدَّ وأن يرتد عليهم حكماً، وأنهم سيكتوون بناره. ثم أن الرئيس الفرنسي وريث قيم الثورة الفرنسية وشعاراتها الثلاثة: حرية، إخاء، مساواة، يرى في الاعتداء على مشاعر الآخرين حرية تعبيرٍ منسجمة مع شعارات ثورته الفرنسية، ولكنه يستشيط غضباً عندما وضع الرئيس البرازيلي صورة السيدة ماكرون – زوجته، إلى جانب صورة القرد الشهير في فيلم ايبس، حيث لاحظ تشابهاً شديداً بينها وبين ذلك القرد، فاتهمه بالوقاحة ولم يعطه الحق في التعبير عن رأيه في الشبه بين الصورتين؟
ماكرون وغيره من رجالات الغرب، مثال دائم التكرار في اتباع المعايير المزدوجة، فالحرية هي حريتهم، لا حرية الشعوب المقهورة بفعل تسلطهم وتعاليهم، والإخاء هو إخاء البيض الغربيين، والمساواة هي كما ورد في رواية جورج ارويل، مزرعة الحيوان، حيث يقول على لسان أحد حيواناته إنَّ الجميع متساوون ولكن بعضاً منهم متساوون أكثر. إنّها فلسفة البيان الآري وارنست رينان، الفيلسوف الذي تتباهي به فرنسا وتطلق اسمه على المدارس والشوارع. رينان هذا هو من وضع سلم ترتيب الأعراق قبل هتلر بكثير، وجعل من العرق الآري الأوروبي عرق الأسياد، ورأى أنّ الإسلام هو دين احتقار العلم والمعرفة وبأنه نتاج للعقل الشرقي السامي الذي تقلصت خلاياه الدماغية، فأصبح فاقداً للعاطفة وعاجزاً عن رؤية الجمال والاستمتاع به.
ماكرون العلماني في فرنسا، يريد تعميق المحاصصة الطائفية في لبنان، ويدعم تغوّل طائفة بعينها على باقي الطوائف، ويجعل لنفسه الحق في إعادة تطوير النظام الذي صنعه مواطنه الجنرال غورو قبل قرن مضى، لما هو في غير صالح لبنان.
ومن العجائب، في الضفة المقابلة، الغضب المبالغ فيه في بلادنا وعبر العالم. يذكرني هذا الغضب بقصة الكاتب المغمور، حينها، سلمان رشدي صاحب كتاب آيات شيطانية، فقد صدر الكتاب ولم يلتفت إليه أحد، وتكدست نسخ الكتاب على رفوف المكتبات لا تجد من يشتريها. بعد حين من الزمن، وقع الكتاب بين يدي قارئ عربي فكتب عنه مقالاً، مما أشعل النار في هشيم الحماسة والغيرة على الدين والرسول فصدرت فتاوى بقتله، وأعلن عن جوائز سخية لمن يقتله، والنتيجة أن بيعت كل نسخ الكتاب المهملة وأعيد طبعها مرات ومرات، وأصبح رشدي نجماً اجتماعياً وثقافياً.
في الواقع بالغ البؤس الذي نحياه اليوم، حيث لا زالت دمشق تخوض حرباً كلما خبت نارها، زودتها الشياطين بالزيت والكاز، ويتعرض العراق لخطر التقسيم ويقف على شفير أزمات دموية، وتنهار الليرة اللبنانية ويتهدد الفقر اللبنانيين، فيما يلّوح أمراء الحرب علانية بإشعال الفتنة من جديد، ويعاني الأردن من تبعات سلام أفقره وأضعف وحدته الداخلية.
أمّا فلسطين، فتعصف بها مشاريع ترامب – نتنياهو (صفقة القرن)، وضم ما يقارب ثلث الضفة الغربية. الاستيطان يلتهم أرضها وقدسها تتهود بالإهمال من أولي الأمر، وتصبح قضايا عودة اللاجئين من الماضي. يقبع آلاف الفلسطينيين أسرى في سجون الاحتلال ويضرب بعضهم عن الطعام وهو على حافة الموت.
تتسارع خطوات التطبيع ويعلن ترامب عن خمس دول عربية ستلتحق بقطار التطبيع سريعا وهي المغرب وقطر وعمان والسعودية ونيجيريا التي افترضها ترامب دولة عربية؟
يعيش المواطن الفلسطيني أزمات في سائر جوانب حياته. أفق سياسي مسدود ووضع اقتصادي بائس. انعكاسات اجتماعية لما تقدم تكاملت مع المشروع الأمريكي في بناء فلسطيني جديد. المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين يمتهن كل يوم تحت أقدام الشرطة الإسرائيلية حيث يدخله ضباط وضابطات بأحذيتهم وسجائرهم ويدوسون على محرابه وسجّاده.
كل ما تقدم بدا وكأنه أمر ثانوي أمام قصة الكاريكاتير الفرنسي، أليس ذلك عجيباً؟
في يقيني أن أفضل طريقة للدفاع عن الإسلام والنبي، هي بالالتزام بتعاليمه وأخلاقه. كان الحكم بن العاص وابنه مروان وابن أبي سرح قد قالوا في النبي أقوالاً قبيحة تفوق بقبحها رسوم الكاريكاتير الفرنسية. وعند فتح مكة جرى اعتقالهم واقتيادهم لسماع حكم النبي المنتصر، والجميع يتوقع من الرسول التنكيل بهم أو إعدامهم، ولكنه عفا عنهم بقولة: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ألا تستحق كل الأحداث الجسام -التي تعصف بنا – ثورة تفوق ثورتنا على الرسوم الكاريكاتيرية الفرنسية ؟
لقد تم وضع غمامة على اعيننا لتصبح الرؤية لدينا مشوشة ، فلا نرى الا ما يريدونا ان نراه، و لا زلنا نتبعهم و نسير في الطريق الذي يرسموه لنا
نتمنى الا يطول انتظارنا لنبدأ ثورة على كل الاحباطات التي تحيط بنا
بداية اريد ان اشكر الاستاذ سلوم على وجود اشخاص مثل الاستاذ سعادة الذي يفتح عيوننا بتحاليله السياسية والتاريخية على قضايا في غاية الاهمية بعيدة عن الطائفية والعنصرية
ما يدهشني ان التطبيع لم يحدث اية ضجة ولم نسمع اية عملية انتحارية ولا حتى تصريح استنكار وصورة كاريكاتورية في بلد علماني احدثت ضجة عالمية حتى الذبح لاناس ابرياء
يا عالم صورة الرسول عليه السلام لن تتزعزع في نظر الله وفي نظر المومنين لذلك لا تنجروا وراء التعصب الاعمى فالمسيحيون يتعرضون من نفس المجلة للكثير من الاهانات ولكنهم لم ينتقموا بالذبيح والقتل لان مقام هؤلاء القديسين لن يتغير عند الله نتيجة هذا الكاريكاتور
شكرا للاستاذ سعادة ونحن من متابعيك