شهدت المملكة المتحدة خلال الأسابيع القليلة الماضية حدثين سياسيين مهمين، يعكسان جانباً من أزمة الديمقراطية في بريطانيا عموماً وفي العالم الغربي (أوروبا) على وجه التحديد. الحدث الأول حظي باهتمام دولي لأنه يتعلق برئاسة الحكومة البريطانية، بينما لم يلفت الحدث الثاني في مقاطعة أيرلندا الشمالية أنظار العالم على الرغم من خطورته على مستقبل المملكة المتحدة.
بعد استقالة بوريس جونسون من رئاسة الحكومة البريطانية في أيلول الماضي، أطلق حزب المحافظين الحاكم آلية انتخاب رئيس جديد للحزب ليكون رئيساً للحكومة. ترشح عدد من النواب، وكانت التصفية في المراحل الأولى تتم بتصويت النواب المحافظين إلى أن بقي في الميدان مرشحان هما ريشي سوناك وليز تراس. وعند هذا الحد جاء دور أعضاء الحزب الذين يتراوح عددهم ما بين 160 إلى 200 ألف منتسب. وقد استغرقت هذه العملية أكثر من شهر!
فازت تراس على سوناك بنسبة 57.4 % مقابل 42.6 %، أي بفارق 15 % تقريباً. وهي نسبة عالية تعكس توجهات القاعدة الشعبية لحزب المحافظين. لكن تراس لم تهنأ بمنصبها، إذ أجبرت على الاستقالة. وهذا يعني العودة إلى الآلية المعتادة لانتخاب رئيس للحزب ليكون بالتالي رئيساً للحكومة. إلا أن شيئاً غريباً حدث على هذا الصعيد. فقد قررت قيادة الحزب رفع السقف أمام المرشحين المحتملين، وجعلت الحد الأدنى لقبول الترشيح أن يحظى المرشح بدعم مائة نائب على الأقل.
نجح سوناك بسهولة في تأمين دعم أكثر من مائة نائب. وكانت منافسته بيني موردان تسعى إلى اكتساب المؤيدين، عندما رجع بوريس جونسون من إجازته على أمل العودة إلى رئاسة الحكومة. لكن لأسباب غير واضحة انسحب من السباق، فارتفعت حظوظ موردان بتأمين العدد اللازم… ما يعني الذهاب إلى القاعدة الحزبية مرّة أخرى لانتخاب الرئيس.
حتى هذه اللحظة، كانت الانتخابات تجري حسب اللعبة الديمقراطية التمثيلية. فالخيار النهائي سيكون لأعضاء الحزب، تماماً كما جرى مع ليز تراس وقبلها بوريس جونسون. غير أن قيادة الحزب شعرت بأن الاحتكام “الديمقراطي” إلى القاعدة الحزبية مجدداً لن يكون لصالح الحزب ولا لصالح الدولة… فإذ بالمرشحة الثانية موردان تنسحب في اللحظة الأخيرة، ليفوز سوناك بالتزكية من دون الحاجة إلى تصويت أعضاء الحزب!!
الدرس المُستفاد: مصلحة حزب المحافظين والمصلحة الوطنية العامة تستدعيان خطوات تتجاوز “الحق الديمقراطي” لأعضاء الحزب… فهل ما أقدمت عليه قيادة المحافظين يعتبر “ديمقراطية تعبيرية”؟
في هذه الأثناء كنا نتابع مجريات الحدث الثاني في مقاطعة إيرلندا الشمالية التي هي جزء من المملكة المتحدة. فالمقاطعة تتمتع بالإدارة الذاتية على أساس المشاركة بين الطائفتين المتناحرتين: البروتستانت الموالين للتاج البريطاني، والكاثوليك المطالبين بوحدة الجزيرة الإيرلندية. وقد توقفت الاضطرابات الدموية بموجب “اتفاقية الجمعة العظيمة” التي لحظت حق “الفيتو” لأي من الطائفتين!
في الانتخابات “الديمقراطية” الأخيرة، فاز “حزب شين فاين” (الكاثوليكي الجمهوري) للمرة الأولى في تاريخ المقاطعة بأكبر عدد من مقاعد البرلمان المحلي. في حين تراجع “الحزب الاتحادي الديمقراطي” (البروتستانتي الملكي) إلى المرتبة الثانية.
وحسب اللعبة الديمقراطية، كان من المفترض أن يؤلف “حزب شين فين” الحكومة المحلية. غير أن “الحزب الاتحادي الديمقراطي” استخدم حق الفيتو ليمنع تشكيل السلطة التنفيذية، مطالباً بتعديل بعض الاتفاقات التي عقدتها الحكومة المركزية في لندن مع الاتحاد الأوروبي، ولها تأثير على التوازن الطائفي الحساس في إيرلندا الشمالية. وطالما أن الفيتو يمنع تأليف حكومة محلية، فإن المؤسسات الحيوية كلها تواجه شللاً في نشاطاتها وخططها المستقبلية. وفي حال استمرار الوضع على حاله، ستتولى الحكومة المركزية إدارة المقاطعة، بحيث تفقد “اتفاقية الجمعة العظيمة” معناها. وعندها تصبح الديمقراطية شعاراً فضفاضاً لا “يمثل الشعب” ولا “يُعبّر عن مصالحه العامة”.
العَبرة: الديمقراطية (أو الديمقراطية التوافقية) ستفشل في مجتمع منقسم على نفسه، وسوف تسبب كارثة قومية في حال امتلاك أي طرف حق الفيتو. فهل يكمن الحل بـ”الديمقراطية التعبيرية”؟