تُستخدم مفردة أوراسيا في الجغرافيا أساساً للدلالة على مساحة عظمى من اليابسة تجمع قارتي آسيا وأوروبا معاً، تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى المحيط الهادي شرقاً، تغطي حوالي 54 مليون كلم٢. غير أن مفهوم أوراسيا استُخدم في روسيا وما زال في سياقات متعددة ومختلفة مستبطناً أبعاداً ومعاني حضارية وتصورات جيوبوليتكية وصياغات استراتيجية تندرج جميعها في ما دعي بالعقيدة الأوراسيّة التي يأخذ بالعديد من جوانبها الفريق الحاكم في موسكو اليوم. هذا وتنبثق العقيدة المذكورة من موضع الاتحاد الروسي الذي يغطي قسماً من أوروبا (غرب الأورال) وقسماً آخر من آسيا (سيبيريا)، كما تنبثق أيضاً من موقع هذا الاتحاد الجغرافي بين الغرب والشرق.
نشوء الحركة الأوراسيّة
بدأ التفكّر في ما ينتجه كل من موضع وموقع روسيا أو الاتحاد الروسي على الصعد الحضارية والسياسية منذ القرن التاسع عاشر، غير أن التيار الأوراسي لم يتبلور على شكل حركة سياسية ناشطة إلاَّ من الموقع المناوئ للحقبة السوفياتية، وذلك عندما أصدرت مجموعة من المثقفين والناشطين السياسيين من المهاجرين الروس بيانها التأسيسي من براغ في تشيكوسلوفاكيا عام 1921، وقد حرره أحد أبرز مفكري الحركة الأوراسيّة آنذاك، بيوتر نيكولايفيتش ستافيتسكي (1895- 1968).
كانت الحركة الأوراسيّة في ذلك الوقت متأثرة، إلى حد بعيد بالنازية الألمانية لا سيما لجهة التشدد القومي والمجال الحيوي المستتبع له، لكن ذلك لم يمنع بعض عناصرها من أن يشكل لاحقاً جناحاً مؤيداً للسوفيات، حيث كان هذا الجناح يرى في صعود دور موسكو على المسرح الدولي بعد الثورة البولشفية، تنامياً للروح القومية الروسية وتجلياتها، وإعلاء شأن روسيا في العالم. لكن الحركة بشكل عام، بقيت على خصومة مع الدولة السوفياتية، وهكذا عندما دخلت جيوش موسكو إلى براغ عام 1945 ألقت القبض على من كان هناك من الأوراسيين وفي مقدمهم ستافيتسكي نفسه الذي قضى في الاعتقال عشر سنوات، أفرج عنه بعد ذلك وعاد إلى براغ العام 1956 حتى وفاته.
تمحور البيان التأسيسي للحركة الأوراسيّة حول تصور جغرافي وسياسي يرى في روسيا تكويناً حضارياً مميزاً تحدده خاصية (التوسّط)، وهو مفهوم لطالما كتب فيه وركز عليه ستافيتسكي بعد أن حمّله دلالات تتجاوز التوسّط الجغرافي الساكن والجامد بين القارتين أوروبا وآسيا، إلى دلالات أخرى تعبّر عن ديناميكية التفاعل الأوروبي – الآسيوي على الأراضي الروسية في سياق تكوين البناء القومي الروسي، بحيث تغدو روسيا في الموقع المركزي الفاعل للقارة الأوراسية بالمعنى الجغرافي للكلمة، أي لقارتي أوروبا وآسيا معاً. وعليه يكون لمفهوم أوراسيا على ما أراد ستافيتسكي ورفاقه معنيين اثنين، واحد جغرافي عمومي يدل على القارتين معاً والثاني جيوبوليتيكي، خاص بروسيا (بما فيها سيبيريا)، يعبّر عن القومية الروسية في مجالها الحيوي، والحال إن اسم روسيا بحد ذاته كما كان يردد ستافيتسكي مكوّن من «رو» التي هي من أوروبا وسيا» من آسيا.
أما القومية الروسية التي على أساسها ينبغي أن تقام عليها الدولة الروسية، فهي تتشكل في العقيدة الأوراسيّة من تفاعل ثقافات متعددة، منها الآرية والسلافية من الجهة الأوروبية، والمغولية والطورانية الاسلامية، من الجهة الآسيوية، يضاف إلى مختلف هذه الثقافات ما ترسخ في العمق الروحي للشعب الروسي من التقاليد المسيحية الأورثوذوكسية ذات المنشأ الشرقي الآسيوي وبأبعادها اليونانية الأوروبية المكتسبة أيضاً. وهذا بمجموعه يشكل تكويناً حضارياً يتطابق مع التوسّط الجغرافي. حيث يساهم في هذا التكوين الشرق والغرب معاً.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه في أجواء تلك المرحلة، أي في العقود الأولى من القرن العشرين، كانت العنصرية بالمعنى السلالي ما تزال أمراً شائعاً، وكان أن راحت تنبني عليها قوميات عرقية، ومنها القومية الآرية التي اعتمدتها النازية في ألمانيا، والقومية السلافية المواجهة لها في روسيا كما في محيطها من أوروربا الشرقية.
لم يستسغ القائلون بالقومية الروسية المبنية على العنصر السلافي، العقيدة الاوراسيّة حيث شكل البعد الآسيوي الذي تستبطنه استفزازاً لتصورهم عن انتماء الأمة الروسية إلى السلالات السلافية المتموضعة في أوروبا الشرقية. في حين أن الاوراسيين كانوا يصرون على عدم تجاهل العنصر الآسيوي في النسيج الاجتماعي الروسي، اذ هم يجدون في تفاعله مع العنصر الأوروبي على امتداد الاراضي الروسية من الأطلسي حتى الهادي (مع سيبيريا في آسيا) ما يجعل الامة الروسية ذات خصائص مميزة عن غيرها من الامم ان لم يكن «متفوقاً» عليها.
في الأبعاد الجغرافية الثقافية والسياسية
يتمثل العنصر الآسيوي في العقيدة الأوراسيّة في بدو السهوب الآسيوية الصقيعية، وفي المغول والطورانيين الذين يشغلون الأراضي المرتفعة والباردة المجاورة لها. وقد التقت وتفاعلت قيمهم على أراضي الاتحاد الروسي مع القيم الأوروبية الحضرية، حيث غدا المجال الجغرافي الروسي المُعيش أي كما يعيشه سكانه،
ملتقى ثقافة «حياة السهوب» القائمة على البداوة والرعي من الجهة الآسيوية، وثقافة «حياة الغابات» القائمة على الأنشطة الحضرية والزراعة الاستنباتية من الجهة الأوروبية. على أن الحركة الأوراسيّة في تطلعها السياسي إلى السهوب الآسيوية لم تنطلق من فراغ ثقافي، فهي تبني عملية الانتماء إليها على ما تمثّله من قيم معنوية في الوجدان الروسي منذ زمن بعيد، وقد جرى التعبير عن هذه القيم في مجالات فنية متعددة ، لعل من أبرزها ما تبدّى في الموسيقى الروسية بشأنها، لا سيما لدى الكسندر بورودين عندما أقدم العام 1880 على تأليف رائعته الموسيقية، «سهوب آسيا الوسطى»، بناء على طلب القيصر الاسكندر الثاني، بمناسبة أعياد ذكرى تنصيبه الخامسة والعشرين (وهي قصيدة سمفونية أصابت شهرة واسعة، وقد وقع في سحر موسيقاها عندنا، عبدالوهاب فلم يمنع نفسه من أن يستل ما تيسر من نغماتها ليستخدمها في، قصيدة إيليا ابو ماضي، «لست ادري»، التي شدا بها في الأربعينات من القرن العشرين).
في مختلف الأحوال، تنتهي العقيدة الأوراسيّة إلى أن روسيا، في بعدها الآسيوي، تمثل شخصية جغرافية، «روحها» متميزة عن «الروح» الأوروبية، ومتميزة أيضاً عن «الروح» الآسيوية، فهي شخصية متكاملة، تشكّل أراضيها مركز تفاعل الأضداد والمختلفين (بداوة مقابل حضارة، رعي مقابل مدينة… أديان عالمية مختلفة) في كل واحد موحد، وهو تفاعل يجعل من هذا المركز بؤرة للتطور الروحي الانساني على وجه العموم، كما أن العنصر الثقافي الاسيوي فيها أكسبها مقومات استقلالها عبر التاريخ عن العالم الروماني الجرماني «العدواني» في نظر الأوراسيين.
إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه على رغم العداوة التي طبعت العلاقة بين الأوراسيّة والنظام السوفياتي التي أملاها التباعد العقائدي بين الشيوعية الأممية من جهة والقومية الروسية من جهة مقابلة، فإن الاتحاد السوفياتي بدّل موقفه من الأوراسيّة في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، فأعاد الاعتبار إلى بعض الناشطين فيها، لا سيما منهم ستافيتسكي الذي أطلق سراحه (لكنه عاد إلى براغ وبقي فيها حتى مماته).
ثم إن الأوراسيّة لقيت أصداء إيجابية في بعض مراكز القرار السوفياتي، ذلك أن تلك الحقبة شهدت تحول الصين إلى الشيوعية، حيث بات سكان أوروبا الشرقية ومعظم سكان آسيا يضمهم معسكر واحد هو عملياً معسكر أوراسي (أوروبي شرقي – آسيوي) كبير هو المعسكر الشرقي بقيادة موسكو في مواجهة معسكر أطلسي (اميركي أوروبي غربي) هو المعسكر الغربي بقيادة واشنطن. وهكذا بدت الفكرة الأوراسيّة القاضية بتوجه موسكو نحو شرقها الآسيوي، متلائمة مع مصالحها السياسية العامة وداعمة لها في الحرب الباردة الدائرة في حينه بين المعسكرين. غير أن الخلاف الذي دب فيما بعد بين الاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية، أنهى عملياً الأخذ بالفكرة المذكورة، إلى أن أعيد إحياءها مع مطلع القرن الواحد والعشرين بعد استتباب الأوضاع في الاتحاد الروسي، الذي قام على أنقاض النظام السوفياتي بعد انهياره بداية التسعينات من القرن العشرين.
كان من أبرز من ساهم في احياء العقيدة الأوراسيّة وتجديدها، ألكسندر دوغين الذي بدأ منذ العام 1992، بنشر دورية تُعنى بالشؤون السياسية وفق توجه قومي
روسي محافظ، ثم صدر له العام 1997 كتاب تحت عنوان «أسس الجيوبوليتيكا» شهد رواجاً واسعاً وترجم إلى عدة لغات من بينها العربية، وفيه يستكمل دعواته الايديولوجية إلى إعلاء شأن الاتحاد الروسي، وضرورة مواجهة العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة. إلى ذلك، عمل دوغين مستشاراً للدوما، البرلمان الروسي، من العام 1998 حتى العام 20003، ثم شغل منصب رئيس «مجلس خبراء الجيوبوليتيكا» وهو مجلس استشاري متخصص في شؤون الأمن القومي. ويتردد في وسائل الإعلام عموماً من وقت الى آخر، أنه مقرّب من الرئيس بوتين، ما جعله يصيب شهرة ملحوظة في بلاده كما في خارجها.
في الاستهدافات الأوراسيّة
ينطلق الاوراسييون راهناً في صياغة رؤيتهم للصراع الدولي من المبدأ الذي يرتكز على ثنائية البر والبحر، وهو مبدأ قديم، تنبني عليه معالجة الصراع بين القوى السياسية والعسكرية في العالم، باعتباره صراعاً يدور بين «التيللوروكراتيا» أي قوى البر من جهة و»التالاسوكراتيا» أي قوى البحر من جهة أخرى. الأولى تنبثق عن الشعوب البرية التي تنشط على اليابسة أكثر مما تنشط في البحار، الثانية أي التالاسوكراتيا هي التي تنبثق عن الشعوب التي تعلو لديها الأنشطة البحرية على الأنشطة البرية. (تللوس باليونانية تعني البر، وتالاسا تعني البحر).
والحال، إن استقراء التاريخ وفق هذه الرؤية، يقودنا إلى استنتاجات مفادها أن المواجهات التي شهدها الشرق القديم جرت بين القوى البحرية المتمثلة بالإمبراطوريات التجارية الفينيقية لمدن صيدا وصور … من جهة، والقوى البرية لإمبراطوريات الفراعنة والكلدان أو الآشوريين… من جهة اخرى، من دون أن يعني ذلك انتفاء الصراع بين قوى من نوع واحد، إي بحري – بحري أو بري – بري، غير أن مآل الصراع هذا، يذهب في نهاية الأمر إلى المواجهة الكبرى والحاسمة بين البر والبحر والسيطرة المتفردة على الكل البري والبحري معاً، وفي التاريخ الحديث كانت محاولة نابليون الاطباق على القارة الأوروبية من صلب عمله الدؤوب على تدعيم قوة برية متفوقة تمكّنه من سحق قوة بريطانيا البحرية … كما يندرج في سياق المواجهة بين البر والبحر على سبيل المثال لا الحصر، الصراع الذي دار، نهاية القرن التاسع عشر بين روسيا كقوة برية وبريطانيا كقوة بحرية، وقد جرى ترميزه في نصوص ومؤلفات عديدة بالمواجهة بين الدب الحيوان البري والحوت الحيوان البحري.
هذا وتستلهم العقيدة الاوراسيّة في رؤيتها المبنية على ثنائية البر والبحر أفكار كارل شميدت (1889 -1985) أيضاً، الذي ركز على ما ينتجه الصراع بين البر
والبحر عبر التاريخ من نظم حقوقية وقضائية وثقافية تختص بها الشعوب المتورطة في هذا الصراع وما ينتهي إليه. يرى شميدت أن البحار تتيح الحركة الحرة بينما اليابسة يتمثل فيها الثبات والرسوخ، فالشعوب التي تتعامل مع البحار هي أكثر تحرراً ودينامية من الشعوب التي تتعامل مع اليابسة والتي تميل إلى الأخذ بالنظام والمحافظة عليه. هذا وقد طور أصحاب العقيدة الأوراسيّة الأفكار المبنية على ثنائية البر والبحر بما يتيح لهم صياغة استراتيجية تفيدهم من حيث أن بلادهم، أي الاتحاد الروسي تشكل القوة البرية التي هزمتها القوى البحرية الأطلسية على عهد السوفيات. وهم يرون أن الهزيمة ليست سوى مسألة وقت وها هي أوراسيا، أي الاتحاد الروسي، يعود اليوم إلى منازلة القوى الأطلسية البحرية التي تقودها الولايات المتحدة.
تنبني اذن منظومة أفكار العقيدة الأوراسيّة على الثنائيّة الجغرافية الأساسية المتمثلة بتوزع سطح الأرض على مياه البحر والمحيطات من جهة ويابسة القارات من جهة مقابلة، وهذه الثنائية اتخذت منذ بداية التاريخ ولا تزال صفة العداء المتبادل. وعلى هذا يمكن مقاربة تاريخ المجتمعات البشرية وحاضرها على ضوء التناقض بين أساليب حياة المجتمعات البرية وأساليب حياة المجتمعات البحرية، وبتعبير آخر بين الحضارة البرية والحضارة البحرية وقوى كل منهما، أي بين التللوروكراتيا والتالاسو كراتيا.
ترتبط التللوروكراتيا، أي القوى البرية ومجتمعاتها بالثبوتية والرسوخ في المكان، ويتجسد ذلك في الاستقرار والمحافظة على المعايير الاخلاقية والحقوقية، وفي متانة البنى العائلية والعشائرية وسائر العصبيات الاجتماعية التقليدية. وهكذا يؤدي رسوخ اليابسة أو الرسوخ في اليابسة على المستوى الثقافي إلى رسوخ الأخلاق وثبات التقاليد واستطالة توارثها، وبالتالي يتعاظم دور التراث في حاضر الشعوب وتتراجع المبادرة في التجدد وتنتعش روح الجماعة لصالح استقرار النظام وتراتبية المقامات والطبقات فيه. يعني ذلكَ أن كل اصلاح يجري ضمن الحضارة البرية يصب وفق ذلك في المصلحة العامة. أما التالاسوكراتيا، أي القوى البحرية ومجتمعاتها فتتمثل بحضارة تقوم على أسس مغايرة، فهي تتميز بالديناميكية والنشاط والحركة والميل إلى تسريع التطور التقني وإعلاء شأن المبادلات انطلاقاً مما توفره المسالك المتفلتة من القيود الصلبة في البحار والمحيطات. وتتعزز بذلك روح المغامرة وروح المبادرة الفردية وتتسع هوامش الحريات كما تزداد سيولة الأفكار، ما يؤدي إلى تبدلات اجتماعية ثقافية سريعة وتحولات في النظم القيمية الأخلاقية من شأنها على ما يرى الأوراسيون أن تذهب باتجاه التحلل الاجتماعي وتدمير الخلايا الأسرية في سياق من التدهور الأخلاقي الذي يعرّض البشرية لأخطار تبقى بمنأى عنها في ظل الحضارة البرية، التي تبدو وفق العقيدة الأوراسيّة أنها هي المؤهلة لضبط مسار النوع الانساني وتأمين مصيره على النحو السليم، وعليه ينبغي صياغة استراتيجيات تنطلق من حشد قوى الحضارات البرية مع السعي إلى تحقيق اختراقات اقتصادية وعسكرية في المجال البحري العالمي تعزيزاً لشروط المواجهة مع القوى البحرية المتمثلة اليوم بالولايات المتحدة.
وعليه تتقدم العقيدة الأوراسيّة في ظل الموازين القائمة راهناً بين البر والبحر بعدة سيناريوهات محتملة، الأول انتصار التالاسوكراتيا وسحق من يقف في وجهها مع ما يستتبعه من فرض الاملاءات الأميركية على العالم لأمد طويل، الثاني، عجز التالاسوكراتيا عن فرض قيَمها على شعوب العالم ، لكن هذه الشعوب لا تملك بديلًا لها أي لهذه القيم، الثالث، تحالف قوى التللوروكراتيا على أن تأخذ بالحسبان العوامل التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي لتجنبها، فيستعيد العالم اذاك، الثنائية القطبية التي سادت في القرن العشرين إنما على أسس جديدة. أما الاحتمال الأخير فهو انتصار البر على البحر وتعميم قيم التيللوروكراتيا على العالم وبالتالي دخوله في مرحلة جديدة لم يعرفها من قبل.
ملاحظة ختامية
في مختلف الأحوال، نلاحظ اليوم أن موسكو في سياساتها الدولية تستلهم إلى هذا الحد أو ذاك جوانب متعددة من العقيدة الأوراسيّة، فهي تسعى مثلاً إلى إحلال التقارب بين الدول القارية الوازنة المجاورة لها وهي: الصين، الهند، باكستان، إيران وتركيا. حيث يشكل تواصل أراضيها قوساً جغرافياً استراتيجياً يضم قوى برية وازنة يؤمل منها بالتعاون مع الاتحاد الروسي التمكن من احقاق التوازن المطلوب إزاء الولايات المتحدة. ومن هنا نرى في هذا الإطار أن موسكو في ما خص منطقتنا، تصرّ تحت كافة الظروف على عدم التفريط بعلاقاتها مع أنقرة، وبالمقابل، في الوقت نقسه، نجدها في سعيها إلى إحداث خروقات بحرية لتحسين شروط المواجهة مع المعسكر الغربي، تبدي تمسكاً متشدداً بسوريا (المعادية لتركيا) بعد ما شيّدت على أراضيها القاعدة البحرية الوحيدة لها خارج حدودها وبعيداً عن سواحلها.
——————————————-
تنويه: تم نشر هذا المقال باتفاق خاص بين الكاتب وسيرجيل.