كثيراً ما نسمع ونقرأ في الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي تعبير “الاستنزاف” وهو تعبير عسكري استراتيجي لطالما استخدم في التَّاريخ، فمن المعروف مثلاً أن سوريا خاضت حرب استنزاف مع العدو الصهيوني إثر حرب 1973 والتي استمرت 82 يوماً حتى تم توقيع اتفاقيَّة فك الاشتباك بين الطَّرفين في 31 أيار 1974، والتي أثمرت عن تحرير مدينة القنيطرة وبعض الأراضي السورية داخل خط الهدنة لعام 1967.
كان قبول العدو بتلك الاتفاقيّة وما أفضت إليه من انسحابات، هو نتيجة الاستنزاف العسكري على الجبهة الشمالية الشرقيَّة. فحرب الاستنزاف بطبيعتها تهدف أولاً لإدامة الصراع وتجنُّب الركود على الجبهة، من أجل تحقيق خسائر على جبهة العدو تدفعه لتقديم تنازلات ما، تُعَدِّل من الموقف الميداني التكتيكي، أو ربَّما الاستراتيجي، فما هو الموقف اليوم من هذه الزاوية بالنِّسبة للمقاومة العربيَّة النَّشطة في مواجهة العدو على مستوى خريطة الحرب الدائرة في الشمال والجنوب الفلسطيني، وهل حقّاً تم استنزافها بعد أكثر من 70 يوم على الحرب المفتوحة؟
المقاومة اللبنانيَّة
المقاومة اللبنانيَّة تبدو في موقف أفضل بعد انطلاق عملية الطوفان واندلاع الحرب على أثرها، فقد كسرت هذه الحرب قواعد السُّكون السَّلبي التي كانت سائدة، ومكَّنَت المقاومين من العودة إلى دورهم الذي يعشقونه، وهم وجدوا من أجله كما يؤمنون، وهو المقاومة بالسِّلاح.
كما أن ذلك كلُّه أعاد للمقاومة ألقها في الشَّارعين اللبناني والعربي، ومكَّنها من استرجاع شيء ما من “الشَّرعيّة” الشَّعبيَّة والرَّسميَّة في الدَّاخل اللُّبناني، بعد أن تمَّ استنزاف رصيدها بشكل كبير إثر أحداث “ثورة 17 تشرين” المزعومة، والتي كان واضحاً من خلال مسيرتها أنَّها كانت ادِّعاءً لا خير فيه، له وظيفةٌ نوعيَّةٌ وهي استهداف المقاومة وحلفائها، رغم انخراط بعض القوى التي تستهدف إصلاح النظام اللبناني فعلاً فيها، ولكن دون تجانس عضوي مع القوى الوظيفيّة فيها.
على الجانب اللوجستي لا يبدو أنَّ الحرب الدّائرة ووفق مستوى الاشتباك على الحدود اللُّبنانيَّة الجنوبيَّة، تشكِّل استنزافاً للمقاومة بقدر ما تساعدها على الحفاظ على شبابها وقوَّتِها الميدانيَّة والشَّعبيَّة.
المقاومة الفلسطينيَّة
في اليوم الأول من عملية “طوفان الأقصى” بلغ عدد الصواريخ التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية حسب قائد كتائب القسّام محمد الضيف 5000 صاروخاً.
كما أن اندفاعة المقاومين لم تكن عملاً “عبثيّاً اقتصر على دخول مناطق سكنية واحتجاز بعض سكانها” وما إلى هنالك مما حوته الدِّعاية المضادة، وربَّما أيضاً تسببت به بعض المقاطع المسرَّبة من قبل الفلسطينيين، والتي لم تكن موفقة على كل حال، ولكِنَّ العمليَّة كانت عسكريَّة بالفعل وقد نجم عنها أسر عسكريين….. وقتل عدد منهم أيضاً، كما أنَّه كان ضمن أهداف العملية التي تحققت بنجاح وبزمن قياسي السَّيطرة على مواقع عسكريَّة مثل قاعدة (رعيم) التي خاضت المقاومة معركة انتهت بالسَّيطرة عليها وأسر وقتل عدد من العسكريين على رأسهم العقيد الإسرائيلي (روي ليفي) مسؤول قيادة وحدة رفائيم، والمقدم (سحر مخلوف) قائد كتيبة الاتِّصالات الإسرائيليَّة، وغيرهم.
إنجازات وتحدّيات
من أهم ما أنجزته المقاومة في تلك الموقعة هو عنصر المباغتة والاختراق الفعال، بقيادة عنوانها الأول والأبرز هو الشَّجاعة وحسن التخطيط، ولكننا لا يُمكِننا بالمقابل أن نُغفِل حقيقة ما بدا من انكفاء واضح بالمقياس الميداني عن ذلك التوغل في العمق “الإسرائيلي” الذي انتهى خلال ساعات أعقبها انسحاب المقاتلين إلى داخل القطاع، وبدء ملحمة الدِّفاع والتَّصدي للرد الصهيوني الهمجي. فهذا ما جعل من عملية “الطوفان” الشجاعة تنتهي عملياً في اليوم الأول، لننتقل بعدها لحرب شرسة قادها الكيان الصهيوني ضد قطاع غزة المحاصر، بصورة لم تكن متوقعة أيضاً على عدة مستويات:
* كمية التَّدمير والإجرام التي غالباً ستُصنَّف على أنَّها الأعتى في تاريخ الحروب.
* قدرة المقاومة على الرَّد حتى بعد أكثر من شهرين من التَّدمير الممنهج، وسعي الاحتلال لوأد مقدراتها.
* قدرة المقاومة على الإدارة والتواصل والتَّنسيق والقيادة، التي لا يبدو أنَّها تأثرت حتَّى اليوم.
* الانسجام التّام ما بين فصائل المقاومة، برغم مرجعياتها المختلفة، وهذا من أهم الدروس المستقاة.
* تراجع قدرة المقاومة على مستوى القصف الصَّاروخي لمدن وبلدات الكيان، وهذا أمر لا بدَّ من الاعتراف به ونحن نرصد المشهد بتفاصيله، فبعد أن بدأت بقوة 5000 صاروخ في اليوم الأول، هي اليوم لا تكاد تطلق أي صاروخ على مطار بن غوريون أو مدينة تل أبيب.
يبدو أنَّ من يعاني حقيقة مِن خطر الاستنزاف في الموارد والدَّعم هي المقاومة الفلسطينيَّة.. وليس اللبنانيَّة، وهذا كلُّه حسب الأداء الذي نتابعه ونحن لا نعلم ماذا تخبِّئ حقيقة، ولو أنَّهُ من المستبعد أن تكون المقاومة قادرة على التَّصعيد وتتجنبه بنفس الوقت، في ظل استمرار جرائم العدو وتصاعدها بشكل مضطرد دون أدنى رادع أو التزام بأيٍّ من المواثيق أو الاعتبارات الدولية التي اعتدنا أن يتحدث عنها “العالم”.
من جهة أخرى استراتيجية فإنَّ أخطر ما ستواجهه المقاومة في غزَّة وبالتَّالي في فلسطين، كون قطاع غزة يحتوي على أكثر الفصائل العسكريَّة قوَّة وجاهزيَّةً وعناداً، بعيداً عن السُّلطة المتعاوِنة مع العدو، هو تهجير بيئتها الشَّعبيَّة، وهذا برأيي لُبُّ المشروع الصَّهيوني في هذه المرحلة ومن خلال هذه الحرب تحديداً.
على العموم هذا ما طرحته منذ الأيام الأولى وحذَّرتُ منه، ولم يؤخذ على محمل الاهتمام من قبل معظم الكُتّاب والمحلِّلين الَّذين رفضوا التَّصديق بذلك، وأصروا على “الهروب بآمالهم” به إلى الكذب واعتبروه كلاماً مُحبطاً ليس إلاَّ!!
ولكن اليوم بدأ ناقوس الواقع يدق في تحليلات الكتّاب، وفي نشرات الأخبار، حيث تتسرب المعطيات والمواقف الواقعيَّة إليها شيئاً فشيئاً…
التقارير الميدانيَّة التي يعدها بعض العسكريين السَّابقين مثل (الوليد صالح) بدأت تستخدم تعبير “مشروع تهجير السُّكان” وتُقِرُّ به.
المطالعات التحليلية الميدانية على قناة الميادين بدأت تتحدث “بواقعية” على لسان جنرال مثل (الياس فرحات).
منذ أيام تابعتُ مقابلة مع الجنرال معربوني كانت تضم في طياتها عين الكلام الواقعي والموضوعي عن مجريات الميدان المؤلمة في قطاع غزة..
يوم 11 كانون الأول الحالي، ولأول مرَّة المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان صرَّح بأنَّ (“اسرائيل” تنفذ مخطط تهجير أهالي قطاع غزة من خلال ارتكاب المجازر المروِّعة).
خلاصة
نهاية، فإنَّ استنزاف المقاومة الفلسطينية بشريّاً وبالعتاد والدَّعم اللوجستي، ليس أمراً خارجاً عن سياق المواجهة الإقليميَّة، وعزلة وحصار فلسطين وقطاع غزَّة تحديداً، وهذه معطيات لا علاقة فيها لفصائل المقاومة، ولكنَّها ناتجةٌ عن تواطؤ وقبول الدُّول المحيطة والقريبة من فلسطين، وخاصَّة الملاصقة لها كالأردن ومصر، اللَّتين تمارسان عكس الدَّور الموضوعي الذي قامت به سوريا بالمقابل تجاه المقاومة في لبنان اللبنانيَّة منها والفلسطينيَّة، وعلى مدى عقود.
ولكِنَّ المقاومين في أرض الميدان مازالوا يقدمون أنموذجاً من الصُّمود الفاعل من حيث القدرة على إدارة المعركة وتحمُّل المواجهة.. دون أن يتمكنوا من نقل الجهد العسكري إلى نمط تصاعدي ضاغط على العدو، حيث كان يُمكِن مثلاً الاحتفاظ بِآلاف الصواريخ التي أطلقت صبيحة اليوم الأول، وتقسيط استخدامها بصورة تصاعديّةٍ على مدى الأسابيع التي تلت ذلك اليوم.. إلا إذا حدث تطور إقليمي ودولي معاكس لمسيرة الحرب على الشعب الفلسطيني، بما يَدفع الكيان للتوقف عن حربه والتراجع عن أهدافه المعلنة بالقضاء على تنظيم حماس، أو إذا فاجأتنا الفصائل اليوم بتحرك نوعي جذري يعود ويغير قواعد الاشتباك ويستعيد روح المبادرة ومباغتة العدو، مثل الإقدام على قصف مدنه بصواريخ نوعيَّة تحقق ضرراً واضحاً ومؤلماً له، أو القيام بهجوم بري كبير لتحقيق خرق ميداني حقيقي على صعيد جغرافيا التَّحرير، ودفع مجتمع الكيان للتخلخل كما حدث صباح يوم 7 تشرين المبارك.
