العالم الآن

تبدّد الجغرافيا السياسيّة السّوريّة

على مدى التاريخ كانت سوريا الطبيعية قَد حازَت على الاعتراف دائما بتَربُّعها على عرشٍ من عروش الجغرافيا السّياسيَّة، حتّى قبل أن يُعرف هذا المصطلح كفكرة أو كعلم، حيث كان يُعرف بالموقع المهم على طرق التجارة مثلاً، أو عند نقطة تلاقي نفوذ امبراطوريات العالم القديم، وأحياناً في قلبها تماماً، كما كانت في زمن الدولة العربيّة الإسلاميّة في عهديها الأموي والعباسي، وقبل ذلك في الحضارات الآشورية والبابلية، وفي الحقب والمجالات الحيوية للآراميين والفينيقيين.
لم تكن سوريا الجغرافيّة ضعيفة من هذه الناحية، أو لنقل ذات دور متراجع غير ذي أهمية دولياً، إلّا أثناء الاحتلال العثماني لها، برغم أنها حتى في ظل ذلك الحكم الرجعي بصورة لافتة في التاريخ، كانت تحتل مكانة مميزة لديه هو. ما أن تفككت الإمبراطوريّة العثمانيّة حتى سقطت سوريا في أوحال الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، اللذين كرسا حالة الضعف الجيوبوليتيكي لهذا الإقليم، لا بل وزادوها ضعفاً من خلال تقسيمه إلى قطع صغيرة، تعد أكبرها “الجمهورية العربيّة السوريّة” الحالية، أو لنقل بدقة في عام 2010 هي دولة صغيرة بالمقاييس العالمية، ولكنها وربما لفرط مناعة الإقليم، وخاصة في حواضره الكبرى دمشق وحلب، استطاعت أن تنجو نسبياً من حمى السياسة الاستعمارية الغربية، التي كانت تفضل دولاً بمساحة لبنان أو فلسطين مثلاً.. ولكن هذه الجمهوريّة نجت من ذلك، ولبست بمرونة وقوة شعبيّة وسياسيّة، رداء الوريث الشرعي لسوريا الجغرافيّة السكانيّة، أو الطبيعيّة. الأمر الذي يبدو اليوم أكثر ما يبدو، أنه شكل حسرة تاريخيّة لدول الاستعمار التقليدي (بريطانيا وفرنسا..) ولوريثتها الموضوعيّة أميركا، والتي كانت جميعها تعد العدة مجدداً لإعادة إنتاج سايكس وبيكو، ولكن هذه المرة بأسلوب عميق جداً، ينبع من داخل الكتلة السكانيّة الديمغرافيّة التي كانت تتوثب برشاقة لاستعادة الدور الذي استمر لآلاف السنوات قبل ذلك، ولكنه يبدو اليوم أيضاً وبصورة جليّة، أنَّ الجغرافيا كانت أضيق من الحلم، وبالتالي رأيناه يتكسر على حدودها الضيقة، فالجمهورية العربيّة السوريّة ليست سوريا الطبيعيّة، وبات واضحاً أنها لم تكن قادرة على حمل وزر تلك التركة، ناهيكم عن إشعاعها الحضاري.

في الصباح المبكر من يوم الثامن من كانون الأول لعام 2024 ومع دخول عدد من أرتال الفصائل المسلحة، ومن عدة اتجاهات إلى دمشق العاصمة الأكثر وزناً وكثافة نوعية سياسياً في الشرق الأوسط ربما، بدا واضحاً أن تركة الأعوام الأربعة عشر التي سبقت ذلك التاريخ، بما فيها من حروب على عدد من الجبهات، مدعَّمة بإجراءات قاهرة من العقوبات والحصار على مختلف الصعد والمستويات، بدا واضحاً أنَّ الدولة السوريّة تفسّخت وتفككت، وخاصة على الصعيدين السياديين الأهم “السياسة والعسكر” وهنا بالضبط تتم صناعة الوزن الجيوبولتيكي لأية دولة، اعتماداً طبعاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد، وفي حين أنَّ الجغرافيا مغلقة، ولا تملك الدول الكثير من الحلول في مواجهتها، فإن الاقتصاد يبدو أكثر مرونة، وبالإمكان دائماً ابتكار الحلول فيه، وهذا ما فعلته الدولة السورية على مدى العقد ونصف، ولكن بكثير من الفشل والتباطؤ والتردد.

المهم الآن أنه ومع بزوغ فجر الأحد، كانت شمس الجمهوريّة العربيّة السوريّة تغيب في غياهب تشتت جغرافيتها السياسيّة.. فما هي ملامح ذلك؟!
لم تعد لسوريا جغرافيا سياسيّة يُعتّد بها، فالموقع أصبح بؤرة انخفاض ضغط كبير، نجم عنه تمدد القوى المحيطة من ثلاث جهات، ما يعني أنه لم يعد هناك “جغرافيا سوريّة” بالمعنى السياسي الوطني، بل تحوّلت هذه الجغرافيا إلى مجال سياسي حيوي لتقاسم الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل السيطرة والتمدد فيه، فقط.
هذه القوى الثلاث لا تبدو على خلاف في الظاهر، كونها أساساً تتبع لواحدة منها، ويبدو أنها موكلة بتنفيذ جدولها هي (الولايات المتحدة).

ولكن لا يمكن أيضاً إغفال السعي العربي السعودي والإماراتي لاستعادة دور ما في الجغرافيا السوريّة، بعد ما بدا من خسارتها له خلال الشهر الماضي، ناهيكم عن الدور القطري المنضوي داخل شريكه التركي.

يبقى أن نقول بأنه برغم تعدد تلك الجهات، ولكنها أيضاّ تبقى جميعها تحت الإشراف والتبعية الأميركية، مع وجود بؤر صغيرة جداً جغرافيّاً وحيويّاً لروسيا وإيران، لا تكاد تكون مؤثرة في المشهد الحاضر.
هذا يعني أن احتمالات الصدام على النفوذ الجغرافي السياسي، مرهونة برغبة وقرار المدير الأميركي، الذي لا يمكن استقراء قراره وفق المعطيات الحالية ولا التاريخية، فهو غالباً يميل لسناريوهات الصراع والتوتر، ولكنه أيضاً في بعض الأحيان يميل لتكذيب تلك الوصمة، وتنفيذ مخطط آخر يتسم بتقديم نموذج ما عن “النجاح” تحت الوصاية.

إنَّ من يمتلك المعطيات الحقيقية حول ما حدث، ويستطيع الجزم فيه إذا ما كان اندفاعة غير محسوبة لقوى كانت تحاول السيطرة على بقعة جغرافيّة محددة في أرياف حلب، مع الضغط عليها كمدينة محوريّة في المشهد، سعياً لتحسين الموقع التفاوضي تحت الرعاية الدوليّة المنعقدة في تلك الأيام، لفرض حل ما، ثم وجدت تلك الاندفاعة نفسها على أبواب دمشق، بعد تدافع أحجار الدومينو أمامها بصورة غرائبية. أم أنَّ ما حدث كان مخططاً له بالضبط، وهو القرار الأميركي المحضر بعناية واحتراف، وهذا الاحتمال الأكثر موضوعية.
إنَّ الفصل بين هذين الاحتمالين بما يضمر أنّه من المعطيات وما يخبئانه من الاحتمالات، هو ما سيوضح إمكانية اشتعال كرة النار المتدحرجة بناء على عدم التحضير لهذا التدحرج، وعلى وفرة عناصر التجييش والمواد القابلة للاحتراق، أو استقرار هذه الكرة عند الركن الذي حضّره المعلم الأكبر بشكل جيد ومدروس!
ولكن في كل الأحوال تبدو الجغرافيا السياسيّة السوريّة، وعند كل الاحتمالات، قد أضحت في وضع قلق ومشتت، ستتجاذبها قوى قسد وتركيا وإسرائيل، وبقية العناصر الأقل تأثيراً، فيما يحكم الأميركي انغراسه في منطقة شرق سوريا، كاسفين مدروس بعناية يعمل على تشظية الأمم الثلاثة الأبرز في جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا (سوريا الطبيعية وإيران وتركيا)، وفي الموضع المناسب تماماً لإحداث شق في جغرافيا المنطقة، وللقيام بتوسيع هذا الشق.

د. أحمد العربي

باحث وأديب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق