العالم الآن

التعددية والهويّة “العليا”

ما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى وجدت أوروبا نفسها في خضم حرب باردة بين طرفين منتصرين: منظومة الاشتراكية السوفياتية شرقاً، والمعسكر الرأسمالي الليبرالي غرباً وعبر المحيط الأطلسي. هما مدرستان فكريتان متناقضتان، لكن جمعتهما حينذاك كيفية التعامل مع معضلة الهوية والانتماء. ذلك أن الحربين العالميتين، اللتين لم يفصل بينهما سوى ربع قرن تقريباً، تمتد جذورهما في النزعات القومية العنصرية التي سادت الفكر الأوروبي الاستعماري خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكانت أوروبا قد أدركت، في أعقاب الدمار الذي لحق بها أثناء الحرب، أن عليها إيجاد حلول “خلاقة” كي تجنّب القارة العجوز حرباً أخرى كارثية في المستقبل.

ارتبط مفهوم القومية، وبالتالي مفهوم الهوية، عند غالبية المفكرين الأوروبيين بالأصل العرقي. أي أنها كانت في منطلقها قومية عنصرية معادية للقوميات العنصرية الأخرى في أوروبا وفي العالم أيضاً. وقد تم الترويج لهذه النزعات العنصرية “المتفوقة” كأداة دعم لسياسات التوسع الاستعماري. وكان حتمياً أن تصطدم “القوميات” الأوروبية وهي تتنافس للسيطرة على العالم واستغلال الموارد الأولية واستعباد الشعوب “غير البيضاء” في أفريقيا وآسيا والقارة الأميركية. ولم تكن الحربان العالميتان، إلى حد بعيد، إلا حاصل بلوغ صراع المصالح الاستعمارية درجة الحرب المباشرة. وكما أشرنا في الفقرة السابقة، فإن أوروبا لم تعد قادرة على تحمل استمرار عوامل الاحتكاك بين “القوميات العنصرية”، الأمر الذي قد يأخذ العالم كله إلى حرب عالمية تبيد الجنس البشري في ظل انتشار أسلحة الدمار الشامل بين عدد متزايد من الدول.

المخرج العملي الذي تفتقت عنه النظريات السياسية ـ الاجتماعية في أوروبا تمثل في إيجاد “هوية عليا”. والمقصود بذلك هوية ما بعد قومية. أي أن تعددية الهويات الأوروبية القومية (العنصرية) تتحرك تحت سقف هوية واحدة جامعة، لكن من دون أن تلغي الانتماءات المحلية والمزايا الوطنية. والملفت للنظر خلال المرحلة المبكرة من هذا المشروع، أن الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية ركزتا على تعزيز الناحية العسكرية من “الهوية العليا”: حلف وارسو في مقابل حلف شمال الأطلسي (ناتو). وفي حين اعتمدت الكتلة الاشتراكية على النموذج السوفياتي لصياغة ما بعد القومية، كان المعسكر الرأسمالي يخطط لمستقبله عن طريق السوق الأوروبية المشتركة، ومن ثم الاتحاد الأوروبي.

إن فشل النموذج الاشتراكي، وصولاً إلى تفكك الاتحاد السوفياتي وخروج “القوميات المحلية” على “الهوية العليا” التي سعت إليها موسكو، يحتاج إلى دراسة خاصة. لكن نجاح النموذج الرأسمالي الليبرالي في الحرب الباردة يمكن أن يساعدنا على تبيان مدى ترسخ “الهوية العليا” لدى مواطني الاتحاد الأوروبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن توسع العضوية الأوروبية والأطلسية لتستوعب عدداً من الجمهوريات السوفياتية السابقة هو دليل إضافي على أن “الهوية العليا” الروسية المفروضة على دول المعسكر الاشتراكي فشلت فشلاً ذريعاً على مستوى العلاقة بين القوميات، بغض النظر عن التقارب أو التباعد في أنظمتها السياسية والإيديولوجية.

تعاملت دول الاتحاد الأوروبي مع إشكالات الانتماء والهوية على مستويين: داخلي في كل دولة على حدا، وأوروبي شامل (أي بين الدول الأعضاء، بين ـ أوروبي).

المستوى الداخلي:

لا توجد دولة داخل الاتحاد الأوروبي إلا وتتضمن أقليات عرقية أو دينية أو لغوية. بل يندر أن نجد في العالم كله كياناً سياسياً “نقي عرقياً” مائة في المائة. وطريقة التعامل مع الأقليات في كل دولة أوروبية تختلف حسب الظروف الذاتية لكل منها. وهي تتراوح بين تشجيع التنوع الثقافي، وصولاً إلى إنشاء الإدارات الذاتية في المناطق التي تكثر فيها الأقليات. وفي جميع الأحوال، يتم وضع ضوابط لضمان وحدة المجتمع وحماية السلم الأهلي. ويكون ذلك بأن تنشط التعددية تحت سقف الهوية القومية، ولا يُسمح لها على الإطلاق بأن تخرق سقف الهوية التي هي ـ في المحصلة النهائية ـ هوية قومية. وبكلام مختصر وواضح: هناك هوية قومية تستوعب الهويات المتفرقة… وفي حال بروز تناقض بين المفهومين، فالأولوية هي للهوية القومية، حكماً.

المستوى الأوروبي الشامل:

ذكرنا في الفقرات السابقة أن أوروبا استدركت أمورها بعد الحربين العالميتين الكارثيتين، فصراع القوميات العنصرية شكل دوماً فتيل تفجير للقارة كلها. وحيث أنه من الصعب إلغاء الهوية القومية لكل شعب، فقد نشأت هوية عليا تربط الجميع بمعزل عن هوياتهم الذاتية. وهكذا قام الاتحاد الأوروبي، تدعمه منظمة عسكرية هي حلف “ناتو”. وبهذه الطريقة تحولت 28 دولة (أصبحت 27 بعد خروج بريطانيا من الاتحاد) إلى دولة واحدة بأقليات متعددة، لكنها تحت سقف هوية عليا هي الهوية الأوروبية. ويبدو لنا، إذا استثنينا النموذج البريطاني لاعتبارات خاصة به، فإن الاتحاد الأوروبي نجح في حفظ السلم الأهلي بين قومياته المتنوعة… على الأقل حتى الآن!

وقد يعترض بعضهم بأن حروب البلقان مطلع تسعينات القرن الماضي تعطي صورة مناقضة لما نقوله. والجواب هو أن ما حدث في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو وصربيا يؤكد وجهة النظر أعلاه. فقد كانت يوغوسلافيا “هوية عليا” لعدد من القوميات العرقية والدينية، لكنها فشلت. وعند ذلك تشظت الدولة إلى مكوناتها الأولية غير المتجانسة. والواقع أن حروب البلقان تثبت النظرية المذكورة، إذ ما كانت المجموعة الأوروبية لتحقق “السلام” بين “مقاطعات” يوغوسلافيا السابقة، لولا أن الاتحاد الأوروبي “أغرى” الجماعات المتحاربة بهوية أوروبية عليا تتجاوز هوياتهم مع كل ما تحمله من إرث تاريخي دموي.

وإذا وجّهنا أنظارنا إلى الأمة السورية وعالمها العربي، سنجد أن معضلة الهوية والانتماء تتخذ أبعاداً مصيرية تكاد تقضي على ما تبقى من عناصر الحياة فيها. ومع أن أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، وضع منظومة فكرية متكاملة في معالجة مسألة الهوية القومية والوعي القومي منذ أكثر من تسعين عاماً، فقد فشلنا في أيصال الرسالة إلى العالم العربي الذي تتحمل نخبه أيضاً خطيئة عدم التفاعل مع هذه النظرية، وظلت أممه متشبثة بالانتماءات “الدنيا” كالعرقية والطائفية والدينية والكيانية. ويفرض علينا هذا الواقع المزري أن نستعيد الأسئلة الوجودية التي سبق لسعاده أن طرحها (وأجاب عليها): من نحن؟ ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ هل نحن أمة حية؟ وغيرها…

لسنا هنا في معرض المقارنة بين الأفكار المتداولة في الغرب الأوروبي، وبين ما قدمه سعاده لعلم الاجتماع المعاصر خصوصاً في كتابه “نشوء الأمم” (سنة 1937). بل يتوجب علينا أن نأخذ في الاعتبار الفارق الحضاري بين دول أوروبية حققت وحداتها القومية منذ مطلع القرن التاسع عشر وانتقلت إلى العصر الصناعي المتقدم، وبين أمة سورية فقدت سيادتها على مدى قرون، وما كادت تنفض عن كاهلها أدران 400 سنة من السيطرة العثمانية حتى وقعت تحت نير الهيمنة الأوروبية (فرنسا وبريطانيا بموجب اتفاق سايكس ـ بيكو)… فكان الاحتكاك مع دول متطورة علمياً ومتوحشة استعمارياً!!

نبدأ بمفهوم “الهوية العليا” كما يُروَّج له في بعض الدوائر الأوروبية الفاعلة. طبعاً سعاده لم يستخدم هذه المفردات، لكن في حوار جرى على هامش محاضرة ألقتها الدكتورة حياة حويك عطية قبل مدة، طرحنا احتمال بأن ما كتبه سعاده في شرح غاية الحزب من “السعي لإنشاء جبهة عربية” يمكن أن نصنفه في خانة “الهوية العليا” للأمم العربية الأربع مجتمعة: الجزيرة، سورية، وادي النيل، والمغرب. واعتقد بأن الفكرة ممكنة لأن صيغة “العروبة الواقعية” التي نادى بها سعاده قد تشكل “هوية عليا” من دون أن تلغي الهويات القومية لكل أمة من أمم العالم العربي. ولنا في تجربة الاتحاد الأوروبي نموذج ناجح لآليات تنفيذ العمل “الجبهوي”.

تركيز سعاده الكلي كان على الأمة السورية التي وجدها فاقدة الهوية ومُغيبة الإرادة. وقد أدرك منذ بواكير وعيه “الوطني” خلال مآسي الحرب العالمية الأولى أن انتماءات السوريين الطائفية والدينية والعرقية واللغوية تقف حجر عثرة في طريق الوعي القومي الحقيقي، أي أنها تمنع نشوء “هوية قومية جامعة”. ومن هذا المنطلق، أعلن رفضه الحاسم للهويات القائمة على العرق أو الدين، واعتبر أن شخصية أي مجتمع هي نتاج التفاعل: التفاعل الأفقي بين الجماعات البشرية بغض النظر عن خلفياتها العرقية أو الدينية. والتفاعل العامودي بين تلك الجماعات (المتجانسة) وبين البيئة الطبيعية بوصفها مسرحاً للنشاط الإنساني. وهو يقول بهذا الصدد: “فالبيئة كانت ولا تزال تحدد الجماعة”.(“نشوء الأمم”، الأعمال الكاملة ـ المجلد الثالث، صفحة 31) فالهوية بالنسبة إلى الفكر القومي الاجتماعي هي محصلة التجانس بين الديموغرافيا والجغرافيا… ولا دور فاعلاً للخلفيات العرقية ولا للأصول السلالية.

* في القسم التالي سنعرض البديل القومي الاجتماعي لمعضلات الهوية في بلادنا، وفي العالم.       

أحمد أصفهاني

باحث وكاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق