[كتبتُ هذا النص في سياق مشروع اقترحه محمود درويش في الذكرى الخمسين للنكبة. وما زال صالحاً، كما أعتقد: فعلى الطريق أكثر من جيل، وفي الحكاية ثمة من ينتظر، في “البلد”، هناك. (في الصورة الوادي الذي كان دليلي)].
خبز العرب
حسن هو جدي الذي وّرطني أبي بحماية اسمه من النسيان. وللورطة أن تضيق أو تتسع بقدر ما يقاوم فلاح فلسطيني وُلد مواطناً عثمانياً، وعاش في زمن الانتداب البريطاني، ثم مات في عهد الإدارة المصرية، تعب حفيده منه. لم يترك في سيرته الشخصية ما يبرر عناء البحث عنه، بل اجترح ما لا يبدد ذكراه بنطفته. علامة إضافية على مكر فلاّحين لم يكفوا عن استئناس الحياة منذ اكتشاف القمح.
لا أحاول استعادة صورته التي شاهدتها قبل عدد لا أذكره من السنوات، بل انطباعي عنها. لم يترك وجه الصورة التي التقطت في وقت ما من الأربعينات، في نفسي، سوى ما تترك الصور القديمة من برودة الأيقونات وظلال الزمن على ورق مجعّد.
وعندما أحاول نفخ الروح في ذكراه، لا يقل موتا أو يحضر، بل تنهض بلاده فيه، لتفسد خصوصية العائلة. فتاريخ ميلاده، الذي استدعى القيام بعمليات حسابية معقدة لأعمار عدد من الأحياء والأموات، يشير إلى وقت ما من ثمانينات القرن التاسع عشر، التي شهدت، ضمن أمور أخرى، اجتماعات لصيارفة ومثقفين ومغامرين يتداولون، على بعد آلاف الأميال، في أمر بلاده وسبل استعمارها.
ولم يكن قدومه إلى الدنيا في قرية مغمورة نائية، على الطريق من يافا إلى غزة، مغايرا لقدوم غيره من الفلاحين، الذين استوطنوا الساحل الجنوبي، منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حتى عام الهجرة الكبرى. ففي ذلك الشريط الساحلي الضيق هبط الفلسطينيون الأوائل ليمنحوا أرض الكنعانيين اسمها.
أرض تداولها الفراعنة، والهكسوس، والحيثيون، والعموريون، والآشوريون، والفرس، والإغريق، والرومان، والعرب، والصليبيون، والعثمانيون، والبريطانيون، فتركوا خلفهم بقايا سيوف وقلاع وآلهة ودماء، لا تستوقف تعاقب الفصول، أو تمنح الطبيعة رفاهية تأمل الزمن. وبين حربين تستعيد القرى أسماءها الضائعة، يبني الفلاّحون القرية على أشلاء أمها، وينسون معنى الاسم حتى مجيء الحرب القادمة.
ولم أفهم معنى الاسم إلاّ ذات يوم في أوائل السبعينات، عندما وقف محمد شقيق جدي على مفترق للطرق، لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن المقبرة التي تضم رفات أمه وأبيه، ليسأل كل من تطوّع للرد على عجوز متعب الوجه عن قرية اسمها الجلدية.
لم يعرفها أحد. كانت تلك زيارته الأولى منذ عام الخروج.
مشينا كثيراً وسط حقول خضراء، محايدة، وتعبنا. فجأة، تسمّر العجوز الصامت في مكانه، وانحنى على الأرض كأنه يشم التراب أو يسأله، ثم اعتدل قائلاً بلهجة الواثق: نحن في أوّل البلد.
مشيت خلفه مع أقرباء آخرين ولدوا هناك، وخرجوا في طفولتهم. كنت الوحيد الذي لم يعرف البلد من قبل.
كنا نمشي وسط عشب أخضر ولا نرى أثراً لبيت أو إنسان. ولاحظت أن العجوز يمشي بتثاقل وبطريقة متعرجة، ينحرف يميناً ويساراً وسط فضاء أخضر لا يبرر الوصول من نقطة إلى أخرى إلا بخط مستقيم. ركضت خلفه فأشار إلى العشب: هنا كان بيتنا، وهذا بيت جدك، هنا كان أبوك يلعب مع الأولاد، وكان يمشي في هذه الطريق إلى المدرسة، وهنا، وهنا، أسماء أشخاص أعرفهم ولا أعرفهم.
لم أر بيوتا ولا رأيت الطريق.
كان الرجل يمشي في شوارع القرية، ويحاذر الاصطدام بجدران ظلت قائمة في ذاكرته. لم أصدق حتى وصلنا إلى مكان قال بأنه الجامع، وهناك كانت بقايا المئذنة. جثة من حجر تفوح منها رائحة العطن، وتعشش فيها طحالب وطفيليات بنية اللون وخضراء. وعلى مسافة أمتار كانت المقبرة تحت ستارة كثيفة من الخبيزة والقرّيص.
هناك عثر محمد على قبر أمه وأبيه وقرأ الفاتحة.
كأن القرية نهضت من تحت العشب. قلنا سنذهب إلى البئر، وذهبنا. ملأنا الأواني التي أحضرناها خصيصاً لهذه المناسبة بالماء. شربنا من ماء بلدنا، غسلنا وجوهنا وأيدينا. حققنا بذلك الفعل البسيط معجزة التعارف. وعدنا إلى مخيم اللاجئين في غزة.
عاد شقيق جدي ليرقد في فراش المرض فترة طويلة من الوقت. وصادرت إحدى العجائز الماء. وضعته في خزانتها لتشرب منه قطرات قليلة صباح كل يوم قبل صلاة الصبح. وعدت أنا للبحث في منظمة التحرير الفلسطينية عما يعيد للاسم اسمه.
اسم يرتفع خمسة وسبعين متراً فوق سطح البحر. هناك على الربوة بنى الصليبيون قلعتهم، ربما في منتصف القرن الثاني عشر، عندما خرج بالدوين ملك القدس لفتح غزة، فداست خيوله عشب الشريط الساحلي وفلاحيه.
أطلقوا على القلعة اسم جلايا. ولن يحتاج تركيب المشهد من جديد إلى كثير من الخيال.
يمكن أن نرى طائفة الرهبان المحاربين من فرسان الهيكل، الذين يرتدون عباءات ناصعة البياض، يُزيّنها صليب أحمر كبير الحجم على الصدر والظهر، حول نار أوقدوها على مدخل القلعة لتحميهم من أشباح من قتلوهم قبل قليل، أو ليرى الرب في ظلمة الليل وجوها مترعة بالغبطة والثناء.
لم تعمّر نارهم أكثر من عشرين عاماً، أطفأتها ريح القادمين من مصر في ركاب صلاح الدين. عاد الفلاّحون إلى الحقول كأنهم خرجوا من شقوق الأرض، رمموا بجدران القلعة ما تهدم من بيوت، وانخرطوا، مجدداً، في دورة الفصول، يؤرخون لأفراحهم واتراحهم بما يصيب الطبيعة من خلل، أو يُخرج حسابها عن المألوف.
ولم يكن في سبعمائة عام قضاها الاسم مغموراً بالنسيان ما يُخرج الحساب عن المألوف. جاء المماليك والعثمانيون، ولم ينتبه أحد. استمر الفلاحون في دفع الإتاوات إلى أسياد الأرض، وفي الاحتفال بميلاد رؤوس الماشية، وزراعة القمح والسمسم والخضروات والشعير، وممارسة أفراح وضغائن صغيرة في مكان كان الجغرافيون الأوروبيون في القرون الوسطى يرسمونه كقلب لزهرة متعددة الأوراق هي الدنيا.
ثم أفاق الاسم، كأنه فاصلة توّحد السرد بين مشهدين في صندوق للعجب، على يدي سلطان من لحم ودم. ففي أواخر القرن التاسع عشر، فلنقل في عام 1888، أمر السلطان عبد الحميد ببناء مسجد في خربة اسمها الجلدية.
كيف أنفق المكان سبعمائة عام في نحت اسم قرية من قلعة. هل كانت الأولى أما للثانية، أم كانت ما تيّـبس من ذكراها في زمن معلق في الهواء؟ لا أعرف كيف سقط ظل الخراب على القرية، لكنني أعرف كيف حمل فلاّحون نسغ الخضرة، كما حملوني في أصلابهم، لينفخوا في روح الخربة ما يشعلها بشهوة الحياة.
كانوا، هناك، في مكان يدعى ديربان في قضاء الخليل. لن يتمكن أحد من إعادة الفلاّحين إلى آدم جدهم. الأنبياء، وحدهم، يمسكون الخيط من طرفيه. لذلك من العبث تصديق الروايات العائلية عن الآباء المؤسسين. من هناك، وكفى.
وكما يحدث في الروايات التي تُسمّد جذر الحكاية بما يعوزها من خيال، كان عليهم الانتقال من مكان إلى آخر. انتقلوا إلى قرية اسمها إذنبه في قضاء الرملة، وأقاموا فيها بقدر ما أذنت الحكاية بالبقاء. ثم أخرهم منها الثأر، كما أخرج غيرهم، كأن سيرة الهلاليين كانت اختزالاً، استعار منه الفلاّحون أو أضافوا إليه، كل ما يحرّض الناس في العالم القديم على الرحيل.
وصلوا، وصلتُ، إلى قرية اسمها جليا (قضاء الرملة أيضاً) أي انتقلوا بضعة كيلومترات تكفي لبعث ما تثيره من ذعر كلمة اسمها الرحيل. ولا اعرف كم أنفقوا من السنوات منذ آدمهم العائلي الأول حتى رحيلهم ما قبل الأخير؟
هنا، يدخل السلطان بعمامته الموّشاة بالفضة، ولحيته البيضاء، إلى الحكاية، ليضع السرد على سكّة الزراعة، وليمنح الفلاّحين ما يمكنهم من تعليق البصل والثوم والخضروات على أغصان حكاية ليس فيها ما يبعث على الدهشة سوى بساطة أشخاص يبحثون عن أرض ميعادهم، أو يمنحون البحث عنها ما يشبه مهابة التاريخ.
انتقلوا من جليا إلى تل الترمس. هناك كان جدي حسن جنينا في رحم أمه، سلمى، وهناك استدرجني إلى الحكاية للبحث عن معنى اقتران مولده بتأسيس فلاّحين لقرية جديدة في فلسطين. فقد جاء إلى الدنيا صبيحة يوم الدخول إلى أرض ميعاده، فتأخر الموعد بضعة أيام.
أحاول استعادة المشهد، ولا تعنيني تفاصيل الفرمان الأعجمي الرنين، من جاء به، ومن ذهب بحثا عنه. ولا يعنيني ذهاب الرجال لمعاينة الأرض الجديدة، أو كيف تكلموا عنها. أحاول، فقط، استعادة ذلك الصباح. سأضيف إلى المشهد ديوكاً توقظ ذلك الصباح الذي كف عن الوجود منذ مائة عام، وأضيف خوار أبقار تنتظر وجبة الصباح، ودخان طابون استيقظ قبل بياض النهار، وبيوتاً من الطين النيئ تحت غمامة رمادية تنـزلق عنها نحو الحقول، وصراخ امرأة يأتيها المخاض، وعبوس رجال يفكون أحمال حمير، تنتظر في الفناء، بحثاً عن الكوانين والبن وبكارج القهوة التي حزموها في المساء، وتهليلة السعادة على وجوه نساء يفرحن بالمواليد الذكور، والبسملة على الشفاه، والفقر المدهش في بساطته وغناه، والكلام الرطب المبلل بأنفاس ما زالت معلقة في الهواء.
يجب أن يكون الوقت صيفاً، أو في أوائل الصيف كي يحتمل ذكور المشهد البرد المفاجئ في آخر الليل، وخروجهم الاضطراري من الحجرات التي احتلتها القابلة والنساء، وكي يتمكنوا من اتخاذ قرار حكيم بتأجيل الخروج بضعة أيام أخرى.
أرّكب المشهد، وأعيد تفكيكه، أرفع حيواناً من هنا وأضعه هناك، أضع خضراوات طازجة وحليباً ساخناً على بساط من الصوف، أعد لأهلي إفطارهم، أرسم عيوناً تظهر داكنة في ضوء الفجر خلف كوفيات تحجب معظم الوجه، ودمايات صفراء، ثم أعذبها بشيطان النوم، وأحاول استعادة حقل من الخس الطري، أو اختلاس نظرة بين عاشقين. ويذهلني ما يحتمل المشهد من إضافات، وما تملك الحكاية من طاقة على سرد لا يستوقف العابرين.
استعين بالمشهد على ما سيجعلني طرفاً في الحكاية. على مشهد جديد بعد خمسين أو ستين عاماً، عندما لم يحمل جدي حسن وأخوته من أرض ميعادهم سوى اسمها ومفاتيح بيوتها، وغابوا في رحيلهم الأخير.
للسرد منطقه. كأن الدخول لا يبدأ إلا بذكريات الرحيل.
دخل القرية رجلان وامرأتان ورضيع في أيامه الأولى. حفروا بئراً بعمق ستين متراً، ليعذّبوا أحفادهم بعذوبة ماء يرشح من الذاكرة. وارتجلت الطبيعة بيوتاً من الطين علّقتها على الربوة نفسها إلى جانب الوادي، الذي يفيض في الشتاء، ليمنحهم رفاهية الشكوى من الحصار.
غرسوا أشجار العنب واللوز والتين والمشمش والزيتون ومزيداً من الأطفال قبل اكتشاف ضرورة المقبرة، فاختاروا مكاناً لا يحرم الموتى من همس الأحياء، كأنهم هبطوا قبل قليل من سفينة الطوفان ليصعدوا سلّم الحياة من أوّله.
تكاثروا، هم والشجر في الحقل، والدجاج في الفناء، والزيت في الخوابي، والقمح في الجرن، والأطفال في الكتّاب، والصلاة في الجامع، والضيوف في الديوان، والقادمون من القرى المجاورة في الأرض، والشهوات في الدم، والموتى في المقبرة.
تكاثروا فوق 4329 دونماً من الأرض. هل حسبوها بهذه الدقة أم تركوا لخسارتهم تعليمنا ضرورة الحساب؟
لم يكن من خطر يبرر شكواهم سوى مزاج الوادي في الشتاء، أو مزاج الوالي في عاصمة إدارية بعيدة. في وقت ما، قبيل الحرب العالمية الأولى أصبح جدي حسن جندياً في جيش الإمبراطورية، وذهب إلى حاضرة الخلافة في استانبول.
أعرف حياء الفلاّحين. وأريد ممارسة دلال الأحفاد الذي ضنّت به الدنيا: هل تسمّرت عيناه على تركية سمينة فسمع تطاير الشرر في دمه. هل اشتهت امرأة جندياً قرأت خاتمة أيامه على جبينه.
لم تعده الحكاية من الحرب إلا بخط جميل وحكمة المسافرين خارج القرى. لكنها أخذته إلى حرب جديدة لا موت فيها ولا حياة. ففي صيف عام 1948 جاء آخر العابرين على الأرض. جاءوا من كتب قديمة تطعم الخليقة لغول الخرافة.
هل شعر الفلاّحون أن في الدنيا ما يهدد الأحياء أكثر من فيضان الوادي في الشتاء؟
تختفي الحكاية خلف إعياء الذاكرة، فتستعيد من التفاصيل ما يعفيها من الخجل وتنسى ما يهددها بالنسيان. لا يأبه الفلاّحون بالسلاح، وليس في مجازات فحولتهم ما يرفعه فوق المحاريث، أو فنون توليد الماشية. ولن يدفعهم إلى بيع ذهب النساء، وجمع خمسمائة من الجنيهات سوى خوف ينهض من قاع قلوبهم، ورجفة تسري من بدن الأرض إلى أبدانهم، التي تستنفرها غرائز الخطر أكثر مما يجندها التحليل.
يفلت السرد، هنا مما كان وما سيكون، ليمنح ذهاب علي، شقيق جدي، بالجنيهات الخمسمائة بحثاً عن سلاح مشتهى مكان الصدارة في الرواية العائلية، التي تفتح قوسا لدخول خمسين متطوّعاً من شباب القرية يحرسون المشهد من شبهة التخلّف عما فعله الآخرون.
ويضيف قائد مصري يدعى سيد بيك طه أربعة رشاشات وأربع بنادق إلى قوة الدفاع الذاتي، التي حصلت على عشرين بندقية إضافية من بيع الذهب، وبدأت حفر الحكاية بالخنادق وتحصينها من الجهات الأربع بالدشم العسكرية، وحرّاس الليل، وكلمات السر، وكل ما لا ينتمي إلى الزراعة من لغة وخيال.
أبحث عن أبي، الذي كان شاباً في العشرين من العمر. أوقظه من النوم، ألبسه ثيابه أناوله بندقيته، أخرج معه إلى نوبة الحراسة، يسألنا فلاّح تحول إلى مقاتل عن كلمة السر، نرددها معاً، وأحمي أبي من نعاس الليل والنسيان.
كم مكثوا في خنادقهم؟
سقطت جسير، التي أقامها الفلاّحون باسم محطة الجسرين على وادي الجيرة، ثم ضنوا على الاسم بالكبر فصغّروه. وصمّيل، التي اتخذها الصليبيون قاعدة عسكرية للانقضاض على عسقلان قبل ثمانمائة عام وتركوا فيها بقايا كنيسة، وما أبقته مياه الوادي من اسم الصليبي صموئيل. وتل الترمس، التي قامت فوق بئر قديمة وأفران كنعانية للأواني الفخارية. وكرتيا، التي تعني باليونانية القوة. وبيت دراس، التي صدت آخر العابرين أربع مرّات قبل السقوط. والبطاني التي نشأت فوق أرضيات من فسيفساء قديمة وشظايا من الفخّار العابر للقرون. والسوافير، التي فعلت باسمها ما تفعل الإمبراطوريات، فانقسمت إلى ثلاث قرى تحمل الاسم نفسه على أنقاض قلعة صليبية اسمها زيوفير.
سقطت القرى المجاورة، إذن. تدحرجت فوق بعضها كحجارة يجرفها السهل في الوادي، فكان الكبير منها ينهار على الصغير ليطرده أمامه.
تعتذر الحكاية عن حكايتها. فلم يعد الوادي مصدر الحصار الوحيد، بل اليهود الذين ضيّقوا عليها الخناق. انهمر رصاص على فلاّحين لم يعرفوا سوى حصار الطبيعة من قبل، وحام فوقهم طائر الخراب.
أستوقفهم قبل الخروج في محاولة لوضع الحكاية على سكة التاريخ. لم يقدموا يوماً بعينه، بل أعطوني الصيف كله. حدث ذلك في موسم الحصاد. أتركهم مع القمح والشعير في الحقول على شفا حفرة من الرحيل، وابحث عنهم في الكتب التي تؤرّخ للخروج في أوائل أيلول. لكن تموّز أقرب إلى الحكاية، لأنهم خرجوا إلى حتا، التي أسستها قبل ألف عام قبيلة حت النجدية، وحتا سقطت في تموز.
كان جدي حسن طريح الفراش، يعاني من الروماتيزم، ولا يقوى على النهوض. أستوقف الحكاية بحثاً عنه. هل خرجوا في الليل أم النهار؟ هل أطلقوا الماشية في الحقول، أم أغلقوا عليها أبواب الحظائر؟ هل تركوا ما يكفي من الماء للدجاج؟ هل أخرجوا ثياب الشتاء من الصناديق؟
لم يُطلقوا، ولم يتركوا، ولم يُخرجوا، بل خرجوا. حملوا الاسم والمفاتيح الخشبية والمعدنية الغليظة، وتركوا للوادي، الذي استأنسوه ولم يكفوا عن الشكوى منه، أن يأخذهم في النهار إلى أول ليلهم وأوضح الغياب.
ثلاثمائة، ربما أربعمائة شخص يخرج ظلهم من حكايات قديمة، كأنه يعرف السر، يتشبث بأرجلهم ويلاحق خطاهم على طريق عبرها أسلافهم في الاتجاهين مرات أكثر مما يذكر الزمن. ويختلط بظل القادمين من قرى مجاورة، لتذكير الفلاّحين بعجز الروايات التي يعرفونها عن وصف يوم الحشر.
هل كانوا يمشون في خط مستقيم، أم انتشروا كسحابة رمادية فوق الأرض، هل تمكنوا من الكلام، أو النظر في عيون بعضهم؟ تأخذني الفنتـازيا إلى حلم مجنون باكتشاف آلة تعيد التقاط كلامهم، بعد خمسين عاماً، عن الطرقات:
فلا تمسح عنه الغبار، أو تجففه من العرق، بل ترفعه كعصب نافر لنحميه من الموت والنسيان.
خرجوا وخلفهم تراب طري على قبر امرأة سقطت بنيران القنص، وطفل في المهد تذكروه بعد مسافة لا أعرفها، لكن الحكاية تحوّل استعادة الطفل إلى ذهاب وإياب من فم الموت.
أرافقهم من حتا، التي توقفوا فيها أياماً قليلة، إلى الفالوجة، محطتهم ما قبل الأخيرة، إلى خان يونس، التي ستكون مسقط رأسي ومثوى جدي وأبنه. يهبط جدي في الحكاية عن ظهر أبي تحت شجرة في بيّارة لأحد المعارف السابقين، ليعود الابن، ببندقيته، إلى الفالوجة وينال شرف حصارها الكبير.
لم تكن الخيام قد ظهرت. ولم يكن العالم قد اكتشف، بعد، ضرورة تنظيف ضميره بالبطانيات والمعلبات. هام اللاجئون في طرقات المدينة، وجد الأوفر حظا صداقة قديمة تعفيه من شبهة التشرّد، وعثر الأقل حظا على بيت مرتجل من الصفيح في أرض خلاء.
أبحث في الحكاية عن جدي، الذي أقعده الروماتيزم، فلم يمش كثيرا كلاجئ على الأرض. لم يعطه السرد أكثر من ثلاث سنوات بين الأحياء. وأحاول العودة إلى أرض ميعاده بحثا عنه. ربما بحثاً عما يحررني منه، أو يعيدني إليه.
بعد سبعة وعشرين عاماً من مذاق ذلك الماء، اشتاقت البلاد ـ كما سيحلو لجدي حسن، بمكر الفلاّحين، أن يُفسر عودتي ـ إلى أهلها. أخذني ربيع مبكر في أواخر شباط 1998 إلى مفترق للطرق وقف عليه محمد، شقيق جدي، من قبل. لم أسأل العابرين، بل ذهبت إلى إزراحيا، التي تعني بالعبرية نور أو شعاع الله، وكان السبت على الأبواب. عبرت السيارة شارعاً مستقيماً تحفه عن الجانبين بيوت من طابق واحد، بينها وفي خلفيتها أشجار لوز ومشمش وزيتون.
وعل مداخل البيوت كانت نساء محتشمات ينشرن الغسيل، ينظفن المداخل، أو يضعن مفارش ملوّنة على طاولات بلاستيكية استعداداً لوجبة السبت. كان الشارع المستقيم خالياً من الناس، وصمت لا يخدشه سوى احتكاك الريح برؤوس الأشجار يلف الكائنات، وفي مكان بارز لوحة بالعبرية والإنكليزية عن موشاف (قرية تعاونية) إزراحيا التي بناها الصندوق القومي اليهودي في عام .1950
انقبض قلبي، ليس بفعل كذب اللافتة التي لم تكن هي، ولا البيوت التي أراها أمامي، في هذا المكان قبل سبعة وعشرين عاماً، ولكن لأنني شعرت بغربتي وفشلت في البحث عن نبض في القلب يستفزه المكان.
انقسم الشارع يميناً ويساراً، فاتجهت معه يميناً ويساراً، بلا جدوى. ثم قررت، كما يفعل مقامر يائس، المغامرة بقذف ورقتي الأخيرة: الهبوط من السيارة، والمشي على الأرض، كما فعل محمد. كان نصف المغامرة محاولة ساخرة، ونصفها الثاني لاختبار الشعر في علاقة صنعتها الروايات الشفوية وتقاليد الوطنية الفلسطينية في السبعينات.
لكنها كانت هناك، في آخر منعطف اليمين، خلف الشجر والبيوت. كانت الربوة، هناك، على بعد بضع مئات من الأمتار. أو ذلك، على الأقل، ما أوحى به مشهدها من بعيد.
ركضت، ليس من أجلي، بل من أجله. هكذا سأحرر روحي من ثقل ساقيه المريضتين. وهكذا سأرسم صورته إذا عاد إلى أرض ميعاده، أو هكذا سيراني إذا حدّق في المشهد بعينيه الميتتين. أختلط الأمر مَنْ يركض من أجل مَنْ؟ وكانت الربوة تقترب.
صعدت وسط خبيزة داكنة الخضرة يصل ارتفاعها إلى قامة الإنسان، وكانت قدماي تغوصان في طين طري من مطر الليلة السابقة، أبحث تحت السيقان الكثيفة للخبيزة عن علامة، ضخ البحث عنها في قلبي موجة من الدم الجديد والخفقان.
لم يعد الأمر لعبة يمارسها الحفيد، بل حشرجة تحتبس في الحلق، ورجفة في اليدين، وخوف من غدر المكان. دخلت فجأة ما يشبه مستودعاً للقمامة يضم كل ما تتفتق عنه المخيلة من نفايات الإنسان. تحوّلت الحشرجة إلى نحيب. وفجأة وجدت بقايا أرضية قديمة، ربما كانت مصطبة، أو.. وبرقت الفكرة في الذهن كمشرط الجرّاح: الديوان.
كان الديوان مبنياً من حجر تركي، وكان مسقوفاً بقرميد أحمر. ولم أفهم معنى الحجر التركي، لكنني انحنيت على الأرض بحثاً عن بقايا قرميد، عن شظية واحدة، فعثرت على الوادي، اللعين، اللئيم، الأمين، الذي حاصرهم وأخرجهم، وأعادني.
كان الوادي الذي يشبه جرحاً غائراً من طين أسود تحفه الحشائش البرّية يطوّق الربوة من الجهة الخلفية ويذهب بعيدا في الأفق وسط تربة بركانية سوداء أثارت في عروقي شهوة كأنها الجماع. إذن، وصلت.
وللمرة الأولى رفعت قامتي ونظرت باتساع العينين إلى الجهات الأربع. وصلت، فنهضت القرية وتحرّك اسمها. أعدت الشيخ عبد الحليم دمّوس إلى الكتّاب في الجامع، ومصطفى السعدوني إلى دكانه، وأحمد أبوقليشة إلى الجمعية التعاونية، وجدي إلى الديوان، وأبي إلى المدرسة، ويوسف الذي سقط في أيلول إلى القماط، والحلاّق الذي لم تذكر الحكاية اسمه إلى عدة الحلاقة، والقرميد الأحمر إلى السقف، والبطيخ والفول والعدس والسمسم والعنب والقمح والشعير والزيتون واللوز إلى الحقول.
أعدت الجمل إلى البئر، والعروس إلى الهودج، والمغاربة إلى السيرك، والخيل إلى السباق، والدجاج إلى الفناء، والغناء إلى السامر، والفلاّحين إلى أرض ميعادهم، والجلدية إلى اسمها.
أفعل ذلك الآن، وأفهم كيف تلد الحكاية حكايتها. فقد مشيت على الأرض التي مشى عليها جدي وأبي. غصت في الطين وتعثرت بحثاً عن بيت مفترض هنا، وعن طريق إلى الحقل هناك، بحثت عن خنادقهم وعن الخمسين متطوعاً، وعن قبر الحاج أحمد خضر، وستي سلمى، وعن الماء في البئر.
تحوّلت الأسماء من كائنات مجرّدة إلى كينونة تنبسط مع انبساط الأرض، وتتعرج مع تعاريجها، وتسكن في سكونها، وتطبق علىّ. لماذا لا أفعل شيئا رمزيا، ولماذا لا أمنح المشهد ما يستحق من الجلال، وأترك للحكاية ما يبرر لها القصاص إذا ما أخذني منها النسيان؟ مشيت في اتجاه البئر مبتعداً عن الربوة، وفعلت ما يفعل الخارج من بيت أهله، قلت للباقين منهم، وللعائدين ذات يوم: في أمان الله.
كان عاملان يغسلان عجلات تراكتور ضخم بخرطوم غليظ. اقتربت منهما وتحدثت بالإنكليزية، فرد أحدهما بالعربية وكان من غزة، بينما كان العامل الآخر من الفلبين. قلت بفرح طفل: أريد شربة ماء. هذه بلدنا. لم يتكلف الفلسطيني الدهشة ناولني الخرطوم صامتاً، وفي عينيه ما يشبه المواساة. شربت وبالغت في الشرب، غسلت وجهي وبللت ثيابي.
خرجت من شعاع الله، التي هبط عليها السبت مع تراجع ضوء النهار، والتي يسكنها يهود متدينون يحتفلون بقدوم السبت، ويغرقون بقايا ما لا يشبههم بتلال من النفايات. كأن الطبيعة واللغة لا تكفان عن اجتراح المفارقة. وذهبت للبحث عما أصاب أخوات قريتي: السوافير أصبحت شافير، والفالوجة أصبحت كريات غات، وحتا أصبحت زفديئيل (زبدة الله) وكوماميوت (الاستقلال)، وجسير أصبحت مينوحا (راحة) وصمّيل أصبحت كدما وسيغولا مينوحا، وتل الترمس أصبحت تيموريم، وبيت دراس أصبحت جفعاتي وايمونيم وأزريكام، وكرتيا أصبحت نيهورا.
لا توجد أسماء تدل على أصحابها في بقعة أخرى من الكون كما يحدث في هذا المكان. لا يرى العابرون في الاسم سوى ما يهدد أو يهدهد اسمهم، بينما يتعامل الفلاّحون مع الأسماء ككائنات طبيعية تنمو كالعشب، أو تتكاثر كالماعز والحمام، ولا يستخرجونها من الكتب أو الخرافات، بل من أصوات الطبيعة، من المنامات وتعاقب الفصول، وربما زلاّت اللسان. وقد تعلّموا مع وجودهم في منطقة اشتبك فيها المقدس بالدنيوي منذ طفولة الدنيا، أن يستدرجوا الأسماء إلى شراك الزمن، أن يوقعوها في فخاخهم كما تقع بنات آوى في شباك السياج.
الحرب، إذن، بين اسمين. اسم تنحته الصدفة من عظام الزمن، فيتحوّل إلى ما يشبه الأدوات المنـزلية في بساطته وعفوية وجوده، واسم تستخرجه الخرافة من تابوت وتعلقه الرماح على ما تبقى من وجود لا تستقيم خرافتها إلا بشرط غيابه.
وقد اكتشفت مكر الفلاّحين، الذين لا يظهرون، للوهلة الأولى، قدراً كبيراً من العواطف أو الخيال، يتركون للاسم البسيط كمصطبة البيت والمألوف كالدجاجة أن يفعل بنا ما يفعل بهم، بصمت، بلا ضوضاء، وبحكمة تعبر القرون.
عندما سألت عن معنى الخبيزة بالعبرية قيل لي أن اسمها خبز العرب. لم أتوقع أن تمنحني الحكاية كل هذا القدر من الدلالات، ففي مكان ما على الطريق بين يافا وغزة ترقد قرية مغمورة تداولها العابرون منذ زمن لا يعرفه أهلها. ترقد بكل جلال الشاهد على الحرب بين اسمين أحدهما معلق في عقب التاريخ، والآخر يغفو في صقيع وحدته ملتحفاً خبز العرب.
—————————————————–
تنويه: ينشر سيرجيل هذا النص بإذن خاص من الكاتب. وهو بالأصل منشور في مجلة الكرمل عام 1998. وأعاد الكاتب نشره على صفحته الشخصيّة.