العالم الآن

الحرب على الوعي

المسكوت عنه في دراسات التحديث والدمقرطة

كثيراً ما قرأت من باب الثقافة العامة عن دراسات التحديث والتنمية والدمقرطة، وخصوصاً مشروع دانيال ليرنر لتحديث الشرق الأوسط، ولكنني لم أكتشف، من باب التخصص، المسكوت عنه في هذا المجال (على يد البروفيسور ماتلار) إلا في العام 2003، في جامعة باريس الثانية حيث كنت أعدّ الدكتوراه.

القطبة المخفية الصغيرة هي أن هذه الدراسة المعنونة “احتضار المجتمعات التقليدية – تحديث الشرق الأوسط”، وما تفرع عنها من توظيف نظريات التنمية ونظرية التقمص الوجداني الأرسطية، إنما جاء تنفيذاً لتكليف رسمي من وزارة الخارجية الأميركية، عنوانه “كيفية إلحاق الشرق الأوسط بالمعسكر الأميركي خلال مرحلة الحرب الباردة”.

خلال الحرب العالمية الثانية، كان في الولايات المتحدة ما سمي “وكالات إعلام الحرب” التي تقوم بعملها داخلياً، وخصوصاً في صفوف الجيش، وخارجياً، في ما يشكل استمراراً لقسم دراسات الحرب الذي أسسه هارولد لازويل في الحرب الأولى وبعدها.

بعد انتهاء الحرب، حلّت هذه الوكالات، وأُعطي علماؤها وباحثوها إجازة للاستراحة، تم خلالها إعادة تشكيلها في العام 1948 في وكالات جديدة، منها وكالة المخابرات المركزية المعروفة بـ”CIA”، ووكالة البث الإذاعي الدولي “RDI” التي كان يرأسها دانيال ليرنر. وكان أول ما كلّفت به الأخيرة هو إعداد دراسات حول كيفية إلحاق المناطق التي لم يحسم أمرها في اتفاقية “يالطا” بالمعسكر الأميركي، وعلى رأس هذه المناطق منطقة الشرق الأوسط.

جاء ليرنر إلى المنطقة، ووظف معه 1600 باحث ميداني لجمع ما أراده من معلومات يدرسها محللّوه ويؤسس عليها لخطته (وذلك تحت ستار دراسة تلقي إذاعة صوت أميركا). وهكذا، انتهى في العام 1958 التقرير المطول (460 صفحة) الذي حمل عنوان “The passing of the traditional society – modernizing the Middle East”، مركزاً على رؤية معينة للتحديث والتنمية، وعلى دور خاص للإعلام في هذا المجال، وخصوصاً في توظيف نظرية التقمص الوجداني (وذاك ما بنى عليه مارتن ليبست نظريته حول التنمية.)

في التطبيق، كان من طبيعة التجريبية – البراغماتية الأميركية النشطة أن تذهب إلى دراسة نتائج هذه الخطة على الأرض. وكلما وجدت قصوراً كانت تعيد النظر في بنود ورؤى، وتطور واحدة، وتعدل أخرى، وتبطل ثالثة، وتبتكر الكثير من الجديد، يعينها في ذلك عشرات الآلاف من مراكز الأبحاث الأميركية والأطلسية التي توظف لحسابها آلاف المراكز المحلية في كل مكان من العالم (ما يفسر ظاهرة تشجيع الدراسات الكمية وتسويقها، من دون إلحاقها بالدراسات النوعية التحليلية – التنظيرية، ومن دون أن يعرف معدّوها في أية قطعة من “البازل” (puzzle) الكبيرة يقع عملهم.)

وإذا كانت نهاية الأربعينيات شكلت بداية مرحلة جديدة، تجلت عندنا بقيام “إسرائيل” وحركات ثورية في العالم العربي شكلت في حينها وجهاً آخر من وجوه التحديث في مواجهة الأميركي، فإن بداية التسعينيات شكلت بدورها بداية مرحلة جديدة تجلت عندنا بضرب العراق، ومن ثم تداعي معاهدات السلام الإسرائيليّ، لتبدأ مذاك عملية منظمة كاسحة للقضاء على ما تبقى من الدول العربية التي تقع خارج التبعية الأميركية الكاملة، وخارج الإلحاق الكلي (ليس بالأميركي فحسب، بل وبالإسرائيلي)، وذلك من جديد تحت شعار الدمقرطة والتحديث، مستفيدة في ذلك من عوامل كثيرة، وفي مقدمتها قصور الأنظمة العربية المستهدفة في هذه المجالات.

وقد تكلّلت هذه المرحلة بما سمي “الربيع العربي”، الذي هدف إلى تحطيم الدولة (بكل ما تعنيه الدولة) أكثر مما هدف إلى تغيير الأنظمة.

ذلك ما كان قد توقعه منذ العام 2003 عدد من المفكرين والباحثين العرب، ومنهم الدكتور جورج قرم (وعالجته بدوري بالمقارنة بين ليرنر وما جاء بعده في رسالتي في العام 2004، ومن ثم في العام 2010، ومن ثم في كتابي “جيوبوليتيك وخطاب الفضائيات العربي” في العام 2012، وكله تحت عنوان: الالتفاف على سيرورة التغيير)، إذ كان هذا التغير حتمية قادمة – بحسب الكثيرين من علماء الاجتماع – ولذلك، كان لا بد من تلقفه كي يحوّر في مجرى آخر، غير أن صراع الأحادية الأميركية لأجل البقاء الذي أعلن فلاديمير بوتين بدايته في العام 2007، حسم في العام 2017 بالعودة إلى التعددية القطبية، وقد تم حسمه بتحول مجرى الحرب في سوريا، وكأن قدر هذه المنطقة أن تكون ساحة المنعطفات التاريخية الكبرى.

في العام 2017، كتب برهان غليون مقالاً في صحيفة “العربي الجديد” القطرية بعنوان “هل انتهت الثورة؟”، أعلن فيه قيام مرحلة جديدة، داعياً إلى أسلوب جديد يستهدف بشكل خاص الشباب: “جيل الشباب الجديد الذي لم تعد له علاقة بثقافة الماضي ولا بأوهامه ولا بمخاوفه”، وكأنه يعود إلى ليرنر وعنوان “التحديث” والقطيعة، رغم أن ليرنر تجاوزه الزمن (وقد عالجت ذلك في توقعي للمرحلة الجديدة من الحرب في بحثي: حروب الإعلام وأعلام الحرب على سوريا.)

بعد 3 سنوات، نجد كتاباً جديداً لعزمي بشارة (مدير مركز دراسات قطري) حول الدمقرطة، يعود بدوره (في ما يعود)، وبشكل أساسي، إلى دانيال ليرنر والتحديث، ويورد فيه الكثير مما ورد في مئات الدراسات في نقد ليرنر ومارتن ليبست (لكون عشرات الدراسات والتطبيقات – بما فيها الأميركية – تجاوزت ليرنر منذ السبعينيات)، وبصرف النظر عن مدى احترام الأمانة العلمية في هذا العمل، فإن ما يهم أكثر هو ما يخلص إليه الكتاب، وكأن جميع هذه الاستعراضات والمناقشات المطولة التي لم تأتِ بجديد استعملت لتبرير الخلاصة؛ خلاصة يحاول صاحبها أن يسميها “التأسيس النظري لبعض قواعد الانتقال الديموقراطي عربياً”، إذ يرى أنّ القضية تكمن أولاً في دور الجيش، ثم ثقافة النخب السياسية، ومخاطر العفوية، ومخاطر انجرار قادة المعارضة إلى الشعبوية في مرحلة الانتقال ومسؤولياتها الجسيمة، وأهمية وحدة قوى التغيير في مرحلة الشرعية الثورية، ومخاطر الحكم بأغلبية ضئيلة في مرحلة الانتقال.

باختصار بسيط، هي دعوة إلى استهداف الجيوش؛ ما تبقى من جيوش. وإذا كان ثمة من يقول إنها دعوة قديمة لم يغفل عنها أي صحافي، فإن الجديد فيها هنا أن هذا الاستهداف لا يحمل المعنى العسكري، بعد أن أثبتت التجربة السورية أنه معرض للفشل إذا كان الجيش المعني عقائدياً صلباً وموحداً، وذاك ما يقوله الكاتب: “لا يمكن تحقيق انتقال ديموقراطي إذا كان الجيش موحداً ضده أو إذا كان لدى الجيش طموح للحكم”. ما يستنتج منطقياً إذاً أن المطلوب للمرحلة المقبلة هو استهداف وعي الجيش وعقيدته ووحدته. ورغم أن عبارة “طموح للحكم” تؤشر إلى الجيش المصري، فإنَّ الجزء الأول يعني الجيش السوري.

وإذا كان البند الثاني في الخلاصة هو الدعوة إلى اتفاق قوى التغيير، والتزامها بإجراءات الديموقراطية، ورفعها فوق خلافاتها، فإنه يلتقي مع ما أشرنا إليه في ما كتبه غليون في صحيفة تابعة للمؤسسة القطرية ذاتها: “إعادة تشكيل التحالف الشعبي، وتعزيز أركانه الفكرية والسياسية والاجتماعية، وتحويله إلى قطب قوي تدور من حوله الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية”. أما البند الثالث، فهو دعوة إلى استهداف “وحدة جهاز الدولة البيروقراطي والقوى السياسية للنظام القديم”.

قد تبدو المعالجات للوهلة الأولى علمية موضوعية، وقد يكللها استعمال مصطلحات جاذبة، كالتغيير والديموقراطية والتعالي على الخلافات والتحالف الشعبي والشباب… وهو أسلوب اتبعته الاستراتيجية الأميركية منذ الحرب الباردة، وفعّله الخطاب الغربي منذ احتلال العراق، ووظفه أكثر خلال “الربيع العربي”، فهل من يعارض التحديث والديموقراطية؟ ألم تأتِ الجيوش لاحتلال العراق وتدميره لأجل الديموقراطية وحقوق الإنسان؟ لكن عندما تكون هذه العناوين الفرعية مدرجة كلها تحت عنوان رئيسي واحد، كان عنوان مهمة دانيال ليرنر: “كيفية إلحاق الشرق الأوسط بالمعسكر الأميركي”؟

والآن، إذا تهيأ الأميركي لمغادرة المنطقة، فبالمعسكر الإسرائيلي، فإن الأمر يتحول ببساطة إلى كلمة حق أريد بها باطل، إلى سم مغلف بالعسل.

ألم يكن من الأفضل لعزمي بشارة ألا يذكرنا بليرنر وخطته كي لا ينبهنا إلى عنوان الإلحاق؟ فمنذ 1958، لم يتبق من ليرنر الكثير، إذ إن الكثير من الباحثين ناقشوه، والأهم أن الأنتلجنسيا الأميركية تعيد قراءة جميع خططها، وتجري عليها التعديلات، تلغي وتنقد وتطور وتجدد وتبتكر وتوظف في ما يلبي حاجة كل مرحلة.

وبذلك، شهدنا الكثير من النظريات والخطط الجديدة، مستفيدة من نجاحات سابقاتها وقصورها، وكلها تصب في خدمة الإلحاق، لكن ما ظل ثابتاً هو مبررات التركيز على الشرق الأوسط التي وضعها ليرنر في مقدمة تقريره المذكور: الموقع الاستراتيجي – الثروات الطبيعية – وجود “إسرائيل” ونمو الحركات الثورية. هذا فقط لم يتغير.

كل ذلك يطرح أسئلة عامة كثيرة، منها

  • إذا كنا قد شهدنا منذ التسعينيات نمواً خطيراً لظاهرة مراكز الدراسات الاستراتيجية في العالم العربي، والتي بدأت بمراكز ممولة أجنبياً، وانتقلت إلى مرحلة التمويل الخليجي، وخصوصاً في قطر والإمارات، فهل مهمة هذه المراكز أن تقدم اقتراحات أو أن تنفذ وتسوق خططاً واستراتيجيات (عقود باطن)؟
  •  في الولايات المتحدة، هناك 11 ألف مركز دراسات معنيّ بالشرق الأوسط، تضاف إليها مراكز غربية أخرى ومراكز عربية ترفل بالمال الخليجي، فأين هي المراكز المقابلة التي تعمل بالجهد ذاته، والوعي بالمصلحة ذاتها، والقاعدة العلمية المعرفية ذاتها، والخبث ذاته؟
  • المتابع يجد أنّ معظم المؤسسات الأكاديمية الأميركية تعمل منذ بداية القرن العشرين في خدمة الأهداف الاستراتيجية الأميركية، والكثير مما نعرفه وندرسه وندرّسه من أبحاث تم بتكليف من البنتاغون أو الخارجية أو أجهزة الاستخبارات، فماذا تفعل المؤسسات الأكاديمية لدينا؟ وكم هي الأبحاث التي تتجاوز غاياتها الترقية الوظيفية، إن لم نقل تحصيل سفرة واستضافة؟
  • متى ننتقل في تدريس نظريات الاتصال (وغيرها) من بصم النظرية وتصنيمها إلى دراسة مرجعياتها الفكرية، وبالتالي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وسياقات نشوئها، وبالتالي وظيفيتها، كي لا يكون حس البسطاء أكثر وعياً من معرفة المتعلمين؟

إنها المرحلة التي تبلورت بامتياز: الحرب على الوعي

——————————————————–

 تنويه: يُنشر هذا المقال باتفاق خاص مع كاتبته السيدة حياة الحويك عطية. 

حياة الحويك عطية

كاتبة وباحثة ومتخصصة في الإعلام المرئي-المسموع والمكتوب، في المجالات الثقافي والسياسي والفكري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق