العالم الآن

العلمانيّة إنْ غابت؟

في تطبيقات قانون الأحوال المدنيّة ومآسيه.

إنَّ تبني النظام الديمقراطي العلماني للدولة، يجب أن يترافق مع نفي فكرة النظر إلى المجتمع باعتباره أقليّات وأكثريات دينيّة، ومن ثم طائفيّة ومذهبيّة أو إتنية. لأن الدولة هنا تمثل الشعب بكل أطيافه، ودستورها يشرع العلاقات بين المواطنين قولاً وممارسة، فالقانون يسري على الجميع، الذين تجمعهم المساواة في حالة قانونيّة واحدة.

 تُوصف الدولة في الجمهورية العربية السورية – الشام، بوصفها ذات نظام قومي عروبي ديمقراطي وعلماني، بالرغم من أن الدستور النافذ يحدد الإسلام كدين لرئيس الجمهورية ومن أن الشرع الإسلامي مصدراً أساسياً من مصادر الدستور والتشريع، الأمر الذي يعني أن العلمانية هنا ليست سوى ادّعاء ووهماً يكشفه وجود دستور يرسخ الانقسام الطائفي في المجتمع ويشرعنه ويتبناه منهجاً وسلوكاً.

تبدو أحد أهم إشكالات ومآسي الدستور اللا علماني، ممثلة في بنية قانون الأحوال الشخصية/المدنيّة الذي لا يتعدّى أن يكون قانوناً عثمانياً معدلاً، يجعل الشاميين من المذهب السني مواطنين، بينما ينظر لغيرهم بصفتهم رعايا للدولة، ومن الدرجة الثانية، ينبغي عليهم تقبل (الحكم الإسلامي) الوصائي.

 وبسبب قانون من هذا النوع، وما يفرضه ويؤدي إليه من مشكلات عميقة اجتماعية فضلاً عن كونه يشكّل عبئاً على حياة الشاميين من غير الذين يتبعون المذهب السني، يحاول المواطنون من غير هذا المذهب، إيجاد طرق للالتفاف عليه أو تجاوزه أو محاولة إيجاد تشريع خاص ومحاكم خاصة تتناسب مع عقائدهم.

الزواج المختلط: إشكالية القانون وتطبيقاته

يعتبر الزواج المختلط، أي ذلك الذي يحصل بين فردين كل منهما ينتمي إلى دين مختلف عن الآخر، مثالاً لمعاينة الكيفية التي يعمل بها قانون الأحوال الشخصيّة، وفي هذا الإطار يقول مدير الأحوال المدنيّة السيد أحمد رحال لبرنامج (المختار) الذي يبث من إذاعة (المدينة، أف، أم):

إنَّ “الزواج بين مسيحي ومسلمة باطل ولا يتم تنفيذه بالمحاكم السورية حتى لو تم تنفيذه في أي بلد، لأنه مخالف للقوانين السورية”. ذلك لأنَّ “الزواج في سوريا نوعين شرعي للمسلمين وكنسي للمسيحيين”.

وتابع السيد “رحال”: “إذا تم الزواج بعقد مدني خارج القطر بين سوري وسورية أو عربية أو أجنبية، وكان غير مخالف لقانون الأحوال الشخصية، فهذا الزواج يلزمه إكساء صيغة تنفيذ بالمحاكم المختصة ويتم تسجيله في سوريا”.

 من جهته يقول المحامي أحمد الخير فيما يخص هذا الموضوع إن “الزواج المختلط مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية ويسمى: زواج فاسد، أي لا يتم تسجيلهما كزوجين في الأحوال المدنية، ولكن يُعترف بآثار الزواج، ومن آثار الزواج الأولاد”. حيث “يتم تسجيل الأطفال لاسم الأم في حال كانت الأم مسلمة والأب مسيحي، ويحصلون على دفتر عائلة يثبت وجود الأولاد لكن لا يتم وضع اسم الأب في الدفتر”. ولذلك “الأم لا يتم تسجيلها في النفوس كمتزوجة أي تبقى عزباء، ويتم تسجيل الأطفال على اسمها ويحصلون على لقبها (كنيتها) فقط”

مناقشة واستنتاجات:

تشير الحالة الموصوفة آنفاً، على لسان مدير الأحوال المدنية والمحامي أحمد الخير، إلى أن القانون الذي يعالجها، يمكن أن يؤدي إلى وصف مصدر التشريع الدستوري، وهو الشرع الإسلامي، بكونه قائماً على (الافتراء):

— الأم متزوجة وليست عزباء!!

— الأم ليست زانية والأولاد ليسوا أبناء زنا حتى نعتبر الأب مجهولاً!! وهو معلوم.

لكن هذا القانون لا أصل له في الشرع الإسلامي، وإنما من أحكام الدولة الدينية الاسلاميّة، ما يؤدي في النهاية إلى ارتكاب جرائم باسم الشرع مع تطبيق هذا القانون:

– اتهام باطل للأم بالزنا.

– إطلاق أحكام بناء على افتراءات.

– حرمان الأب من أبنائه، وتعريض الأطفال للتنمّر الاجتماعي باعتبارهم مجهولي الأب.

– حرمان الأب من حقوقه المدنية: الزواج والأبوّة.

– إجبار الأسرة على الهجرة لإقامة علاقات زوجية قانونية ومتوازنة .

-إجبار الزوج والزوجة على إقامة علاقة بنظر المجتمع منافية للتقاليد والأعراف، وهي المساكنة، كونهما غير متزوجين بنظر القانون .

– إجبار الزوج على اعتناق الدين الاسلامي قهراً وليس قناعة، مخالفاً حكم ” لا إكراه بالدين ” .

– يقر القضاء الشرعي الاسلامي للأم العزباء الزواج دون الطلاق من زوجها الأول، كونه في عرف القضاء غير موجود رغم انه أب للأولاد .

إنَّ إلغاء وجود الزوج، وليس فقط حرمانه من الحقوق المدنية كونه غير مسلم، هذا رغم أنَّ الدولة والمجتمع يقادان من حزب البعث العربي الاشتراكي منذ اكثر من 60 عاماً، والذي يرد في المادة 12 من نظامه الداخلي ” …. دستور الدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة امام القانون …. ” فلماذا لم ينفذ ما كفله، بدولة يقودها ويقود مجتمعها، ولا يزال يحكمها الآن؟؟.

 ومع التمعن في طبيعة قانون الأحوال المدنية، يمكن ملاحظة كيف أنه يأخذ بالشرع الإسلامي على المذهب الحنفي، ويفرضه على أتباع باقي المذاهب والديانات، رغم وجود اختلافات وفروقاً كبيرة فيما بينها، لنأخذ مثلاً:

الشرع الحنفي: المسلم الذي رزقه الله بالإناث فقط، سيشارك إخوته وأخواته في ميراثه مع بناته.

الشرع الجعفري: المسلم الذي رزقه الله بالإناث، يرث بناته فقط.

لذلك نجد كثيراً من الذين رزقهم الله بالإناث فقط، يحاولون توسّل عدة طرق للتخلص من هذا التشريع الجائر.

كما أن الشرع الإسلامي الحنفي يرى أنه يتوجب على أتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين الخضوع لشريعتهم وعقائدهم.

فأتباع الديانة المسيحية في الكيان الشامي كانوا لفترة قريبة يخضعون للشرع الإسلامي الحنفي في الميراث وإلى القانون الكنسي في الزواج، لكنهم اليوم يطبقون القانون الكنسي في الميراث والزواج على السواء. وكذلك الدروز الذين حصلوا أيام الوحدة مع مصر على موافقة جمال عبد الناصر على إنشاء محكمة خاصة بهم بعد أن كانوا يطبقون الشرع الإسلامي الحنفي.

واليوم يطالب الأزيديون بتشريع خاص بهم، لكن طلبهم قوبل بالرفض من قبل وزير العدل عملاً بقانون الأحوال المدنية الحالي.

إذاً، المسيحيون والدروز لهم تشريع خاص، واليوم يطالب الأزيديون وغداً باقي المذاهب، لتسقط المادة الدستورية (المواطنون متساوون أمام القانون)، ولتغدو الشام كتلاً وجماعات، منفصلة قانونياً ومتناحرة تشريعياً، ومستعدة لتطبيق انقسام فعلي على الأرض.

إن سيطرة النظرة الدينية على الدستور والقوانين المستمدة من هذه النظرة، جعلت المجتمع الشامي خاضعاً لمعادلة الخلافة العثمانية ولنظامها الملي، وأخرج الشام، بالمعنى الواقعي من نطاق الدول الديمقراطية العلمانية.

فالعلمانية ليست شعاراً ولا قولاً، بقدر ما هي ممارسة وفعل وقوانين وثقافة. 

ففي دولة مثل الكيان الشامي، حيث ينوب رجال الدين عن رجال القانون، ليكونوا وكلاء عن الله، وأوصياء على غيرهم، مقسمين الوطن والمجتمع، مغيبين الدولة عملياً ونظرياً.

فالدولة القومية الديمقراطية العلمانية لا تقوم إن لم تشتمل على (وحدة قضائية — وحدة تشريعية) وهذه الوحدة هي التي تجعل الفرد يشعر بالمواطنة والانتماء بدلاٍ من أن يشعر بأن هذه البلاد هي مقر إقامته ولم تكن أبداً وطنا.

فالمساواة لا تقوم بتعدد القوانين في نفس المسألة بل تترسخ أمام القانون الواحد للجميع وهذا حاجة وضرورة نلمسها كل يوم.

 إن العديد من علماء الدين الإسلامي يتبنون العلمانية ويشجعون المسلمين على التمسك بها في الدول التي يشكل فيها المسلمين أقلية، إذ تتيح لهم هذه العلمانية ممارسة عقائدهم بحرية، في حين يرفضون تطبيقها ولا حتى المطالبة بها، ويدعون أن الإسلام دين ودولة في البلاد التي يشكل فيها المسلمين أكثرية.هذا يطهر حقيقة موقفهم الفعلي وحقيقة نظرتهم للآخر المختلف مذهبياً أو دينياً.

الدولة القومية الديمقراطية العلمانية لا بد لها ” من وحدة قضائية — وحدة تشريعية — وهذه الوحدة التي تجعل جميع اعضاء الدولة يحسون انهم متساوون امام القانون الواحد امرا لا مفر منه .لا يمكن ان يكون لنا عقلية واحدة ونعمل بمفاهيم مختلفة منافية لوحدة المجتمع كله، أمر لا بد منه، فإذا ظل القضاء بيد رجال الدين ، وهم يحكمون في المعاملات ، يصرفون الامور ، لا يمكن ان تنشأ وحدة نظر واحدة في القضايا السياسية الحقوقية في الشعب الواحد ، وهذا من اصعب صعوبات توليد الوحدة القومية الصحيحة “- أنطون سعادة –

 (الذين يدعون الى الاتحاد ويجهلون روابط الاتحاد وينادون بالوحدة ولا يقصدون منها سوى غرض في النفس .

وما معنى الاخوة القومية حين اقول لك أنت أخي وأحرمك بالفعل من حقوق هذه الاخوة معي؟

كيف يمكن أن يكون للأخوة معنى مع الحرمان للإخوة؟

كيف يمكن أن يكون الشعب واحداً مع أن فئة كذا لا يمكن أن تختلط مع فئة كذا أو كذا ؟)

 خلاصة:

إنَّ بقاء الرابطة الدينية أساساً في الحياة وتنظيمها يجعل أبناء هذه الرابطة تحت رحمة الإيعازات التي تأتينا من المجاميع الدينية الكبرى خارج البلاد: مكة، قم، القاهرة، إسطنبول، باريس، روما…

“يجب ان نقف في العالم امة واحدة لا اخلاطا وتكتلات متنافرة النفسيات ” سعاده .

 وفي سبيل ترسيخ المجتمع الواحد لا بد من تجاوز عوامل الفوضى والتضارب والانقسام، ما يُنتج إمكانية الانتصار على أعداء الخارج، وهذا لا يكون إلاّ بالأخذ بالمبادئ التالية:

1 – فصل الدين عن الدولة .

2  – منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء  القوميين.

3  – رفع الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب .

إنّ من يرفض السير في هذا الاتجاه في تنظيم حياتنا الاجتماعية، لا يريد أن نصل إلى الدولة القومية الديمقراطية العلمانية، ولا بد أن يكون إما جاهلاً أو مستفيد من بقاء مجتمعنا في حالة انقسام على نفسة وفريسة سهلة للقوى الخارجية، وذلك باسم حماية الدين وتطبيق تعليمات الخالق غير عابئ بما أصاب وسيصيب مجتمعنا من ويلات .

سعادة عبد الرحيم

ناشط ثقافي سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق