كَسَرَ فتية فلسطين في انتفاضتهم المقدسية، الصور النمطية الحزينة التي كانت تلازمنا منذ سنوات، فيها أجراس الكنائس وأصوات المآذن، حتى رائحة برتقال يافا خفتت لدرجة أننا أحسسنا وكأنها ماتت.
فلسطينيو الداخل سألوا حنظلة سابقاً، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً على استشهاده.. لماذا الدهر كئيب وقانط الى هذا الحد يا حنظلة؟ هل لأن فلسطينيي الدهر.. يبدون وكأنهم يسكنون الدهر. ألم يقل لهم محمود درويش (خذوا الهواء صديقاً و… معطفاً)!
عندما تصبح رؤية الشمس أمنية، تهمس بها أفواه مقيَّدة بكلمات مكبَّلة، تبدو المعاني مشتتة بين الحنين لتنَسُّم عبق الحرية، والرغبة في الانعتاق من ظلمة ضعفنا المطبقة، وكأننا داخل زنازين بلا جدران رسمناها نحن ووضعنا أنفسنا داخلها، راسمين عبرها ملامح الحرية التي تأتينا من فلسطين وتصدمنا بثمنها الغالي من العرق والدماء وتدمير البيوت والاستيطان مكانها.
ها هم فتيتنا يوثقون آهاتهم ومعاناتهم من خلال إطلاق (انتفاضة المقدس). و(ليست المسألة هي النصر العسكري، أو الهزيمة العسكرية… المسألة هي إرادة الأمة وتقديرها للبطل حين تجد نفسَها فيه…)، كما يقول الأديب الفرنسي أندريه مالرو. وقد صار قتل القادة والمناضلين الفلسطينيين أشبه بطقس رمزي، يسعى ليس إلى قتل الشخص المحدد فقط، بل إلى قتل الفكرة الفلسطينية. ولنعود مجدداً إلى محمود درويش وهو يرثي الشهيد كمال ناصر في قصيدة العرس الفلسطيني، واضعاً اغتيال الشاعر الفلسطيني ورفيقيه في بيروت، في سياق “عرس الدم” الذي يجعل العاشق شهيداً، بقصيدته “طوبى لشيء لم يصل”، فقال:
“هذا هو العرس الذي لا ينتهي/في ساحة لا تنتهي/في ليلة لا تنتهي/هذا هو العرس الفلسطيني/لا يصل الحبيب إلى الحبيب/إلا شهيداً أو شريداً”.
إذا كانت “إسرائيلُ” تُراهِنُ على دَيمومة الضماناتِ التي توفِرُها لها القوى الدوليةُ الراهنةُ، وعجز النظامِ العربيِ الرسمي الذي أسقَطَ خياراتِ الحربِ والمواجهةِ العسكرية، فإنَّ هذا من قصرِ النظر بالمعيار التاريخيّ.
لا نحسب أن رِهانَ الغاصِبِ كان على قوّة الدبابة في المقام الأول، فهذه رهينة الظرف المتغير. وإنما كان الرهانُ الإستراتيجيُّ الأهمُّ على اقتلاع الذاكرة وإطفاءِ الحُلُم وتغييبِ الهوية وتقويض الروح واغتيالِ المعاني وتبديلِ الروايةِ التاريخيَّةِ وتزييفِ الوعي. فهذه هي الأصولُ التي ما دامت حيّةً ضاربةً في الأرض، فلا بُدَّ أن تؤتِيَ أُكُلَها وتطرَحَ ثِمارَها في آخر المطاف، وإن تأخَّرَ الموسم.
وها هي الذاكرةُ الفلسطينيةُ – بعد سبعةِ عقود ونيّفٍ – قد أثبتت صمودَها لاختبار الزمن، وهي الآن لا تُحيلُ إلى الماضي إلا بقدر ما ترفدُ حركةَ الحاضر وتحرسُ الهويّةَ وتصوغُ الحُلُمَ وتُضمِرُ المستقبل. الذاكرةُ الفلسطينيّة هي الفضاءُ الذي يلتقي فيه الأشتاتُ وتلتئمُ الأشلاءُ وتجتمع الأجيال، ويعودُ فيه الشهداءُ لعِناقِ أحبابهم.
ولكن هل حقاً نحن من الطينِ ذاته مع هؤلاء الذين جاؤوا من أساطير يهوه؟
هُم يحملونَ الأوطانَ بكذبة في المعاملة من دون حاجة لتصريحٍ صاخب على منابر كلامٍ منافق أو إعلانٍ فارغ.. ونحنُ طرائد وطنٍ تتعلّمُ الصيدَ بأجسادِ أبنائها وتهبُ الموتَ شهادة ولاءٍ لأرض تُتيحُ لهم فرصةً لعشاءٍ باذخٍ في ملكوت السماء.. نحن خُلقنا كي يُلاحقَ العالم ومضةً البرقِ في سمائنا وهو يرى كيف ينشرُ الشهداء الأخضرَ على سِعَةِ اليابسِ في كونهِ لتزهو مرايا النسيم بوجهِ أطفال يبتسمون في فضاء فلسطين.
يتغابى العدو عما تكوّنَ فينا قبلَ أن يكونَ لهم مرْبَعٌ في بلادنا الممتدة منذ أكثر من عشرة آلاف سنة وحضارة معمّرة لم تنلْ منها معاول الوهابية التي خرجت من مؤخرة التاريخ.
ليدُر الجدالُ بين طَهورية الحق وأوحالِ الواقع… بين اكتمال الوطنِ ونقصانِ الدولة…
إنه صراعُ المعاني والرموزِ والرواياتِ المتعارضةِ.. وهو ما نملكُ القدرةَ على الفوز فيه.. فالوطنُ الذي يملؤه عَدُوُّنا، لا يملأُ غيرَنا! وكتابُ الوطن الذي يستعصي على الترجمة، لا يستطيعُ قراءَتَه وفهمَ مفرداتِه غيرُ الذين كتبوهُ بِقَدْر ما كتبهم..
فقط انظروا الفرقَ بين مِخيالِنا ومِخيالِهم..
في مِخيالِنا تُنتِج الأرضُ أساطيرَها.. وفي مِخيالِهم تُحاول الأسطورةُ عبثاً أن تنتج الأرضَ.. فأي فرق!
منذ إطلاق الحزب السوري القومي الاجتماعي المقاومة في فلسطين المحتلة في العام 1936، وتقديمه قوافل من الشهداء قرابين لعيون فلسطين، ومن بين هؤلاء، في حينها، الشهيدان الرفيقان حسن البنا وسعيد العاص تباهى المنتدَب البريطاني والعصابات اليهودية وهم يلوّحون بشارة الزوبعة التي كانت على صدره بأنهم قتلوا القومي سعيد العاص .
لنتذكّر أنّه من جنوب سورية، وحيث اللعبة القذرة لمشيخات الخليج وأميركا، تعاد صياغة «الخريطة اليهودية» في فلسطين المحتلة… بعض العرب يتواطأ مع هذه «الخريطة» الجهنمية إلى حد الاستعداد للمساعدة في إزالة اسم فلسطين من كتبهم المدرسية، بعدما شاركوا بغزو العراق والعدوان على سورية.
بعد اندحار الاحتلال الصهيوني من بيروت باتجاه الجنوب، ومن ثم إلى داخل فلسطين المحتلة، يقول الدكتور «غي باخور»، وهو مستشرق وخبير قانوني صهيوني، «كانت الصدمة في «إسرائيل» كبيرة، وأخذ الجيش الإسرائيلي ينكفئ جنوباً، وتبخّر الحلم اللبناني فجأة. وحقق أنصار انطون سعاده نجاحاً كبيراً. وواصل أتباعه مطاردة الجيش «الإسرائيلي» في جنوب لبنان، مع مجموعة من المنتحرين والمنتحرات، سببوا لنا خسائر جسيمة».
***
في كل ألم يصيب عمق ذاكرتنا نعود إلى الكبار في بلادنا، فكيف نتحدث بأسلوب يليق بأبجديتهم ولا تتجدّد دماؤنا..؟ والاستثناء هنا هو ما استشرفه النهضوي أنطون سعاده منذ منتصف عشرينيات القرن المنصرم عندما قال «إننا نواجه الآن أعظم الحالات خطراً على وطننا ومجموعنا، فنحن أمام الطامعين والمعتدين في موقف تترتّب عليه إحدى نتيجتين أساسيتين هما الحياة والموت، وأي نتيجة حصلت كنا نحن المسؤولين عن تبعتها». وهو بذلك يشير إلى الخطر الصهيوني: «لا يعضد الحركة الصهيونية في العالم الخارجي إلا وعدُ بلفور بجعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود».
وعشية المصادقة على اتفاقية سايكس ـ بيكو في 9 أيار 1916، وأمام التحديات العاصفة التي تواجه بلادنا، بالتأزّم والتفاقم في شرور الأزمة الدموية الخانقة في سورية والعراق ولبنان، والاحتلال الجاثم فوق أرض فلسطين من النهر إلى البحر، نقفُ أمام أفكار أمين عام الجبهة الشعبية لتتحرير فلسطين الراحل جورج حبش، وقد أسبغت عليه مسيرته لقب «حكيم الثورة»، ولكن ليس المهم ارتداء لقب الطليعة… فهو لم تخدشه إغراءات ومؤامرات الزمن ومحاولات التصفية والاغتيال، وهو القائل: «لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلّة السائرين فيه»، و»إنّ السلطة السياسيّة تنبع من فوهات البنادق»، ولذلك بقي مثابراً بشكل استثنائي على زيارة ضريح يوسف العظمة.. ولهذا دلالات روحيّة كبيرة.
***
أدركت “إسرائيل” منذ البداية حجم المخاطر على رواياتها الخرافية حول “أرض الميعاد” وهي لذلك لاحقت غسان كنفاني (عكا 8 نيسان – أبريل 1936)، الروائي والقاص والصحافي والسياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ورأت بأنه يُشكّل خطراً على روايتها المزيفة؛ فاغتالته المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في (8 تموز – يوليو 1972)، بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت، مما أدى إلى استشهاده عن عمر يناهز 36 عاما، مع ابنة أخته لميس. وقد رثاه درويش، بقوله: “أيها الفلسطينيون… احذروا الموت الطبيعي!. هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني. ويا أيها الكتّاب… ارفعوا أقلامكم عن دمه المتعدد! هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن.
وبهذا الموت/الاستشهاد، حقق الشهيد غسان كنفاني مقولته: “الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت.. الثورة وحدها هي التي تواجه الموت وتستخدمه لتشق سبل الحياة”.. فكان سلاح “كنفاني” قلمه حيث حارب “إسرائيل” في كتاباته ومقالاته ورواياته، حيث كانت تلك الأسلحة أقوى من أسلحة “إسرائيل” نفسها.
وهكذا لا يكون دم الفلسطيني فلسطينياً إلاّ في حضرة الموت. ولكن الدم ليس هو الرابط المصيري بين الفلسطينيين بل الفعل والانتماء إلى الأسئلة المصيرية حول الارض والانتماء والهوية.
***
هذه لحظة فلسطين… فلسطيننا، فمَن يلتقطُها؟
ومَن يصرخ: أيّها الفلسطينيون استيقظوا. قبل الدولة، قبل الايديولوجيا الدينية، قبل خرائط الطريق، وما أكثرها، وقد تحوّلت خريطة قطع أوصال الفلسطينيين. اجلسوا حول طاولة مستديرة، من دون وساطات مصرية أو قطرية، إذا لم يكن باستطاعتكم الجلوس إلى طاولة مستطيلة، ولا تخرجوا من المكان قبل أن تحرّروا أو توحّدوا فلسطين في داخلكم. حينذاك تصبح لكم خريطة طريقكم، وهي غير التي تطبخ في الأقبية المعتمة!
وكي لا نخذل شعبنا، فإنّنا مطالبون بما يلي:
– سياسة جبهويّة توحّد كلّ قوى المقاومة وترفض الانقسام بين فصائلها جميعاً.
– سياسة ترفض كلّ مبادئ أوسلو وعزل رموزها الخيانيّة، وتكريس مفهوم أنّ المقاومة هي «القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره»، وأنّ حربنا مع هذا العدو هي «حرب وجود لا حرب حدود».
– سياسة وطنيّة قوميّة ترفض كلّ أنواع التطبيع التي تجري على مستوى الداخل الفلسطيني، كما على المستوى القومي والعربي.
– سياسة رفض كلّ مبادرات التسوية، «فلسطينية أو عربية أو أوروبية أو أميركية»، والتي هدفها تصفية القضية الفلسطينية.
إنها لحظة فلسطين التي ترفع راية المقاومة مجدداً.
مقال عميق جدا وتشريح للحظة مفصبية تاريخيا..مقترحات عملية تؤهل لاستثمار اللحظة الجماهيرية لاستنهاض الفعل ..دمت استاذ نظام ..مع تقديري
مقال عميق يقارب اللحظة التاريخية المفصلية التي يمر بها الصراع وقوة اقتراحية بمفردات نضالية تتساوق ومتطلبات المرحلة..دمت استاذ نظام محللا ومبدعا
مقال عميق يطارد متطلبات اللحظة واولوياتها استثمارا لمكتسبات يمكن ان تفضي لقلب موازين القوى في الصراع وقواعد الاشتباك..دمت استاذ نظام