على ما يبدو أنَّ “زمان الطائفية” لم يعد واقعاً معاشاً فحسب، بل أصبح بعد سنوات عجاف، وسيكون الصبغة الأبرز لكل ما سيأتي على سوريا من ويل وثبور وعظائم الامور، وأنَّ من لا يتقنه يجب عليه أن يتعلّمه وإلّا بات خروفاً ساذجاً في عالم تحكمه غريزة القطيع المتوحش.
بدايةً، لا أستطيع أن أخرج من جلدي ولا أن أتنكّر لكل تاريخ علاقاتي مع أصدقاء جمعتني معهم سوريا ومدينتي القامشلي، وكانوا أخوة ومازالوا، ولم تلوث علاقتنا سنين الطائفية القذرة والفرز المشبوه وشعار “الآخر” المريب الذي تم تسويقه وترسيخه لدى الناس بهدوء وبلا صخب وتلقفه الناس ليصحو خوفهم وحقدهم رويداً…رويداً.
مجرد زيارة وتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي يجعلك تلعن هذه الصفحات الافتراضية التي لم تعد تقدم (في غالبيتها) إلّا وجبة عَفِنة من الكراهية والتحريض والحقد والشتائم والاتهامات المتبادلة، فتجد نفسك أسيرها، فتنأى بنفسك عن هذه الحروب القذرة، وتصمت على مضض لعل لغة العقل تصحو يوماً ما، لكن ما حدث في سوريا من عمل منسق، ومصنّع بمهارة لإلغاء لغة العقل، وإبقاء العبث الكوني بمصائر الناس مستمراً ومتعطشاً لمزيد من الدماء والانقسامات والأحقاد.
فيما سبق كانت المغفور لها وطيب الله ثراها (الوحدة الوطنية) خدعة على ما يبدو لإنها استخدمت كشعار على الجدران واللافتات الملونة في الشوارع، وتم العمل على تحويل هذا الشعار لواقع مُعاش بالقوة وبسياسة البدائل المخيفة والمرعبة، لذلك اكتشفنا أنّها كانت وهماً عندما سقطت الأقنعة وانهار الجميع غارقين في رمال الطائفية المتحركة، وبالتالي كانت (الوحدة الوطنية) خياراً شخصيّاً واجتماعيّاً لدى الكثيرين عاشوه وتعايشوا معه فلم يكن هناك عيش مشترك، بل تعايش مشترك والفرق واضح وكبير ما بين المفهومين والمصطلحين.
ولمزيد من التخوين والإقصاء تم تصنيع مصطلح (الأقليّات) تصنّيعاً شيطانياً، فبات الجميع ينظرون لبعضهم البعض على أنهم (أقليّة)، والأقليّات باتت تخّون بعضها البعض، وتفترس بعضها البعض، ولم ينتبه أحد أنَّ الهاربين من جحيم (الوحدة الوطنية) لما خلف الحدود لم يكونوا من طيفٍ واحد، بل كانت الخطوات المتبّعة في تهجّير الجميع مدروسة بعناية فائقة ليكتمل التغيير الديمغرافي في سوريا، ويصبح الجميع أقليات متناثرة هناك وهنالك لا يجمعها سوى الخلافات والنزاعات والأحقاد وظلال الدماء المُراقة على الأرض السورية، وفي خضم هذه التغييرات أصبح الصراع على الهويّة على أشدّه، وباتت الهويّة الطائفيّة والمذهبيّة هي طوق النجاة، ولم يبقَ من الهويّة السوريّة سِوى شعارات وأقوال وحكم مأثورة ظهرت قبل سنوات واضمحلت وتلاشت حتى تكاد تندثر لغير رجعة.
هكذا ووسط فوضى الأقليّات لم يبقَ سِوى أقليّة واحدة تتضاءل يوماً إثر آخر هي (الأقليّة السوريّة)، والتي يحمل صفاتها كل من نجا بنفسه من أوزار الطائفيّة، والمذهبيّة، والأثنيّة، والحزبيّة.
وكما كانت الوحدة الوطنيّة شعاراً على الجدران واللافتات القماشية الزاهية الألوان، كانت معالجة النَفس الطائفي الذي تمت تغذيته بأوكسجين الحقد والكراهية، فجاءت المعالجة بذات الطريقة الخشبية وعبر إعلام خشبي الملامح لم تتغير أساليبه البالية منذ عقود.
فارتفع شعار (واحد واحد واحد … الشعب السوري واحد)، وبسرعة كان الشعار يعم المدن والبلدات والقرى السوريّة، لكنه تضاءل وخفت شيئاً فشيئاً، لأن الجميع اكتشف أننا … ثلاثة وعشرين مليون (واحد)، وأنَّ عقوداً مرت لم نكن فيها (واحد) بل كان هناك دائماً أبناء الجارية وأبناء الست، وأبناء محافظات تُغدق عليهم الهبات والميزات والإمكانيات والمشاريع الانمائية، ومحافظات منسية عمداً وبلا تردد، ولازلنا حتى الآن نعاني من تلك (النظرة القاصرة)في البلد لأنَّ أبناء المحافظات “المدللة ” تشربّوها عبر عقود وبقيت نظرتهم قاصرة ومتعالية على أبناء المحافظات (النائية) كما كانت تسمى بشكل رسمي، ولعل هذه التسمية (المناطق النائية) بحد ذاتها نوع صريح من التفرقة والتمييز الاقصائي المتعمد للمحافظات المنَسية التي قدمت كل شيء لسوريا ولم تنلْ سِوى الإهمال .
وبعد فشل الشعار الآنف الذكر، تم استبداله بصور ومشاهد تلفزيونية لرجال دين مسلمين ومسيحيين يرفعون أيديهم متضامنين في مشهد يلخص وهم الشعارات التي عشناها، ثم درجت على مواقع التواصل الإجتماعي صور لمئذنة وكنيسة متعانقين، وهلال وصليب متقاربان، وأصوات تعلو بنبذ الطائفية، ورُفِعَ شعار (طائفتي سوري)، والكثير من الشعارات الرنانة التي تحصد الإعجاب على صفحات التواصل الإجتماعي، وكانت تحصد الأرواح في أزقة المدن السوريّة.
الشعارات والصور عن نبذ الطائفيّة بقيت في إطار إعلام خشبي، ولم تنعكس ايجاباً على أرض الواقع، ولم تغيّر من عقلية تنامت في الظلام لتنفذ أجندتها في الضوء، وبقيت الطائفيّة تنخر كالسوس في الخشب، وبقيت الفضائيّات الدينيّة والمذهبيّة والاثنيّة من كل الأديان تغذي العقلية الطائفيّة دون خطاب سياسي وديني يواجهها ويوقف عملية تفتيت العقل لأجزاء صغيرة من حقد، وكراهية، وإقصاء، وتخوين.
الطائفية استشرت في بلاد لم تعرف إلّا السلام والمحبة، فهل يعيد أهلها تشكيل ملامح عقلهم وقسمات الطمأنينة على وجوه هجرت الراحة منذ زمن طال؟