العالم في هذه اللحظة، يكاد يختنق من ضغط أزماته وتوسّعها وتعقّدها. أزمات صناعية تتصل بمصادر الطاقة والاستحواذ عليها. أزمات بيئية تتصل بالتغيرات المناخية والسياسات الدولية حولها. أزمات سكانية وما يتصل بها من عمليات اللجوء والتهجير، أزمات صحية وأهمها الآن ما يفرضه انتشار وباء كورونا، أزمات في العلاقات والنظم الدولية، أزمات أخلاقية وعنصرية ودينية، صراعات ونزاعات في كل مكان، حروب في أماكن اختناق المصالح….
من بين كل هذه الأزمات والمشكلات، تبدو مسألة المياه ومصادرها واستمرار الحصول عليها، من أخطر هذه الأزمات وأكثرها تأثيراً على مستقبل الانسان وحياته ووجوده. تبدو المنطقة الممتدة ما بين الفرات والنيل، في تعبير ذي معنى وإيقاع خاص، من أكثر المناطق المأزومة بسبب مستقبل مياه الأنهار وتوزيعها. الأنهار التاريخية التي نشأت الحضارة على شواطئها، هي مدار نزاع وجودي مفتوح، ستتوقف على نتيجته مصائر شعوب ومجتمعات.
الكاتب والباحث سعادة مصطفى أرشيد قرأ هذه الأزمة وما يتصل بها، في مقالات عدة، يقوم موقع سيرجيل بنشرها على نحوٍ متتابع.
I
تزدحم الأزمات في عالم اليوم، لدرجة جعلت منه عالماً مترنحاً يئن تحت وطأتها، الاقتصاد العالمي ليس بخير، وحركة التجارة العالمية تشهد تراجعاً، والسفر والطيران والسياحة في أدنى المستويات، والوباء ينتشر ويلقي بظلاله القاتمة على الإفراد والمجتمعات ويترك تداعيات تتجاوز صحة الإنسان وسلامته. بعض هذه الأزمات من النوع الذي لا يتوقف قبل اكتمال دورته الطبيعية التي تأخذ وقتاً، ثم الأزمة المناخية وهي الأكثر استعصاء – وإن كانت بالطبع ليست من النوع المستحيل – فهي تحتاج إلى جهد اكبر ووقت أطول وتغير في السلوك والنمط المعيشي والصناعي والزراعي.
وسط ازدحام هذه الأزمات، يتزايد باستمرار احتياج الإنسان للماء لبقائه وسلامته وغذائه، فهذا السائل الثمين سوف يكون مرشحا لاحتلال دور النفط في قادمات الأيام لندرة وجوده، ولضرورته من اجل بقاء الإنسان، ومن اجل الحصول على طاقة نظيفة وصديقة للبيئة، وتساعد أيضاً في إغلاق ثقب الأوزون.
. حدد علم تاريخ الإنسان الواضح والجلي أمكنة ظهور الحضارات القديمة، وذلك بأنها انطلقت من حواف الأنهار ومنابع المياه، كدجلة والفرات والعاصي والأردن، وبجوار نهر النيل وانهار شبه القارة الهندية والصين. فقد كان للماء على الدوام دوراً محورياً في حياة الإنسان الفرد والجماعة، ولا يزال مرتبطا بشكل وثيق بقدرته على البقاء وازدهاره و تقدمة . عرف القدماء أهمية الماء كعنصر حيوي وأدركوا ضرورة الحفاظ عليه (لا تسرف بالماء و لو كنت على نبع جارٍ)، وبأنه هبة ربانية وملكية مشاعية (الناس شركاء في ثلاث، الماء والنار والكلأ) كما ورد في الحديث النبوي، فيما عنيت الحضارات القديمة بسن قوانين الري وتنظيم توزيع المياه على ضفاف الفرات ودجلة والنيل، كما ورد في الألواح السومرية القديمة وعلى جدران معبد الكرنك في صعيد مصر، لدرجة أن بعض الباحثين اعتبر ان مهمة الفرعون في مصر القديمة كانت إدارة الموارد المائية.
عند ظهور الدولة القومية (Nation State) ثم التطور العلمي الذي أتاح للدول إمكانية بناء السدود الكبيرة وشق القنوات وحفر البحيرات الاصطناعية التي تستنزف مياه الأنهار الأم، وظهور المراكب النهرية القادرة على حمل أحمال ثقيلة، بدت الحاجة ملحة لتنظيم توزيع المياه كما لتنظيم الملاحة النهرية بين الدول التي تمر بها الأنهار العابرة لأكثر من دولة، وتم التوصّل إلى أكثر من اتفاقية في هذا الشأن، ولكن الإجراء الأدق لتنظيم تلك المسائل، ظهر فور انتهاء الحروب النابليونية وفي مؤتمر فيينا 1815 الذي أرسى النظام الأوروبي الذي ساد حتى الحرب العالمية الأولى.
تم تصنيف الأنهار والمسطحات المائية إلى صنفين، الصنف الأول أنهار وطنيه وهي التي تنبع و تصب في ذات الدولة، والصنف الثاني أنهار دولية (عابرة للدول) وهي تلك التي تنبع من دولة ثم تجري و تصب في دولة أو دول أخرى , مثل معظم الأنهار الكبيرة في العالم الراين والرون والدانوب ودجلة والفرات والنيل والميسيسبي وغيرهم . في هذا الشأن وعلى مدار السنوات، نظمت اتفاقيات عديدة كان آخرها (اتفاقية جنيف لحماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية) في علم 2018 وهي اتفاقية تحمل صفة القانون وتنظم حقوق وواجبات الدول النهرية والمتشاطئة للبحيرات الدولية، وقد رفضت تركيا وإسرائيل التوقيع عليها.!
أخذت الاتفاقية مجمل التفاصيل بعين الاعتبار، واعتبرت أن الاتفاقيات السابقة الموقعة بين الدول يجب احترامها طالما تتفق مع المعايير البيئية، وأخذت الاتفاقية أيضاً بعين الاعتبار حاجات الدول من حيث تعداد السكان ومقدار اعتمادهم على الزراعات المروية، وراعت في نصوصها حقوق الأجيال القادمة في المياه.
تلك كانت أزمات العالم الخانقة، أما أزماتنا فهي أشد هولاً وأكثر تعقيداً، بحيث يمكن اعتبار الأزمات مرشحة لأن تتحول إلى قضايا وجودية إن لم يتم تداركها، فالأزمة الاقتصادية في عالمنا العربي سابقة للأزمة العالمية وان عملت على تفاقم أزمتنا وتعريتها، والتي كانت نتيجة طبيعية للأداء السيئ وللاستجابة السهلة لوصفات البنك الدولي والجهات المانحة، لا استجابة لحاجاتنا الاقتصادية، كما كانت نتيجة للفساد الممأسس واستشرائه عبر التحالف ما بين رأس المال الجشع ورجال السياسة والعسكر والأمن المتعطشين للسلطة بأي ثمن أو للدقة بثمن بخس. ثم داهمنا فيروس كورونا وجائحته، وانهيار أسعار النفط وما قد يتأتى عنها من هجرة (أو عودة) لأعداد غفيرة من العاملين في الخليج.
المخاطر تهددنا من كل حدب وصوب، وكما أسلفت سابقاً، قد دخلت إلى المستوى الوجودي من خلال محاصرتنا مائياً في الهلال السوري الخصيب وفي وادي النيل.