العالم الآن

مقتل شيرين أبو عاقلة

الغرب لا يستطيع أن يغسل وصمة التواطؤ

بينما تسارع إسرائيل لتبرير أفعالها، ستبقى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة صامتتين بشكل مخجل، لكن الفلسطينيين لن يسكتوا.

طَوال شهور مضت، كان ثمة تمرد يختمر في الضفة الغربية المحتلة. وقد فقدت السلطة الفلسطينية سيطرتها على مدينة جنين، حيث توحَّدت فصائل المقاومة ضد التوغلات الإسرائيلية الليلية، كافة الفصائل.

الشاباك، جهاز المخابرات الإسرائيلي المحلي، مرتبك هو الآخر؛ فالهجمات بالأسلحة النارية على الإسرائيليين هي من عمل فلسطينيين لا تربطهم صلة تذكر ببعضهم، ولا بالجماعات المسلحة. ولا يوجد دليل على أن هذه الهجمات منظمة أو منسقة، ويبدو أن القاسم المشترك بين المنفذين هو الرفض المتزايد للاحتلال.

هذه ليست جولة قتال دورية تنتهي عندما تشتعل معركة ما، أو عندما يُصدر الإسرائيليون المزيد من تصاريح العمل للعمال الفلسطينيين، ثم تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي في هذا الجزء من العالم.

إنه جيل جديد من الفلسطينيين، كثير منهم لم يولدوا عندما اندلعت الانتفاضة الأولى أو الثانية، وهو يقف على أهبة الاستعداد لتصعيد القتال، إنهم لا يعرفون الخوف ولا زعيم لهم.

لكن حتى اليوم، لم يكن لهذا الجيل اسم أو وجه أو أيقونة لقيادته. أما الآن فقد صار لهم ذلك؛ إنها سيدة فلسطينية تدعى شيرين أبو عاقلة.

المكان الذي حدث فيه إطلاق النار مهم. كان الصحفيون يقفون عند منعطف لا يجرؤ المقاتلون الفلسطينيون على المجازفة بالوجود فيه، لأنهم سيكونون في العراء ويفتقرون إلى الحماية. يقول العديد من الشهود إن تبادل إطلاق النار في الأزقة كان بعيداً من مكان تجمع الصحفيين.

رواية شاهد عيان:

أوضحت رواية شاهد عيان قدمتها الصحافية شذى حنيشة، التي كانت بجانب أبو عاقلة عندما أصيبت بالرصاص، أن مجموعة الصحفيين أبلغت القوات الإسرائيلية عن وجودهم قبل عشر دقائق من تحركها صعوداً نحو مخيم جنين. لم يتم إطلاق أية طلقات تحذيرية من الجانب الإسرائيلي. وقد أصيب زميلها، منتج الجزيرة علي السمودي، برصاصة أولى في ظهره. حوصرت أبو عاقلة وحنيشة على الجانب الآخر من الشارع وظهرهما إلى الحائط.

قالت حنيشة: (في ذلك الوقت، اخترقت رصاصة أخرى رقبة شيرين، وسقطت على الأرض بجواري… ناديتها باسمها لكنها لم تتحرك. عندما حاولت مد ذراعي للوصول إليها، أطلقت نحونا رصاصة أخرى، واضطررتُ للبقاء مختبئة خلف شجرة. تلك الشجرة أنقذت حياتي، لأنها كانت الشيء الوحيد الذي كان يعيق رؤية الجنود لي.)

لاحقاً، أقرَّ الجيش الإسرائيلي أن جنوده كانوا ينفذون عملية في المنطقة في ذلك الوقت، وسرعان ما حاولوا إلصاق إطلاق النار بالمقاتلين الفلسطينيين. وأضافت -مصادر الجيش الإسرائيلي – أن تبادل إطلاق النار وقع بين قواتها ومقاتلين فلسطينيين وإنها تحقق في ما إذا كان “صحفيون قد أصيبوا، ربما بنيران فلسطينية”.

لإثبات هذه النقطة، قام كل من الجيش والسفارة الأمريكية بنشر مقطع فيديو لمسلحين فلسطينيين في جنين وهم يطلقون النار في زقاق، في إشارة إلى أنهم مسؤولون. ولكن منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية غير الحكومية زارت المكان الذي التقطت فيه تلك اللقطات الفيديوية ولقد اندفعت السفارة الأمريكية بقوة لدعم رواية الجيش الإسرائيلي للأحداث وهذا أمر مهم أيضًا، وقالت إنه من المستحيل إصابة أبو عاقلة من هناك!!

“لا حاجة للاعتذار”:

لا يعني ذلك أن الإسرائيليين يعتقدون أن لديهم أي شيء للاعتذار عنه. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ران كوخاف لراديو الجيش إنه (حتى لو أطلق الجنود النار على – أو، لا سمح الله، أصابوا – شخصاً غير مشارك، فقد حدث هذا في معركة، أثناء تبادل لإطلاق النار، حيث كان هناك فلسطيني مع الرماة. لذلك يمكن أن يحدث هذا الشيء.)

ووصف كوخاف السيدة أبو عاقلة بأنها “تصور وتعمل لمصلحة وسيلة إعلامية وسط فلسطينيين مسلحين. إنهم مسلحون بالكاميرات، إذا سمحت لي أن أقول ذلك”.

يتفق زملاء كوخاف مع هذا الرأي. وقال الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي السابق آفي بينياهو: (لنفترض أن شيرين أبو عاقلة قتلت برصاص الجيش. لا داعي للاعتذار عن ذلك).

عضو الكنيست الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير كان أقل تثبيطاً، حيث غرد: “أنا أؤيد الجنود الإسرائيليين بشكل كامل، لأن مراسلي الجزيرة غالباً ما يعرقلون عملهم من خلال الوقوف عمداً في منتصف ساحة المعركة”.

من الواضح أن الإجابة هي: “حتى لو قتلها قناص إسرائيلي، ما هي مشكلة إطلاق النار على الصحفيين؟” رد لا يختلف عن الرد الذي قدمه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بشأن مقتل خاشقجي.

أبو عاقلة، ليست أول صحفي يقتل برصاص قناص إسرائيلي. قبل أسبوعين فقط، قُدمت مذكرات قانونية إلى المحكمة الجنائية الدولية تزعم الاستهداف الممنهج للصحفيين العاملين في فلسطين. تم رفعها من قبل الاتحاد الدولي للصحفيين، ونقابة الصحفيين الفلسطينيين (PJS) ومركز العدل الدولي للفلسطينيين، نيابة عن أربعة صحفيين هم أحمد أبو حسين، ياسر مرتجى، معاذ عمارنة ونضال اشتية، هؤلاء الصحافيون الفلسطينيون قُتلوا أو تعرضوا للتشويه، أثناء تغطية المظاهرات في غزة.

وقالت نقابة الصحفيين الفلسطينيين في عام 2020 إن ما لا يقل عن 46 صحفياً قتلوا في فلسطين منذ عام 2000، ولم تتم محاسبة أي جندي أو ضابط إسرائيلي واحد. هذه الحوادث، حسب الادعاء القانوني، قد ترقى إلى جرائم حرب.

شهيدة من أجل فلسطين:

يمكننا أن نكون على يقين من شيء واحد هو أن البلدان نفسها التي تتعامل مع (جرائم الحرب الروسية) في أوكرانيا، ستكون صامتة تماماً حول وفاة الفلسطيني الثامن والخمسين الذي يُقتل هذا العام، كما حدث مع كل القتلى الآخرين.

لكن لن يكون هناك صمت تام من الجانب الفلسطيني. في غضون دقائق من وفاتها في المستشفى، حمل جثمان شيرين أبو عاقلة من قبل جميع الفصائل الفلسطينية في شوارع جنين. الدين هنا لا يهم. صلّى لها المقاتلون المسلمون في احتفال مسيحي.

فلسطينية مسيحية ومقدسية استشهدت اليوم هي شيرين أبو عاقلة في سبيل القضية الفلسطينية. كانت معروفة منذ زمن بعيد لملايين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم بأنها وجه الانتفاضة الثانية. صحفية مخضرمة، غير مرتبطة بأي فصيل سياسي، غطت كل حدث منذ ذلك الحين بنفس المهنية التي دفعتها إلى التواجد في ذلك الدوار في جنين صباح الأربعاء.

كانت أبو عاقلة هناك منذ بداية عمل قناة الجزيرة. في مقطع فيديو بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها، أوضحت دوافعها للاستمرار: (لن أنسى أبداً مقدار الدمار أو الشعور بأن الموت كان قريباً جداً منا. بالكاد كنا نرى منازلنا. كنا نحمل كاميراتنا ونتحرك عبر نقاط التفتيش العسكرية والطرق غير المستوية. كنا نقضي ليالينا في المستشفيات أو مع أشخاص لا نعرفهم. وعلى الرغم من المخاطر، كنا مصرين على مواصلة عملنا.

وتابعت: كان ذلك في عام 2002، عندما شهدت الضفة الغربية غزواً لم تشهده منذ الاحتلال عام 1967…في اللحظات الصعبة، تغلبت على خوفي لأنني اخترت الصحافة لأكون قريبة من الناس. ربما ليس من السهل بالنسبة لي تغيير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرةً على إيصال هذا الصوت إلى العالم.

بهذه الطريقة، هناك حقيقة واحدة تظهر من عمليات مثل تلك التي حدثت في جنين: حقيقتهم. وهم مصممون بشكل متزايد على الاحتفاظ بها على هذا النحو. كان وجود أبو عاقلة يوقف ذلك، فقتلوها.

صمت ساخر:

لكن إسرائيل بحاجة إلى غطاء دولي لمواصلة القيام بأفعالها هذه، ويتم توفيره عن طيب خاطر من قبل نفس الدول التي تحارب روسيا بمثل هذا “اليقين” الأخلاقي في صواب أفعالها.

وتشمل هذه الدول الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين أعلنتا قبل 24 ساعة فقط عن نيتها خلال خطاب الملكة لتمرير تشريع يحظر المجالس المحلية والهيئات العامة الأخرى من المشاركة في حملات المقاطعة “لإسرائيل” وسحب الاستثمارات – الهدف الرئيسي منها هو حركة المقاطعة الفلسطينية.

لذلك نحن نحظر المقاطعة، ونحظر العمل اللاعنفي، ونوفر الغطاء عندما يقتل القناصة الإسرائيليون الصحفيين عمداً. لا يمكن أن يكون هناك ضوء أخضر أكثر سطوعاً لإسرائيل لمواصلة ما تفعله.

وقبل أسبوع، قضت المحكمة الإسرائيلية العليا بإمكانية طرد 1000 فلسطيني من منطقة بالضفة الغربية المحتلة والأراضي المخصصة للاستخدام العسكري – وهي واحدة من أكبر عمليات طرد الفلسطينيين منذ بدء الاحتلال في عام .1967

لقد ضحت أبو عاقلة بحياتها لتُظهر للعالم حقيقة ما يجري، وهي ليست وحدها بأي حال من الأحوال. هناك نساء فلسطينيات شجاعات يقمن بالشيء نفسه. عملهم هو وصمة عار على ضمير العالم الغربي الذي يعتنق القيم الأخلاقية عندما يناسبه ذلك، ويتخلص منها في سلة النفايات الجماعية عندما لا يناسبه ذلك.

إنها دول تدعي الدفاع عن الديمقراطية وحرية التعبير في معاركها مع الأعداء، ولكنها صامتة بشكل يثير السخرية عن تجاوزات حلفائها.

لكن اللطخة التي تنشأ من النظر إلى الاتجاه الآخر لن تزول بمرور الوقت. إنه شيء لا يمحى. وزراء الخارجية الأميركيون، واحداً تلو الآخر، سواء أكانوا يمينيين فظًين أم ليبراليين، هم مذنبون في مقتل أبو عاقلة تماماً مثلما هو مذنب القناص الذي كان إصبعه على الزناد.

—————————————————————-

*ديفيد هيرست هو مؤسس ورئيس تحرير صحيفة وموقع Middle East Eye. وهو محلل سياسي متخصص بمنطقة الشرق الأوسط. كان كبير كتاب صحيفة The Guardian، ومراسلاً صحفياً في روسيا وأوروبا وبلفاست.

المترجم: علاء اللامي، باحث وكاتب من العراق.

*تمت الترجمة عن نسخة المقالة التي نشرت في موقع: middleeasteye.net

ديفيد هيرست

*ديفيد هيرست هو مؤسس ورئيس تحرير صحيفة وموقع Middle East Eye. وهو محلل سياسي متخصص بمنطقة الشرق الأوسط. كان كبير كتاب صحيفة The Guardian، ومراسلاً صحفيا في روسيا وأوروبا وبلفاست. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق