أعتقد أن النجاح الباهر الذي حققته عملية “حماس” كان بالنسبة للحركة نفسها غير متوقع على الإطلاق، وكذلك عواقب هذه العملية.
في رأيي المتواضع أن الأمور الآن لا تسير وفق خطة “حماس“، وهو ما ينعكس في الخطوات غير المدروسة، مثل الوعيد بقتل الرهائن، وهو ما سيلحق الضرر بحماس نفسها بشكل واضح.
السؤال الرئيسي اليوم هو: من هي الجهة الرئيسية؟ وخطة من التي يتم تنفيذها؟ أم أنه لم تعد هناك خطة وتتجه كافة الأطراف إلى الارتجال؟
إن عدم الكفاءة المذهلة، والفعالية القتالية المنخفضة، وعدم القدرة على السيطرة على الجيش، وفشل أجهزة الاستخبارات (وهما أو حقيقة) تتعارض تماما مع الصورة الراسخة والإنجازات السابقة لإسرائيل لدرجة أن الجميع يبدؤون بشكل لا إرادي في الشك أن إسرائيل كانت تعلم، إلا أنها لم تمنع عن عمد هجوم “حماس” لتعلن بعد ذلك حقها في “الدفاع عن النفس” بلا قيود. في رأيي أن هذه الرواية تحمل قدرا من الوجاهة، لأن كل شيء في الوقت الراهن يتجه نحو حقيقة أن إسرائيل ستصبح المستفيد الرئيسي.
تواجه إسرائيل مهمتين استراتيجيتين: إزالة التهديد المتمثل في النمو الديموغرافي الفلسطيني، الذي سيحوّل إسرائيل إلى دولة فلسطينية في غضون بضعة عقود من الزمن، وتحييد إيران أو على الأقل برنامجها النووي. ومع كل عام يمر، تصبح هذه المهام أكثر صعوبة، ويتعين العمل بشكل أسرع.
والقصف الشامل للمناطق المدنية، وقطع الكهرباء، والمياه، والوعود الإسرائيلية بعدم ترك سوى الخيام في غزة، والضغط المكثف على مصر لسحب سكان غزة، يشير إلى أن القضية تتعلق بالتطهير العرقي، وإخلاء غزة من السكان الفلسطينيين، وقد بدأت إسرائيل بالفعل في إنجاز هذه المهمة.
والآن أصبح لدى إسرائيل فرصة لحل المشكلة الاستراتيجية الأولى، على الأقل في غزة. وللقيام بذلك، لا تحتاج إلى تصفية حماس، ولا تحتاج إلى الذهاب إلى غزة، وهي تصريحات بغرض التمويه من وجهة نظري.
بالنسبة لإسرائيل، يبدو السيناريو الأمثل بأقل التكاليف هو “الإبادة الجماعية البطيئة”، حيث ستواصل قصف غزة، وتدمير عدد من المباني وجعل الحياة لا تطاق بالنسبة للفلسطينيين بنسبة 1% مع كل يوم يمر. تطبيق حصار ليس كامل وإنما حصار صارم وإبادة منخفضة الشدة عن بعد، والتي سيعتاد عليها العالم كله تقريبا. وهو أقل من المستوى الذي سيضطر فيه “حزب الله” إلى فقدان ماء الوجه إذا لم يتدخل. وفي هذا السيناريو، ينبغي لحماس أن تبقى، أن تبقى في غزة كذريعة للتطهير العرقي.
في رأيي أن التأخير في العملية البرية لا يمكن تفسيره فقط بالقضية التي لم تحل، والمتمثلة في فتح ممر إلى سيناء، بل وأيضا بفهم القيادة الإسرائيلية لتفضيل السيناريو منخفض الشدة لتدمير غزة.
إن تخفيف لهجة المسؤولين الإسرائيليين تجاه “حماس” في اليومين الأخيرين والبدء في تهيئة شروط المساومة يشير إلى تحرك هذا السيناريو “البطيء”. وكما أعتقد، فسوف يتم قريبا إجراء بعض التخفيفات فيما يتعلق بإيصال المياه والغذاء والوقود، للفترة حتى فتح الممر إلى مصر، ومن ثم سيكون من الممكن تشديد النظام.
ولكن، ما العمل بالنسبة للضفة الغربية؟ أعتقد أن هذه القضية ستترك لوقت لاحق، لأنه من الصعب إجبار مصر على قبول حتى سكان غزة. ولا أستبعد أنه إذا استمر رفض القاهرة العنيد، قد تلجأ الولايات المتحدة لتنظيم انهيار مالي في مصر من أجل ربط قضية القروض الجديدة بمسألة قبول الفلسطينيين.
سيأتي الدور على الضفة الغربية إذا أو عندما تغرق المنطقة بالكامل في حرب دموية واسعة النطاق، وعلى خلفية الأهوال ستتمكن إسرائيل من طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية، حتى إلى الصحراء، دون الاهتمام بأي عواقب على الوضع الإنساني.
إلا أن إنجاز المهمة الأولى في هذه المرحلة يتعارض مع الثانية. فالمهمة الثانية (تحييد إيران) لا يمكن حلها إلا من خلال جر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصراع. ويمكن تحقيق ذلك من خلال التصعيد الأقصى للصراع في غزة، شديد الشراسة، والذي سيتسبب في إبادة جماعية للفلسطينيين، ما سيجبر معارضي إسرائيل على الدخول إلى الحرب ضد إرادتهم، أو من خلال الهجوم على الولايات المتحدة تحت راية أجنبية.
وبطبيعة الحال، فإن فتح جبهة ثانية هو آخر ما تحتاجه واشنطن على خلفية اقتراب خسارتها في الحرب بأوكرانيا والاشتباك المرتقب مع الصين، حيث ستمارس الولايات المتحدة أقصى قدر من الضغط على جميع أطراف النزاع من أجل وقف التصعيد.
فالولايات المتحدة مستعدة لمساعدة إسرائيل على تطهير غزة من الفلسطينيين، إلا أنها ترغب في القيام بذلك بهدوء قدر الإمكان، دون زيادة عدد المشاركين في الصراع، ودون تكاليف تضطر هي لدفعها.
بالنسبة لأعداء إسرائيل، فإن الخيارات المتاحة حاليا لا تتضمن خيار تصفية إسرائيل بالوسائل العسكرية، ولا يشكل ذلك، على أقل تقدير، أولوية راهنة. تشتعل المشاعر في الشوارع، لكن قادة الدول يضطرون إلى الاسترشاد بالمصالح العقلانية.
بطريقة أو بأخرى، فإن تدمير إسرائيل أمر مستحيل دون إزالة الولايات المتحدة من رقعة الشطرنج بطريقة أو بأخرى. ولذلك، فإن القصف المتقطع لإسرائيل عبر الحدود ليس سوى إظهار لموقف سياسي، ومسرح يناسب الجانبين. أما الحرب الحقيقية لتدمير إسرائيل هي حرب مع الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن الرهانات على الحرب العالمية الثالثة التي قد تندلع هي الحد الأقصى، ونحن نتحدث عن وجود الدول، لذلك يمكنك أن تنسى أي قيود إنسانية أو أخلاقية في مثل هذه الحرب، التي ستتخذ فيها الأطراف أي إجراءات متاحة. وهي حرب ستجلب خسائر فادحة لأي عدو للولايات المتحدة.
فمن ناحية، أصبحت الولايات المتحدة ضعيفة بسبب الحرب في أوكرانيا والأزمة الداخلية، والآن هي اللحظة المواتية للغاية لشن حرب معها، إذا كنت على استعداد لتحمل الخسائر. ولكن، بالنسبة لـ “حزب الله” وإيران، لا تشكل إسرائيل تهديدا مباشرا لوجودهما، لهذا لا يوجد سبب موضوعي للاستعجال، ويمكنهما أن تنتظرا وتريا، فلربما (وعلى الأرجح) ستزداد الولايات المتحدة ضعفا.
لذلك، وفي رأيي، أنه في هذه المرحلة، لا تهتم إيران ولا “حزب الله” بالمشاركة الكاملة في الحرب. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال استفزازات ناجحة للقوى الراغبة في جرهما إلى الصراع، والتطورات غير المنضبطة للأحداث.
كما أنه ليس هناك ما يضمن أن مشاركتهما في الحرب ستخفف من محنة الشعب الفلسطيني على المدى القصير، بل على العكس من ذلك، قد توسع إسرائيل من التطهير العرقي في الضفة الغربية في حالة نشوب حرب مباشرة مع “حزب الله”، ولا سيما إيران.
وإجابة على السؤال المطروح أعلاه، أشك في أننا نسير على خطة الولايات المتحدة أو إيران أو “حزب الله” وخاصة “حماس”.. فنتائج هجوم الأخيرة هي نتائج انتحارية لدرجة أنه بدا في بداية الأمر كما لو أنها لا يمكن أن تحدث إلا كجزء من خطة أكبر من قبل لاعب آخر أكبر. ولكن، وحتى لو كان الأمر كذلك، فإن هذا اللاعب ليس في عجلة من أمره لإشراك نفسه في الصراع. في رأيي، الأرجح أننا نسير على خطى إسرائيل، أو أن كل الخطط انتهت، والجميع يرتجل.
ولا أستبعد خلاف ذلك، لكني أفضل أن أتوقع حربا عن بعد في غزة، دون عملية برية. وإذا لم يتم فتح الممر إلى مصر، فسيكون هناك تدمير بطيء لغزة وسكانها. هناك أيضا احتمال كبير بحدوث استفزاز ضد الولايات المتحدة من خلال القتل الجماعي للجنود الأمريكيين، ما سيسمح لإسرائيل بتنظيم حرب مباشرة ما بين إيران والولايات المتحدة.
لو كنت مكان نتنياهو، لاشتريت زورقين مسيرين بريطانيين من أوكرانيا، ورسمت عليهما أعلام “حزب الله” وإيران، وهاجمت حاملة الطائرات الأمريكية. لكنه سيفعل ذلك بعد أن ينجح في كسر مصر، وطرد معظم سكان غزة إلى سيناء.
وبالتالي، أعتقد أنه لن تكون هناك حرب إقليمية كبرى في الأشهر المقبل.
ختاماً، وبطبيعة الحال، فهذا مجرد رأيي المتواضع، الذي يحتمل الخطأ.
—————————————–
تنويه: مصدر المقال، قناة التلغرام الخاصة بالكاتب.