من تلفيقات الآثاريين البريطانيين تشالرز وولي وماكس مالوان وترجمتهما الخاطئة، وصولاً إلى الترميمات العشوائية في عهد النظام السابق لمبنى أثري سومري قديم وتحويله إلى بيت للنبي إبراهيم.
القسم الأول
فقرات من مقالة للباحث العراقي عبدالسلام صبحي طه. المقالة بعنوان: “أكذوبة العقل الخرافي! آثار أور السومرية والمسألة الإبراهيمية.”
* ” نشرت مؤخراً أنباء عن زيارة للبابا فرنسيس إلى مدينة أور في محافظة ذي قار العراقية، فقرة جرى تعريفها في برنامج الزيارة الرسمي، بحسب الموقع الإلكتروني للفاتيكان، ومن ثم “حضور تجمع للأديان في سهل أور”. إذن الزيارة طابعها ديني وليس ثقافياً – سياحياً، كما كنا نأمل، لزيادة الوعي بالمدينة وتاريخها ومنجز أهلها القدماء.
*المحزن في الأمر أن السلطات الآثارية العراقية آنذاك “سنة 1999″، ممثلةً بهيئة الآثار التي كان يرأسها ربيع القيسي، كانت قد شرعت بأعمال إعمار
وترميمات سريعة لم تراع فيها الضوابط والسياقات المتعارف عليها في أعمال الترميم والصيانة الأثرية، وقد جرى اختيار بنايات في زاوية منعطف على زقاقين تبعد مسافة 300 متر تقريباً عن الزقورة (معبد وثني سومري)، كانت مجمعاً يضم مدرسة ومعبداً صغيراً، كما جرى تبليط الممشى لتسهيل مسير الزوار، وأُطلق على هذه الدار “بيت النبي إبراهيم“.
*إن استخدام الطابوق الفني الحديث، الإسمنت ومواد حديثة أخرى في بناء هذا البيت قد نزع عنه صفة القدم أو الأثر. ولقد شكل هذا البيت، بكل إشكالاته التاريخية والفنية، مشكلة وعقبة فنية كبرى واجهت محاولات قبول ملف أور من أجل وضعها على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، بوصفها محمية تراثية عالمية، فقد اعتبر البيت في حالة “صيانة غير علمية وإضافة غير مدروسة”.
* كان المنقّب البريطاني تشالرز وولي قد أشار في أحد تقارير بعثته التنقيبية بين 1922 و1934، إلى أن خبير النقوش والكتابات في البعثة قد ترجم رقيماً مسمارياً عُثر عليه في إحدى الدور السكنية تبعد مئات الأمتار عن الزقورة، مدوناً عليه اسم “آبرامو”، كما عُثر على تمثال لكبش مزخرف، ربما كان قاعدةً لطاولة في غرفة ملكية أو في معبد، وجرى ربطه بكبش التضحية الوارد في قصة النبي إبراهيم. ويظهر من خلال تسلسل الأحداث أن تشارلز وولي سرعان ما أبرق إلى مموليه من المتاحف والجامعات والجمعيات التوراتية عن هذا الكشف المبهر، وهو أمر جرى حوله الكثير من اللغط في الأوساط الآثارية، وتم تفنيد هذه الترجمة، بل والموضوع برمته لاحقًا.
*عدت إلى مذكرات الآثاري البريطاني ماكس مالوان (زوج الروائية الإنجليزية آجاثا كريستي)، لأجد أن الالتباسات في التصريحات كانت السبب في هذا الموضوع الذي ترسّخ، على نحو خاطئ، في وعي عامة الناس. إن ما أورده مالوان عن خبير النقوش، آنذاك، الذي صاحب بعثة المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأميركية في عشرينات القرن الماضي حين قرأ خطأً ما ظن أنه اسم “أبرامو”، قد ورد تفصيله في تلك المذكرات (ص 67)، ومفاده أنه (أي مالوان) قد تسرع وقتها في الإبراق إلى صديق له في إنجلترا وذكر الاكتشاف، وحين علم مدير البعثة وولي بالأمر وبخ مالوان بشدة، وجعله يبعث برقيةً ثانيةً الى الصديق ذاته يلتمس منه فيها الصمت حتى يحين وقت إعلان النبأ. ويعترف في النهاية بأن ذلك الوقت لم يحن أبدا.
*آراء آثاريين ومؤرخين عراقيين في موضوع نسبة النبي إبراهيم إلى مدينة أور العراقية، وأيضاً رأيهم في الدار المنسوبة إليه:
* أ. د عامر الجميلي من كلية الآثار في جامعة الموصل: “لا أعتقد جازماً بأن مدينة أور العراقية القديمة هي المدينة المفترضة مسقطاً لرأس النبي إبراهيم، لأنني أعتمد على المصادر لكي أبني يقيناً، لكنني شخصياً، بوصفي باحثاً في علم الآثار واللغات القديمة ومهتماً بتاريخ العراق والمنطقة وتراثها الثقافي، لا أعتقد جازماً بأن الدار أو مجموعة الدور في مدينة أور العراقية القديمة، والتي يجري تسويقها على أنها كانت سكنى للنبي إبراهيم، الوارد ذكره في الكتاب المقدس، هي بالفعل كذلك، فلم تصلنا أدلة كتابية وآثارية من بلاد الرافدين تؤيد الأحداث التي وردت في الكتاب المقدس عن شخصية باسم “أبراهام”، لكنني أظن أن شخصيةً كهذه، إن كانت قد عاشت، فلربما تكون في منطقة “أورفة أو الرها- حران”، وهي مدينة لها مشتركات كثيرة مع مدينة أور العراقية القديمة من جهة الاسم، وكذلك انتشار عبادة الإله القمر سين”.
*في شتاء عام 2010 التقيت عالم الآثار الراحل العراقي د. بهنام أبوالصوف في عمّان، وعرجنا على موضوع دار النبي إبراهيم في أور، فقال “ليس هنالك أيّ دليل آثاري على أن الدار التي تقع على بعد بضع مئات الأمتار من زقورة أور هي دار النبي إبراهيم، الوارد ذكره باسم “أبراهام” في العهد القديم، وإنما يرقى أصل هذه الدار إلى العصر الحضاري العراقي القديم الذي يُطلق عليه (عصر إيسن/لارسا)، ويمتد تقريباً من عام 2025 – 1730 ق.م، والذي ظن وولي حينها أن إبراهيم لا بد أن يكون قد عاش في هذه البيئة”.
*الدكتور مؤيد سعيد الدامرجي، رئيس المؤسسة الآثارية العراقية لعقدين من الزمن ( 1977 – 1998)، أن قصة عائدية الدار المنسوبة إلى النبي إبراهيم في مدينة أور الأثرية في محافظة ذي قار غير دقيقة، وأن المنشأ الحالي المزعوم قد جرى بناؤه من الإسمنت والطابوق تزامناً مع زيارة البابا السابق يوحنا بولص الثاني في عقد التسعينات من القرن الماضي، والذي كان يعتزم زيارة أور أيضاً، وكانت الغاية تسويق فكرة المدينة كمسقط رأس للنبي إبراهيم، ومن خلال ذلك تجري حلحلة موضوع الحصار المفروض على العراق بتوظيف ثقل الفاتيكان في الدوائر السياسية الغربية آنذاك.
*ومن كلية الآداب في جامعة البصرة، نطالع بحثًاً للدكتور هاشم عادل علي بعنوان “مدينة كوثى (تل إبراهيم) مدينة النبي إبراهيم الخليل” يفنّد فيه الحجج المتعلقة بنسب النبي إبراهيم إلى مدينة أور السومرية كونها تقع غرب نهر الفرات، في حين ورد وصفها في التوراة على أنها تقع في شرقه. ويستعرض بعد ذلك التباعد الزمني بين أور السومرية في عصر السلالة الثالثة وتلك التي وردت بالوصف على أنها كلدانية، والمسافة الزمنية التي بينهما تربو على خمسة عشر قرناً. وأن النبي إبراهيم لا بد أن يكون آمورياً لا آرامياً، بدلالة أسماء أبنائه وأحفاده (إسماعيل، وإسرائيل/يعقوب) التي تنتهي بـ”إيل” وهو السياق الذي كان يستخدمه سكان بابل القديمة (الآموريون).
*لابد لنا في النهاية من الاعتراف بأن أور ذات التراث العظيم الممتد إلى آلاف السنين من الخلق والإبداع في شتى مجالات الحياة، والتي رفدت مسيرة البشرية بمقومات وعناصر الحضارة المدنية، مدينة كهذه منحت التاريخ اسماً ومعنى ليست في حاجة إلى من يعرّف بها، من خلال إقحامها في روايات توراتية مثار جدل، وقد لا تصمد طويلاً أمام البحث العلمي الرصين. إنها لا تحتاج إلى من يسوّقها ضمن حزمة أكاذيب لرسم خرائط جديدة على الأرض، وتأصيل ما لا أصل له إلاّ في مخيال كتبة السرديات.
استدراك: كنت قد أشرت في أحد منشوراتي السابقة إلى تقارير صحافية، تحدثت عن إلغاء زيارة البابا الأسبق يوحنا بولص الثاني بسبب محاولة نظام صدام الحصول على دعم الفاتيكان لنظامه في الحرب ضد إيران، وقد تأكد لي أن هذه التقارير خاطئة لأن الحديث عن تلك الزيارة الملغاة جرى بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بأكثر من عشر سنوات، ولكن رفض النظام السابق للزيارة كان لأسباب أخرى تتعلق بالحصار المفروض آنذاك على العراق.
القسم الثاني
صفحات من مذكرات المنقب الآثاري البريطاني ماكس والوان، يشرح فيها كيف ولدت أكذوبة “بيت النبي إبراهيم في أور” ، من خلال خطأ في ترجمة اسم “أبرامو” على لوح طيني مسماري من قبل خبير النقوش في فريقه.
ورد في القسم السابق ما نقله الباحث عبد السلام طه، عن مذكرات المنقّب البريطاني ماكس والوان حول موضوع اكتشاف أثر عليه اسم “أبرامو” أي إبراهيم في أور، وكيف أن ذلك الأثر ظهر أنه غير صحيح ولا علاقة له بالنبي إبراهيم. وقد عدت بدوري الى كتاب مذكرات والوان وسأنقل منه نصَّ ما كتبه، إضافة إلى فقرات إضافية توضح أجواء العمل الآثاري الذي كان ينشط خلاله ماكس والون وزميله وولي تشالرز .. كتب:
* أثارت مهمة اختيار أكثر الأشياء إثارة وأهمية في الُّلقى المكتشفة في المقبرة الملكية بأور الاستياء والحقد. ولكني أعتقد أنه ينبغي أن يحتل مكان الشرف أول الكنوز التي اكتشفت سنة 1926 وهو الخنجر الذهبي المشهور، الذي وجد سليماً في غمده المعرَّش ومقبضه اللازوردي الأنيق المزين بالذهب. ولم يكن هناك شيء آخر يمكن مقارنته به وقد أعلن عالم آثاري مشهور خطأ أن الخنجر لا يمكن أن يكون سومرياً، بل لابد أنه صنع في عصر النهضة الإيطالي/ ص 60.
تعليق: (هذا نموذج واضح البشاعة على الاستشراقية العنصرية يورده ويعترف به ماكس والوان، فهم يستكثرون على قدماء شعب الرافدين أن يصنعوا خنجراً جميلاً من الذهب واللازورد قبل آلاف السنين وهو في الوقت نفسه مبعث فخر لأهل الرافدين!).
*هيمنت الزقورة أو المعبد المدرج على السهل المحيط بأور، كما هي الحال منذ تشييد أور حوالي 2100 ق.م. كان ارتفاعها الأصلي زهاء سبعين قدماً. ولا توجد زقورة أخرى تقارن بها في بلاد الرافدين كلها بسبب اللون الأحمر القاني والتكوين الذي لا يضاهى في البناء بالآجر… بسلالمه الثلاثة المؤلف كل منها من مائة درجة … بشكلها المهيب الضخم والانحناء اللطيف لواجهتها. لا يوجد خط مستقيم واحد في البناء كله ولكنه أصيب ببعض التلف ولم تنفذ إعادة تعميره بنجاح… خُتمت كل آجرة من الآجر المفخور الذي شيد به هذا الصرح الفخم باسم أور نمو مؤسس سلالة اور الثالثة، الذي عمَّر أور وجعلها عاصمة لبلاد سومر. ص 62.
هامش: (أخذ صدام حسين هذه الفكرة وطبقها حين أمر بترميم مدينة بابل الأثرية وبأن يُختم اسمه على الطابوق المستعمل، ما أثار غضب واستهجان علماء الآثار والباحثين في العالم على هذه الفعلة الشنعاء والتي لا تدل إلاَّ على رثاثة في التفكير والممارسة، وقد ألحقت تلك الترميمات بمدينة بابل أكبر التشويهات ورُفضت عالمياً من قبل المتخصصين.).
*اعتلى “أورنمو” العرش عام 2150 ق.م. وحكم ثمانية عشر عاماً. وكان إنجازه الدائم هو تأسيس الإدارة على قواعد سليمة وشق شبكة من القنوات وتحسين نوعية المحاصيل… ونعرف أيضاً أنَّ شولوكي ابن مشيد الزقورة حكم ثمانية وأربعين عاماً، وزخرف برج والده وكان موسيقياً يعزف على ثماني آلات … وأسس شولوكي الموازين والمقاييس الملكية، نعلم ذلك من بطة وزن منقوشة رائعة تزن حاولي أربعة أرطال عثر عليها قرب الزقورة/ ص 64.
*في أسفل الطبقات العالية المشيدة بالآجر أتذكر الاكتشاف المثير بين الأنقاض، لتمثال الإلهة “باو” جالسة على عرش وعلى جانبيها الأوز، والتي أعتقد أنها كانت الإلهة الحامية للفلاحين… أتذكر أنني نظرت ذات مرة إلى حيث نحتفظ بتحديد الطبقات على عمق حوالي عشرين قدماً، فشاهدت في زاوية الدار مذبحاً صغيراً معلقاً على عمود من التراب محتفظاً بموقعه نفسه فترة زادت على ستة قرون. عثرنا على تمثال صدئ لإلهة تقف على قاعدة من الاجر وعلى صندوق يضم تماثيل نحاسية صغيرة. كان هذا الحي السكني على حد قول تشالرز وولي الذي كان مولعاً به، هو الحي الذي كان لابد أن رب العائلة إبراهيم كان يعيش فيه عندما هاجر من أور إلى حران مدينة عبادة القمر. لم نعثر على أي أثر لإبراهيم نفسه الذي كان شيخاً ثرياً من سكان أور، ولكنه لم يكن شخصا فريد الأهمية.
في هذا العصر الذي أصبح فيه الإنجيل كتاباً أدبياً مهملاً، يصعب تصور مدى أهمية ما كشف عنه الكتاب المقدس في أذهان الناس، وفي الحقيقة فإن هذا العمل قاد جزئياً إلى التنقيبات في أور. كان وولي نفسه ابن قس بروتستانتي ورُبيَّ وفقا لتعاليم الكتاب المقدس. وكانت له ذاكرة قوية في العهد القديم والعهد الجديد. وذات مرة ظن الخبير في النقوش الذي يعمل معنا خطأً أنه قرأ اسم إبراهيم على لوح طيني منقوش. وتسرعتُ في الكتابة إلى صديق في إنكلترة وذكرتُ الاكتشاف. وعندما علم وولي أنني عملت ذلك وبخني بشدة وجعلني أبعث ببرقية ألتمس فيها من صديقي التزام الصمت حتى يحين وقت إعلان النبأ، غير أن ذلك الوقت لم يحن أبدا!
كان النوع النموذجي من البيوت في الفترة من عام 2000 إلى عام 1400 ق.م، متين التشييد. “ثم يورد والان وصفا مفصلا للبيوت” ليستنتج”: ولما كان إبراهيم يعيش حياة مدينية فقد كانت تلك هي الطريقة التي نُظِّمت بها. وقبل خمسين عاما عندما كنت أعمل في أور كانت معظم الدور في بغداد مشيدة وفق خريطة مشابهة للخريطة التي تعود إلى أربعة آلاف عام/ ص 65 وما بعدها.
الصورة: خريطة لمدينة أور في عصر السلالة الثالثة 2100 ق.م وتظهر فيها عدة أبنية منها قصر الملك أورنمو والزقورة ومبان أخرى والسور المحيط بالمدينة. ص 61 من الكتاب.
رابط المقالة:
https://aljadeedmagazine.com/%D8%A3%D9%83%D8%B0%D9%88%D8…
رابط لتسجيل نسخة رقمية من الكتاب: