هذا ليس عنواناً للمقال، بل هو عنوان كتاب للصحافي محمد خالد قطمة، صدر في طبعته الأولى عام 1984 وطبعة ثانية منقحة ومزيدة عام 1985 ذلك العام الذي استشهد فيه كمال أبو لطيف. (سوف أعود إليها في سياق هذه العجالة) وهنا يبرز السؤال، في ما دفعني إلى استحضار كتاب صدر منذ ما يقرب الأربعين عاماً؟
إن اللحظة السياسية التي تمر بها كيانات الهلال السوري الخصيب، وطغيان الإعلام السطحي في التحليل والتوصيف وجدتني أمام مسؤولية تناول الموضوع من زاوية مغايرة للسائد الجاهل، وإن التزامن بين ما يحصل في لبنان، مع ما يسمى بحراك السويداء، يعيد إلى الذاكرة مخططات إسرائيل العاملة على إقامة دويلات طائفية ليس في سورية الطبيعية فقط، بل في معظم دول العالم العربي، مصر، والسعودية.
لقد لعب بطلا هذه القصة كمال كنج، من مجدل شمس في الجولان المحتل، وكمال أبو لطيف من “عيحا” في منطقة راشيا، دوراً كبيراً في كشف مخططات إسرائيل التقسيمية من خلال اختراقهما لجهاز الأمن الإسرائيلي (الشين بيت) ليجعلا منه أضحوكة للعالم.
طلبت إسرائيل من كمال كنج، (بالمناسبة ينحدر كنج من كبرى عائلات مجدل شمس) ترشيح شخصية درزية لبنانية كي تلعب دوراً مهماً في إعلان الدولة الدرزية المزمع إنشاؤها من الجولان في سورية وحتى الشوف في لبنان. فوقع الخيار على كمال أبو لطيف قريب كمال كنج وصديقه ورفيقه في الانتماء الفكري. “عرف كمال كنج بانتمائه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي خاض باسمه معركته الانتخابية الأولى وفاز فيها”. (ص76)
كمال أبو لطيف خرّيج المدرسة الحربية في حمص، وضابط في الجيش السوري لاحقاً، عمل محامياً بعد عودته إلى لبنان، ابتدأ حياته النضالية في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي في الخمسينات وتحمل مسؤولية منفذ عام البقاع الغربي آنذاك، ليعود ويلتحق بالحزب التقدمي الاشتراكي في منطقة راشيا.
وافقت إسرائيل على ترشيح كنج لأبو لطيف، وابتدأت اللقاءات في روما مع ضابط الشين بيت المدعو يعقوب، بعدما اتفق الاثنان على لعب أدوار مسرحية مع الإسرائيليين من أجل الحصول على وثائق وإثباتات مخططاتهم. يقول كنج:
“إن الكولونيل يعقوب بحث معه (أي أبو لطيف) وبحضوري عموميات حول ضرورة قيام كيانات طائفية في لبنان وسورية، وأن الطائفة المارونية كانت المؤهلة لتكون البادئة بإقامة كيانها على أن تليها، بالعدوى والتقاليد التاريخية، الطائفة الدرزية فتعلن كيانها. ولما لم يتيسر ذلك بسبب ظروف طرأت على الساحتين اللبنانية والسورية بخاصة، والعربية والعالمية عامة أرجئ الموضوع لما بعد حرب الأيام الستة (حرب حزيران 1967) التي كانت تدرس وتنظم مخططاتها. والآن لم يعد من عائق يحول دون البدء بإقامة الكيان الدرزي، ويكون دروز الجولان هم النواة وهمزة الوصل”. (ص98)
حاول كنج وأبو لطيف إدخال الأمير حسن الأطرش إلى الموضوع بناءً على طلب الإسرائيليين، الذي أرسل حفيده زيد مكانه لعدم تمكنه من مغادرة منفاه في الأردن لأسباب سياسية محض. “الاجتماع الذي حصل في روما، بين كمال كنج وكمال أبو لطيف والأمير زيد الأطرش، حفيد المير حسن الأطرش، والكولونيل يعقوب، ضابط الشين بيت الإسرائيلي، حيث أخذ يعقوب يشرح بإسهاب مقومات الدولة الدرزية وكينونتها، ومقومات الدولة المسيحية وجغرافيتها ومقومات كيانات أخرى في لبنان سيترك تفاصيل قيامها إلى مرحلة لاحقة بحسب الظروف المناسبة لكل طائفة أو منطقة.
وأخذ يشرح عن ضمان أميركا وإسرائيل للدولتين الدرزية والمارونية. وكان اهتمامه بالحديث عن الدولة الدرزية أكثر بكثير. وقال إن اميركا ستضمن الدعم لها سياسياً واقتصادياً ودولياً، وإنها ستكون دولة نموذجية في الشرق من حيث الزراعة والصناعة وستساعدها إسرائيل بتصريف منتجاتها، وأتى على ذكر الجولان كمثل حي مستشهداً بكمال كنج: “وستكون دولة سياحية لأنها غنية بالآثار وبخاصة في منطقة وادي التيم (حاصبيا راشيا) حيث ستساعدها إسرائيل وأميركا على القيام بحفريات لاكتشاف الآثار والتي ستكون مصدراً مدراً لها لا يستهان به.” (ص101)
تمكن أبو لطيف بذكائه الحاد من التلاعب بيعقوب واستدراجه إلى الكشف عن المخطط الإسرائيلي بعد جهد جهيد وبخاصة الشق العسكري منه. بعد أن كان يعقوب يبدي تحفظاً كبيراً حول الشأن العسكري ويركز على الشق السياسي، ويقول أبو لطيف حول الموضوع:
“كما استطعت الحصول على معلومات عسكرية هامة تتعلق بأهم المحاور والمسالك التي سيتم اجتياح لبنان عبرها، وكذلك المحاور الرئيسية التي كانت تزمع إسرائيل خرق الجبهة السورية الجديدة منها لتصل إلى جبل العرب. (ص102)
وعندما ساورت كمال أبو لطيف المخاوف من كشف أمره قال: عزائي أنني أقوم بواجبي نحو وطني وأمتي متكلاً على الله تعالى.” (ص113)
ويضيف أبو لطيف في لقائه مع مدير المخابرات السورية عبد الكريم الجندي عن المعلومات التي حصل عليها من يعقوب ضابط المخابرات الإسرائيلي فيقول:
“قال لي يعقوب، سيزداد الوجود الفلسطيني المسلح في المناطق اللبنانية المجاورة “لإسرائيل” في جنوب لبنان. كما سيتواجد الفلسطينيون في مناطق درزية مثل راشيا وحاصبيا والبقاع الغربي، حيث سيحصّلون خطوط إمدادهم الرئيسية عبرها. ولن تكون إسرائيل متضايقة من هذا الوجود والتزايد والذي تتوقع نتيجة له تكرار اعتداءاتهم على قرى الجليل والمستوطنات وعندها سيكون رد إسرائيل مناسباً وغير حاسم… ولكن إلى أن يطفح الكيل، وتجد إسرائيل المبرر الدولي المقبول والمعقول باجتياح هذه المناطق متذرعة بالقضاء على (المخربين) وتسيطر عليها.” (ص118)
وبعد أن قام أبو لطيف، بالاتفاق مع كنج على اطلاع السلطات السورية واللبنانية والعراقية على تفاصيل الخطط، أطلع عليه كمال جنبلاط الذي نقله بدوره إلى جمال عبد الناصر. كما أن أبو لطيف أطلع صديقه النقيب سامي الخطيب الذي أطلع بدوره العقيد كابي لحّود، كما أن أبو لطيف سافر إلى العراق واجتمع إلى مدير المخابرات العراقية صالح مهدي عماش وشرح له تفاصيل المخطط والذي طلب من أبو لطيف اطلاع السوريين على الموضوع لأخذ حذرهم فرد أبو لطيف إنهم على علم بكل التفاصيل. لا بد من إيراد بعض المعلومات حول تقديم مديري المخابرات السورية عبد الكريم الجندي، والمخابرات العراقية صالح مهدي عماش، فقد عرضا على أبو لطيف مبالغ مالية ضخمة بدل أتعابه ومصاريفه فرفضها أبو لطيف محتجاً واعتبرها نوعاً من الإهانة لوطنيته ليعتذر منه الاثنان عن ذلك (طبعاً يومها كان النضال لا يزال حقيقياً).
“بعد الخطوات التي اتخذتها الدول العربية مصر وسورية والعراق والأردن، وإنشاء لجان عسكرية مشتركة والإعلان عن قيام الجبهة الشرقية، وبعد القيام بسد الثغرات العسكرية على المحاور التي كانت إسرائيل ستقوم بالهجوم من خلالها. وحديث أجهزة الإعلام العربي علناً عن الموضوع علمت إسرائيل أن مخططها قد انكشف، مبادرة إلى اعتقال كمال كنج والتحقيق معه في المرة الأولى. فأرسل كنج رسولاً على الأقدام من مجدل شمس إلى (عيحا) قرية أبو لطيف ليحذره من أن الإسرائيليين سيعمدون إلى اختطافك من (عيحا) أو من بيروت، أو اغتيالك هناك، وعليك أن تكون يقظاً”. (ص136)
وبعد لقائه بعبد الكريم الجندي مدير المخابرات السورية نصحه بعدم العودة إلى (عيحا) لقربها من الحدود مع فلسطين. وعرض عليه الإقامة في أي منطقة يختارها في سورية. (ص136)
“أرسل عبد الناصر مندوبين إلى كمال أبو لطيف هما المقدم الهيثم الأيوبي، وأكرم صفدي، ليستوضحا منه عن إمكانية إلغاء إسرائيل لمخططها بقيام الجبهة الشرقية أو أن لديها مخططات بديلة. فأجابهما موضحاً ما سمعه من يعقوب وما استنتجه وأنه لم يتوصل لمعرفة البدائل لأن افتضاح المخطط لم يكن بحسبان الكولونيل يعقوب. إلا أن أبو لطيف لم يخف اعتقاده بأن إسرائيل ستستمر عاملة على تفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية تستمر متناحرة في ما بينها وتزدهر إسرائيل على حسابها. واستند بذلك إلى مجمل أحاديثه مع موشي دايان وإيغال آلون والجنرال رئيس (الشين بيت)، التي تتلخص بما يلي: لا يمكن لإسرائيل أن تضمن ديمومتها وسلامتها باعتمادها على الولايات المتحدة فقط، فالصهيونية العالمية التي أوجدت إسرائيل تبحث دوماً عن سبل استمرار هذه الدولة في الشرق الأوسط وازدهارها، وهذا لا يكون بالاعتماد على البيت الأبيض فقط. فلو تبدلت السياسة الخارجية للولايات المتحدة نتيجة تضاؤل التأثير الصهيوني على المؤسسات الفاعلة والمؤثرة على البيت الأبيض، فإن الدعم الأميركي لإسرائيل سيضعف وربما ينعدم. كما أن الصهيونية تخشى أن يصل إلى البيت الأبيض في دورة ما رئيس فولاذي، لا يأبه للمؤسسات التي عمل اليهود على احتوائها، ويقف موقفاً أقله الحياد بين إسرائيل والعرب فماذا ستكون النتيجة؟ إلقاء إسرائيل في البحر حتماً كما قال الإسرائيليون لكمال كنج”. (ص 138)
ويضيف أبو لطيف لمبعوثي عبد الناصر “إن قيام الجبهة الشرقية لن يثني إسرائيل عن عزمها على الاستمرار في العمل على تنفيذ مؤامراتها على المنطقة لإقامة الدويلات الطائفية، بدءاً بلبنان لأنه الأقرب والأضعف، ولأن الحلقة الطائفية هي أضعف الحلقات في سلسلة وجوده كدولة. فإقامة الدويلات والكيانات العنصرية أو المذهبية أو الطائفية هي استراتيجية ثابتة في الفكر الصهيوني، ويتبدل التكتيك بحسب الظروف المحلية والدولية لإعادة رسم المخططات الآيلة للوصول إلى هدفها الاستراتيجي”. (ص144)
اعتقال كمال كنج وتحريره
اعتقل كمال كنج للمرة الثانية وصدرت بحقه أحكام وصلت إلى مئة وثلاثين سنة سجناً قضى منها أربع سنوات، ليخرج من السجن بعملية تبادل الأسرى بين سورية و”إسرائيل” بعد حرب تشرين عام 1973 بعد إصرار الرئيس حافظ الأسد على أن تتضمن لائحة التبادل اسم كمال كنج، رفضت “إسرائيل” ذلك كون كنج ليس عسكرياً ولكن الرئيس الأسد أصر على أنه أسير حرب. رضخت “إسرائيل” في النهاية وخرج كنج من الأسر ليستشهد في دمشق بعد سنتين من آثار التعذيب الذي تعرض له في سجون العدو اليهودي. وهو الذي لم ينحن لترغيب الإسرائيليين ولا لترهيبهم فأوفى قسمه لأمته وعقيدته وثبت للعالم أننا جماعة لا تتخلى عن قيمها في الحياة من أجل إنقاذ جسداً بالياً لا قيمة له.
استشهاد كمال أبو لطيف في (عيحا)
يقول خالد قطمي في مقدمة كتابه ما يلي: “ولعلّ في نشري “قصة الدولتين المارونية والدرزية”، أزف الموت إلى هذا الرجل، الشاهد الحي الأساس على المؤامرة، بل ربما كنت أسهم في سعي إسرائيل إلى الانتقام منه وهي القادرة في لبنان على ذلك. وليعذرني كمال أبو لطيف إذا كنت فضلت خدمة بلادي على حرصي على حياته. ألم يفعل هو الشيء ذاته حين خدع المخابرات الإسرائيلية وحولها إلى أضحوكة، كما يظهر في هذه القصة”؟ (المقدمة)
وهكذا كان لقد أزف الكتاب الموت لكمال أبو لطيف، وتمضي الأيام، وتشاء الظروف أن يسقط كمال أبو لطيف شهيداً في (عيحا) راشيا، في عام 1985 أي بعد عام واحد على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب الذي كشف عن دور كمال أبو لطيف في إحباط المخطط الإسرائيلي، اندلعت اشتباكات بين مسلحي الحزب التقدمي الاشتراكي وجماعة فيصل الداوود في بلدة عيحا سقط بنتيجتها أحد عشرة ضحية، وكان كمال أبو لطيف في عداد لجنة أمنية تشكلت من الجيشين السوري واللبناني ومندوبين عن الأحزاب وبعض الوجهاء للفصل بين المتقاتلين وتثبيت وقف إطلاق النار، ومن بين العديد من العناصر العسكرية والمدنية المتجمعة انطلقت رصاصة يتيمة من قناص محترف من موقع مجهول لتصيب كمال أبو لطيف وحده من بين الجميع في رأسه ويسقط كمال أبو لطيف شهيداً في “عيحا” وبذلك تكون إسرائيل قد انتقمت من كمال أبو لطيف على يد عميل مأجور. ثلاثون مليون دولار وضعها الإسرائيليون في تصرفه لتنفيذ المخطط لكنه آثر الوفاء لوطنه وفكره القومي وهو الاشتراكي الذي بقي يبادر القوميين بالتحية الحزبية حتى بعد تركه الحزب القومي، وهو الذي رفض بدل الأتعاب التي تحمل عبئها من ماله الخاص لتنتصر قيمه الوطنية والأخلاقية على الفردية والنفعية في سبيل أمته وشعبه.
مخطط الدويلات الطائفية بين الماضي والحاضر
في أحد الاجتماعات بين كمال كنج وكمال أبو لطيف، مع يعقوب في روما، شرح أبو لطيف ليعقوب ثغرات المخطط للدولة الدرزية ونقاط الضعف فيه وهي أن الوجود الدرزي في قرى البقاع الغربي المحاذية لسفح الباروك محدود جداً، وهو كناية عن بضعة بيوت في قرية “خربة قنفار” وأقل منه في قرية “عين زبدة”، وهذا يعتبر أحد أهم العوائق الجغرافية والديموغرافية أمام إقامة الدولة الدرزية بين وادي التيم والشوف. لذلك كان لا بد من معالجة هذا الموضوع بشكل يتيح تأمين هذا الربط بين حاصبيا راشيا والشوف. ويبدو أن إسرائيل قد استفادت من هذه الملاحظات وحاولت تذليل العقبات. قام الحزب التقدمي الاشتراكي عام 1986 بالتمركز في منطقة كفريا والسيطرة على معمل النبيذ هناك وأجبر وليد جنبلاط آل بسترس على بيعه أراضي كفريا بالإكراه. لماذا كفريا؟
تمتد أراضي كفريا على مساحة ما يزيد على التسعة ملايين متر مربع من كروم العنب، ولكن لم يكن النبيذ الجيد هو الغاية، بل الأهمية الاستراتيجية لموقع كفريا الذي يمتد من سفوح الباروك إلى ضفاف نهر الليطاني، وبذلك فهو يؤمن ممراً عريضاً يوصل ما بين طريق كفريا الشوف وطريق راشيا وادي التيم مما يملأ الثغرة الجغرافية في المخطط المرسوم. قام يومها منفذ عام البقاع الغربي الأمين محمود غزالة برفع دراسة مفصلة عن الموضوع إلى الدولة السورية وغايات وليد جنبلاط من السيطرة على منابع النبيذ في كفريا. طبعاً استعاد آل بسترس أرضهم مع الإبقاء على حصة صغيرة جداً لوليد جنبلاط لا تسمح له بإنشاء موطئ قدم للدولة الدرزية في البقاع الغربي كما كان يحلم. وكان حزب الله بقيادة صبحي الطفيلي قد سبق وليد جنبلاط إلى عملية التغيير الديمغرافي في المنطقة تمهيداً لإقامة الدويلات الطائفية، ولكنه اصطدم مع الحزب القومي في معركة عسكرية شرسة نتج منها ارتكابه مجزرة في مشغرة والتي سبقها إعدام مسؤول الحزب الشيوعي عباس شرف في وضح النهار (كان شرف مسؤول المقاومة الوطنية في الحزب الشيوعي في البقاع الغربي وفي سجله أكثر من ثمانين عملية عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي) وتصفية منفذ عام البقاع الغربي في الحزب القومي جورج أبو مراد والذي كان مسؤول مجموعات المقاومة الوطنية في البقاع الغربي. الهدف كان تهجير أكثر من مئة ألف مسيحي من القرى الممتدة من عميق إلى مشغرة لتفتح الممر من بعلبك وصولاً إلى النبطية. ربما هذه التقاطعات ما بين مشاريع الدويلات الطائفية شيعية كانت أم درزية قد أخرت عملية تنفيذها بشكل أو بآخر، ولكن هذا لا يعني أنه قد تم التخلي عنها نهائياً. وما طروحات القوى المسيحية اليوم وبخاصة حليفة المقاومة منها المنادية باللامركزية الموسعة إلا وضع حجر الأساس للدولة المارونية. وما ترسيم الحدود البحرية ولاحقاً البرية بين لبنان “ودولة إسرائيل” كما ورد في اتفاق الترسيم إلا زلزال كبير لم يشعر به أحد، بينما لا تزال الأحزاب العقائدية تشكل اللجان الفنية لدرس الموضوع. أما موقف وليد جنبلاط مما يسمى حراك السويداء إلا العمل على إحياء المشروع الدائم لإسرائيل بتفتيت المنطقة إلى دويلات طائفية. في لبنان قامت الدويلات الطائفية ولا ينقص سوى الإعلان عنها رسمياً.
إن الخريطة الإسرائيلية للبنان بحسب ما حصل عليه كمال كنج وكمال أبو لطيف تقسم لبنان إلى خمس دويلات طائفية وهي قائمة على أرض الوقع وكل ما يصرح به عكس ذلك هو مجرد ذر رماد في العيون. ولا تزال الدولة في دمشق الملاذ الأخير للمؤمنين بوحدة هذه الأمة. فإن ما يحصل في العراق من تقسيمات طائفية وعرقية، وواقع لبنان الجديد الذي يحمل في خفاياه أسوأ معاهدة صلح مع العدو الإسرائيلي، على رغم الجهد المبذول للتعمية على الأمر للتخفيف من حجم الكارثة ما يدل على أن جميع الطوائف في لبنان من دون استثناء قد تفاهمت على تقسيم لبنان إلى دويلات طائفية. وما مشهد الوسيط “هوكشتاين” الذي جال على المعالم الأثرية في لبنان واستطيب أكل الفول في الروشة والصفيحة البعلبكية إلا دليل على أن الاتفاقات قد قطعت شوطاً كبيراً في فتح المعابر جنوباً. وتفتح له البيوت الوطنية والمناطق الوطنية وكأنه شمس الحق الشارقة على لبنان.
إذا كان لا بد لنا أن نموت فلنمت كما يليق بالأحرار لا كما يليق بالعبيد. وأختم بالتحية لأبطال هذه القصة ولجميع الشهداء الذين سقطوا في ساحات الشرف دفاعاً عن سورية وفي سبيل عزتها وكرامتها.