في العام 1991، عادت الولايات المتّحدة الأميركية إلى منظمة الأونيسكو، بعد أن كانت قد انسحبت منها احتجاجاً على قرار يتعلق بالاتصال، وتحديداً بتعددية مصادر تدفّق المعلومات. وكان شرطا واشنطن للعودة وإعادة التمويل هما إلغاء القرار المذكور ووقف التحقيق في قضية سرقة آثار مدينة أور خلال توغل القوات الأميركية في حرب العراق الأولى. ورغم أن وجود أور في قائمة التراث الإنساني يلزم الأونيسكو بالتحقيق في القضية، فإنه أُلغي.
على مدى أعوام، قام العديد من بابوات الفاتيكان بزيارات حج إلى الأردن وفلسطين، وكان أبرزها زيارة البابا بولس السادس الذي قال إنّه جاء إلى حيث خرج بطرس الرسول؛ جاء “حاجاً كي يكرم التجسد والفداء”. وعليه، زار المواقع المقدسة التي عاش فيها المسيح من دون أن يحمّل زيارته أي بعد آخر.
في العام 2009، قام بابا الفاتيكان السابق بنديكتوس بزيارة إلى الأردن وفلسطين شهدت تحولاً مهماً، إذ قال إنه يقوم بها على خطى موسى، ودعا خلالها إلى الحوار بين المسيحية واليهودية، طالباً أن “يستمر هذا الحوار في روح الأنبياء”. كما أضاف إلى قائمة المواقع المسيحية موقعاً غير مسيحي هو جبل “نبو”. يومها، كتبت له رسالة مفتوحة طويلة نُشرت في عشرات المواقع والصحف والفضائيات، وأسمح لنفسي بأن أضع رابطاً لها هنا (تجنباً للتكرار)، لكنني أتوقف عند سؤال وجّهته إلى قداسته فيها:
“كنت، أنا المسيحية، أتوقّع أن تقول يا سيدي إنك تمشي على خطى بطرس الرسول الذي تحتل قداستك كرسيه، كما مشى سلفكم بولس السادس، الذي قال إنه جاء، أي أنه مشى، على خطى المسيح لا موسى، بدءاً من بيت عنيا موقع المغطس، حيث خطا يوحنا المعمدان، وحيث مياه نهر الأردن التي تعمّد بها الناصري على يد هذا النبي الذي يطلق عليه في بلادنا أيضاً اسم يحيى.. ليصبح العماد، منذئذ، المدخل الإلزامي الوحيد للإنسان كي يكون مسيحياً، والسر المسيحي الأكثر قداسة، وبالتالي أحد أكثر المواقع رمزية ودلالة على أرض الأردن الحالي… ولكن ما هي الرمزية التي أردتها أيها الأمين على الأناجيل من موقع جبل “نبو”؟”. (للتوضيح: جبل “نبو” هو جبل يقع جنوب شرق الأردن. وقد أشيع أن قبر النبي موسى موجود فيه، وهي شائعة دققت في صحتها بتفصيل وفق المراجع العلمية في كتابي “اكتشاف الوطن” في العام 1982، وتبيَّن أنها خرافة، وليس لها أيّ أساس علميّ أو أركيولوجيّ، لكنّ الأردنيين سكتوا عنها لما تحققه من سياحة. من جهة أخرى، يُقال أيضاً إنَّ موسى وقف على هذا الجبل، ونظر إلى أرض الميعاد التي لم يصل إليها، في حين أن المنطقة عامرة بالكنائس الأثرية النادرة، وخصوصاً في مأدبا المجاورة)
أمس، ذهب البابا فرانسيس إلى العراق، وإذا نحن أمام ضجة “إبراهيم”، في حين أن العراق هو أرض المسيحية منذ القرن الأول، وهو أرض كنيسة المشرق
التي لا يحب الغرب كثيراً ذكرها، لأنها لم تتبع لروما وبيزنطة، بناءً على أن المسيح ببساطة مشرقي تعمد على يد يوحنا – يحيى، وسامَ نفسه كاهناً على رتبة ملكي صادق كاهن القدس الكنعاني، وتلاميذه فلاحون وصيادون فلسطينيون، ولأن من انبرى إلى دعوته إلى بلاطه لإنقاذه من اليهود هو ملك آشوري، فلماذا من موسى إلى إبراهيم؟ ومن الأردن وفلسطين إلى العراق؟
في العام 1936، كتب أنطون سعادة: إذا ما تمكَّنت الصهيونية من إنشاء دولة في فلسطين، فالهدف التالي سيكون العراق. في العام 1995، كتب نتنياهو أنه يجب ضرب العراق قبل العام 2000، وأسست “إسرائيل” “لجنة العراق” التي ضمت بول وولفويتز وريتشارد بيرل. وفي العام 2003، انتقل الرجلان إلى الإدارة الأميركية، واحتُل العراق… لكنه لم يُطبِّع مع “إسرائيل”، بل ذهب إلى المقاومة.
في العام 1974، بعد حرب أكتوبر، أشار الحاخام إلمر بيرغر إلى أن على “إسرائيل” التوقف عن تهويد سوريا الكبرى (“إسرائيل” الكبرى بعرفه) بالحرب العسكرية، وإنما عليها تهويدها بالثقافة. ومن يفهم سيكولوجيات الشعوب وخصوصياتها يفهم أن البعد الديني كامن في ثقافة الشعوب المشرقية كلها، فحتى قبل الأديان السماوية، اخترعت هذه الشعوب أديانها وآلهتها.
لذلك، يبدو أنَّ مخطّطي التطبيع اقتنعوا بتنفيذ مقولة الحاخام برغر من عدة مداخل، منها المدخل الديني، وخصوصاً أننا نعيش طروحات الديانة العالمية الإبراهيمية التي لن تشكل إلا عولمة تهويدية. وعليه، نتوجه إليك يا صاحب القداسة بالتالي:
ثمة 3 دلالات قد تهمنا كثيراً في هذه الزيارة، وليست كلها سلبية:
الأولى: دلالة توحيدية، والمطلوب توحيد الشعب، لا توحيد الأديان، بل على العكس احترام الاختلاف الديني تحت سقف الهوية الوطنية، وفي إطار المساواة في حقوق المواطنة وواجباتها، وبالتالي احترام حقوق الأوطان بعد حقوق المواطن، فمهد المسيح وقبره تحت الاحتلال بذريعة حق ديني، ولن يحل مشكلته توحيد الأديان الأخرى تحت راية المحتل. إن صراعنا مع الصهيونية و”دولتها” لم ولن يكون صراع أديان، وإنما هو صراع على الأرض… الأرض وحق أبنائها بها، والذي لا تذوّب شعلته وحدة مصطنعة للأديان.
الثانية: دلالة حقوقية وجودية تصبّ في السياق نفسه، وهي الحفاظ على وجود المسيحيين في المشرق، وخصوصاً سوريا الطبيعية ومصر، كشرط أساس للإبقاء على تعددية حضارية إنسانية تقدم الردّ المفحم على “العنصرية الإسرائيلية الأحادية = الدولة اليهودية”.
ولنبدأ بأمر إيجابيّ، ففي العام 2010، توجّهت بعثة من الكنيسة الكاثوليكية إلى العراق في زيارة استمرّت 3 أيام برئاسة الكاردينال فيليب بارباران، لتشجيع المسيحيين على البقاء في أرضهم. وتفقّدت البعثة آلاف العائلات التي لجأت إلى كردستان هرباً من الموت على يد الدواعش.
ورغم أنّ هذه المبادرة جاءت متأخّرة جداً، ليس انطلاقاً من تاريخ الاحتلال في العام 2003، بل من قرون أيضاً تعرض فيها العالم العربي، ومنه العراق، لنزف مسيحييه، يبقى لنا أن نتمنّى تبنّي الفاتيكان نهج هذا التثبيت، بدلاً من تبني نهج فتح أبواب الهجرة، كما نتمنى أن يكون الدعم من وحي قول المسيح: “جئت لأخلّص العالم”، وليس فقط الكاثوليك دون الطوائف المسيحية الشرقية، وألا يكون معنى الدعم مساعدات إنسانية لا تفضي إلا إلى نزع الانتماء وثقافة التسول، بل أن يكون دعماً سياسياً لدى الدول والجهات المؤثرة في القرار.
قداستكم تعرفون – وأنتم رأس الكنيسة الغربية – أن الغرب يشعل النار في بلداننا. وعندما يحترق المسيحيون، تفتح لهم أبواب الهجرة. ألم يقل ساركوزي بعد العام 2005 إنّه مستعدّ لإرسال سفن لإجلاء مسيحيي العراق، فحصل نحو ألف عائلة عراقية مسيحية على اللجوء إلى فرنسا، بمبادرة من وزير الخارجية في حينه برنار كوشنير؟ ألم يعرض على بطريرك الموارنة أن يسهّل هجرة اللبنانيين، في ما يعيد إلى الأذهان البواخر التي أرسلتها دول غربية إلى لبنان خلال الحرب الأهلية لإجلاء المسيحيين؟ ألم تؤيد باريس في العام 2010، في بيان مشترك لوزيري الداخلية برنار كازونوف والخارجية لوران فابيوس، استضافة مسيحيي العراق (الغريب أن جميع الوزراء الذين وردت أسماؤهم هم يهود مؤيدون لـ”إسرائيل” بقوة)؟ وفعلاً، أعطيت الأوامر للقنصليات الفرنسية لتسهيل منح تأشيرات خاصة، ومن ثم تسهيل الحصول على اللجوء. هذا مع الابنة البكر للكثلكة، ناهيك ببرامج النزف المنظم والممنهج والمستمر التي تديرها جهات أميركية وأسترالية وكندية واسكندنافية، والتي لن نفصّلها لكم لأنَّكم تعرفونها. قد يقال إنَّ هؤلاء خارج الكثلكة، ولكن ألا يمكن إدانتهم وفضحهم؟
وعليه، إذا كان أحد أهداف الزيارة دعم وجود المسيحيين على أرض العراق، فقد جاء متأخّراً جداً، لكنَّه خير من ألا يصل أبداً، ويبقى الرهان على التنفيذ العملي لهذه النية؛ تنفيذ يبدأ بتثبيت الذين قاوموا وصمدوا في بلادهم وينتقل إلى الذين أجبروا على الهجرة.
مرة أخرى، لا نقول بالمساعدات والجمعيات الخيرية، وإنما بتأييد السياسات التي تعيد إلى البلاد ازدهارها، وتدفع الدولة إلى إقرار المساواة في الحقوق، انتقالاً إلى الاعتراف الجريء بالمجازر التي أدّت إلى تهجيرهم.
وهنا، نصل صاحب القداسة إلى الدلالة الثالثة، وهي أيضاً تاريخية حقوقية إنسانية. إن مسيحيي العراق هم مسيحيو القرن الأول للميلاد، مسيحيو الكنيسة الآشورية، كنيسة المشرق المستقلة التي تمسَّكت بالعقيدة الإنطاكية النسطورية… هي مدرسة الرها ونصيبين وجنديسابور.
في التقارير الإعلامية، جاء أن الآشوريين أقلية، لكنَّ قداستكم تعرفون لماذا أصبحوا أقلية، وهم أهل البلاد منذ ما قبل المسيحية بألفي سنة! أليس ملكهم هو آشور بني بعل (نسمّيه بانيبال لأننا أخذنا اسمه من منقّبي الغرب الذين لا يعرفون حرف العين) صاحب أكبر مكتبة في تاريخ العصور القديمة، ومنهم السريان والكلدان؛ الكلدان الّذين لم يتحولوا إلى هذه التسمية لسبب عرقي، بل لأنهم تكثلكوا ليحصلوا على حماية الكنيسة الغربية من المجازر؟
إنَّ المجازر والاعتراف بها وإدانتها والتعويض عنها هو حقّ للآشوريين، ولو بعد قرن، لا لأننا نريد نبش التاريخ الأسود، ولكن لأنَّ ذلك يشكّل بداية آلية تفريغ البلاد من مسيحييها، والّتي لم تتوقف منذ أكثر من قرن، ولأنه يشكّل قضية وطنية قومية، لا قضية دينية؛ قضيّة عدم شرعية إحلال الأحادية الدينيّة كمصدر للحقّ الوطني بدلاً من الحقّ التاريخي – الاجتماعيّ الّذي تعزّزه التعددية وتعزّز مشروعيته السيرورة التاريخية بين الناس في ما بينهم وبينهم وبين أرضهم.
ومن هذا المنطلق وحده، ننظر إلى ما تفعله أي مرجعية دينية أو سياسية لتثبيت المسيحيين في بلادهم، وللإبقاء على النموذج التعددي في وجه يهودية “إسرائيل”
العنصرية، بدءاً من مذابح “سيفو” في نهاية الحرب الأولى في العام 1915، وصولاً إلى مذابح داعش في العام 2010، مروراً بمذابح سيميل في العام 1933، على أنّ أهمها مذابح “سيفو” التي نفَّذها العثمانيون بيد قوات نظامية عثمانية توجه مجموعات شبه نظامية عشائرية كردية (أليس هذا ما تكرر مع العثمانية الجديدة وداعش؟)
من العام 1914 إلى العام 1923، من أورميا إلى هكاري ومعمورة العزيز وديار بكر وماردين، كان التحريض دينياً، والهدف هو الاستيلاء على الأرض، كما فعل اليهود في فلسطين. نصف مليون إنسان قضوا في المجزرة، والبقية نزحوا، مثل الأرمن واليونانيين البونتيك، لكن لماذا يضجّ العالم بالأرمن – وهو حقّ – بينما لا يتحدَّث أحد عن الآشوريين؟ لماذا لا تتحمَّل روما مسؤوليتها تجاه الاعتراف بذلك؟
لقد اعترف المؤتمر الدّوليّ لدارسي الإبادات رسمياً في العام 2007 بالمجازر الآشوريَّة، وركّز حرفيّاً على عدم جواز حصر الإبادة الجماعيّة العثمانية بالأرمن فحسب، ووجوب الاعتراف بأنَّها طالت الآشوريين واليونانيين الأناضوليين والنبطيين أيضاً. كما طالب المؤتمر الحكومة التركيَّة بالاعتراف بالإبادات الجماعيَّة ضد هذه الأقليات، وبنشر اعتذار رسميّ والقيام بخطوات جديّة من أجل التعويض للمتضررين.
بعدها بعام، قرَّر البرلمان السويدي الاعتراف بذلك، فما هو موقف الفاتيكان من هذا القرار؟ ألا تعتقدون سيّدنا بأنَّ موقفاً كهذا هو واجب حقّ ومدخل حق أولى من إقامة بيت إبراهيم؟ ألم يقل السيد: لقد خلق السبت لأجل الإنسان، ولم يخلق الإنسان لأجل السبت؟
قال بنديكتوس في زيارته المذكورة أمام مسؤولي الكيان الصهيوني في إشارة منه – وهو الألماني – إلى الهولوكوست، إنه يصلّي “كي لا تشهد الإنسانية جريمة مماثلة”. لقد شهد العراق الذي تزورونه اليوم جريمة أشدّ قسوة.
———————————————————————————–
تنويه: يُنشر هذا المقال باتفاق خاص مع كاتبته السيدة حياة الحويك عطية.
تمنيت ذكر همجية الأحتلال الامريكي للعراق الذي نتج منه موت ما يقارب المليون طفل عراقي بسبب الحصار الناتج عنه فقدان الغذاء والدواء
تمنيت ذكر همجية الأحتلال الامريكي للعراق الذي نتج منه موت ما يقارب المليون طفل عراقي بسبب الحصار الناتج عنه فقدان الغذاء والدواء. مع فائق الأحترام والتقدير للسيدة حياة الحويك عطية. موضوع الإضائة على الوقائع الفتيكانية. حيث انه اصبح هناك تباعد بين رسالة يسوع وكنيسته بالشكل والمضمون.
كلمة راقية وعميقة وجامعة ولا غرابة فلطالما عودتنا الدكتوره حياة الحويك على ذلك. التحية القومية والمودة لها.
السيدة حياة معروفة و مبدئياتها معروفة و لا تزال تقاوم و تنشر و بصراحة سعدت لرؤيتي ان صوتها لا زال صداحا اطيب التحايا و اغلى الامنيات لك سيدتي