تكادُ لا تخلو جلسة من جلسات السُّوريين من تلك الجملة الاسميَّة التي تقول “هجرة الشَّباب” لا بل إنَّ البعض يتجاوزها للتَّعبير باستخدامِ مفردةٍ تبدو أكثر دِقَّةً وألماً في دورانها بين ضفَّتي الواقع والشُّعور الوطني، فيقولون “نزيف”.. نعم إنَّهُ نزيف الوطن لطاقات أبنائه، ولوجودهم فيه. فكلُّ شابٍّ أو شابَّةٍ من أبناء هذا البلد العريق والمثقل بخساراتِه، يُشَكِّلُ قيمة إنسانيَّةً كبيرة. وهذا لا يقتصِرُ على الحالة الحضاريَّةِ للوطن، ولكنَّهُ ينسحب بصورة دراميَّة على أصغر مكون فيه.. العائلة. حيث لا بدَّ لنا من النَّظر بعين الاعتبار لكلِّ العائلات السُّوريَّةِ الَّتي تخسر أبناءها، فتتحول إلى جيل من المُسنين، يواجِهُ صعوبات حياة غادرها الجيل الثّاني وربَّما الثالث.
يميلُ بعضُ النّاسِ لإطلاق الأحكام في التَّعاطي مع الظَّواهر الاجتماعيَّة وأنا لستُ من هذا البعض، لأنّي أفضِّلُ تفكيك المسألة، ومحاولة فهمها كأسباب وكدوافع، وصولاً إلى النَّتائج، ولم لا… إلى الأفكار ومقترحاتِ الحلولِ أيضاً. فالشَّباب السّوريُّ بدأ برحلة مغادرة هذه الأرض لعدد من الأسباب وفي أكثر من مرحلة تكادُ المرحلة الحاليَّةُ من القلق المعيشي تكون أكثرها حدَّةً، بعد أن كان السَّبب الأبرز في سنوات الحرب الأولى هو الوضع الأمني، وحالات النُّزوح الجماعيَّة التي طالت عدداً من القرى والبلدات والمدن، إبّان تعَرُّضِها لهجمات المسلحين أو لدخولهم إليها وإلى جوارها، مِمّا تَسبَّب باندلاع المعارك فيها وحولها. و”النُّزوح” ظاهرة تحمل في طيّاتِها احتمالات “اللجوء” حيث لا يتَّوقَّف البعض عند حدود الوطن ويُضطَّرُّ إلى الهجرة خارجه في رحلة البحث عن الأمان والرِّزق.. ولكنَّ ما لا يُمكِنُ إهماله من المشهد ونحن نحاول رصد حيثيّاتِهِ، هو تراجع نمط الحياة في وطننا الحبيب، حيث تدهور الدّخل إلى حدٍّ كارثيٍّ، وتراجعت الخدمات بشكل كبير، وهي تكاد تكون معدومة في بعض المناطق (تغطية الهاتف، أو المياه، أو الكهرباء الخ) ولفترات تطول أحياناً بصورة تنغِّص حياة السُّوريين، وخاصَّةً الشَّباب في مُقتَبل العمر، والَّذين يتوقون بشكلٍ جماعيِّ إلى حياة كريمة وميسَّرة إذا لم نقل “سهلة وواعِدة”.. وهذا غالِباً ما يختصِرُ مشهد “الميل الكبير للهجرة” لديهم، فيما يمكنني تسميتُه بـ “فقدان الثِّقة في المستقبل”.
صحيحٌ أنَّ هناك حالة من السَّلبيَّة في مشاعر النَّاس فيما يخُصُّ قراءة الوضع المعيشي والأفق الَّذي يخبِّئهُ، وهذه السَّلبيَّة لا بد أنّها تتعرَّضُ للتجييش أيضاً من قبل أيادٍ خفيَّةٍ ومشبوهة، ولكنّهُ لا يمكننا بالمقابل إنكار هذا الواقع الصَّعب الذي يطبق بكفَّيه على حياة السُّوريين، لأنَّ الاعتراف بالظَّواهر، هو الطَّريق العلميُّ لفهمها ومحاولة وضع الحلول لها. كما أنَّهُ لا يُمكننا مخاطبة الشَّباب والوصول لعقولهم وتوقُّع الاستجابة الواعية منهم، إذا كُنّا نُكابِرُ على جراحهم، وهي جراح الوطن على كلِّ حالٍ وقبل كلِّ شيء.. وطن يتلمَّسُ منّا أن نُقرَّ بمعاناته حتى نسير قدماً في طريق خلاصه متسَلِّحين بالعلم والإرادة والإدارة.
إذا كان الحديث عن “الحرب” كسبب للأزمات التي نعيشها، يقترب من أن يُصبِحَ “ذريعة” بدل أن يكون “جواباً” على معاناة النّاس، فإنَّ القفز فوق الحرب أيضاً يبدو كانفصال عن الواقع، كنتُ للتَّوِّ أطالبُ بعدم السُّقوطِ فيه. لذلك فالاستجابة الواعية لسؤال المستقبل الَّذي يؤرِّق عقل السُّوريين، يجب أن تحمل في طيّاتها وفي كل مرَّةٍ تحدث فيها، أمرين لا يمكن التَّغاضي عنهما، وهما:
– أوّلاً، الإقرار بالواقع وبمفرداته الدّاخليَّة من ترهلٍ وضعف في الإدارة.
– ثانياً، البحث في الحلول.
إذ لا يُمكننا توقُّع الوصول إلى ذهن النّاس دون أن نضع في صلب حديثنا أفكاراً بنّاءة عن الحلول التي نسعى لها. كما أنَّ تقديم المثل والنَّموذج سيكون أيضاً في غاية الأهميَّة والأثر.
إنَّ تحسين الواقع ليس حلماً، وهو ممكن من خلال امتلاك المبادرة والبدء فيها بشكل مباشر، ولتكن الخطوات الصَّغيرة المعنيَّة برفع المعاناة والإجراءات المعقَّدة والمرهقة التي تنتظر الكثير من المواطنين، ولنأخذ مثالاً بسيطاً عن كل شاب جامعيٍّ، عندما يُقبِلُ على التَّسجيل ودفع الرُّسوم بطريقة لا تُشبِهُ العصر الّذي نعيش فيه لما فيها من طوابير وانتظار لساعات، وغالباً في العراء إمّا تحت المطر أو في قيظ الحر. هذه الآلية ليست فقط مرهِقة ومسيئة، ولكِنَّها وللمفارقة لا تشبه تفاصيل الأتمتة المُيَسَّرة التي أصبحنا نمتلكها مثل تطبيقات (وين) أو (الدفع الالكتروني) وصارت تُمَكِّن المواطن من إجراء عمليات كانت تتطلَّبُ عناء وتكاليف التَّنَقُّلِ والانتظار، وهو جالسٌ في منزله.
إنَّ من صنع هذه قادرٌ على صناعةِ غيرها لنخطو خطوات متلاحقة في ترميم وجه هذا البلد في عيون وخواطِرِ أبنائه، واضعين طريقة العيش وتكاليفه كأولويَّةٍ في سلَّمِ مهامنا، خاصَّةً وأنَّ الأشهر الأخيرة حملت عدداً من الخطوات الَّتي بدأت تعالج الوضع المعيشي من ناحية الدَّخل والقوة الشرائية، وهذان محوران أساسان في أي جهد يمكن أن نبذله من أجل تضميد جراح البلد وإيقاف نزيفه.