العالم الآنجماليات

أسماء فلسطين الحُسنى

                

-1-

سواءٌ أكان التاريخ قطاراً يعبر المحطاتِ بمواقيتَ معلومةٍ، وباتجاه هدفٍ راسخ، أم سلسلةَ طوفاناتٍ هَوْجاءَ تندفع من منابعَ غامضةٍ شتّى، وليس لها قصدٌ إلاّ خلخلةُ الأرض وتقليبُ المصائر، فإنّ ما يحرّكه دائماً وقودٌ واحد: تضحياتُ الناس.

مثلما تَنشر الشمسُ دمَها على الأفق قرباناً صامتاً لسيادة الظلام، تستجيب بعض الشعوب لنداء الأُفول؛ تَغرق ببطءٍ وجلال من دون أن تخلِّف أثراً غيرَ أصداءِ الأنين وتلويحاتِ الوداع.

شعوبٌ أخرى تواجه تيّاراتِ الهاوية بمجاديف الروح صائغةً من لحظات المواجَهة رموزاً حيّةً تجتمع فيها حرارةُ الألم، وجمالُ الكبرياء، وقوّةُ العزلة.

وجولةً بعد جولةٍ، تَرسَخُ هذه الرموز صوراً منقوشةً في ضمائر الأمكنة، وتنتشر أناشيدَ على شفاه العصور.

ـ 2 ـ

الخيمة، البيّارة، المفتاح، الجسر، الصليب، الحجارة، شجر الزيتون، الأقصى… مفرَداتٌ ولِدت ألفاظها بالدم واللحم رنّانةً فوق صخور اليأس، ونَمَتْ معانيها بالريشة والكلمة واللحن في مخيّلة الأمل.

إشاراتٌ تغني عن عبارات، أجزاء تسرد الكلَّ، وحاضرٌ يحاكم الماضي.

إذا قرأتَها متسلسلةً قلَّبتَ فصولَ موسوعةٍ دامية لتاريخٍ عنيفِ الخطى، وإذا تأمّلتَها فرادى اكتشفتَ المسالكَ الوعرة التي خطّتها المأساة تمزيقاً للأرض وتنكيلاً بالإنسان. وستجد في أيِّ رمزٍ منها أقانيمَ الخلود الثلاثة: الألم، والجمال، والقوة

الألم: لأنه لم ينبع إلاّ على وقْعِ المسامير

الجمال: لأن شكلَه خزّانُ معانٍ، ومعناه شلاّلُ صور

والقوة: لأنه- وإنْ بدا شعلةً نحيلةً في النفق الطويل- مازال قادراً على إرهاب العتمة.

ـ 3 ـ

خذْ مفتاحَ النازح مَثلاً.

قد يبدو، من النظرة الأولى، وشْمَ حنينٍ يُثبت الهويّة، أيقونةَ ذكرى تستمطر المواويلَ، تعويذةَ دفءٍ تُرمِّمُ صدوعَ المكانَينِ: الأصيلِ الخاوي، والمستعارِ البارد.

لكنه، أيضاً، جمرُ الحقيقة مضموماً في الكفِّ لتسريَ شرارةُ الصحو من أطراف الأنامل إلى قمّة الرأس،

معدنٌ باردٌ يَلسع الجسدَ أينما حَلَّ – سواءٌ عُلِّقَ في الصدر أم خُبِّئَ في الجيب- كي تدرك الروحُ أنها عريانة، وستبقى عريانةً، مادامت في المنفى.

علامةُ استفهام معلَّقة تمتحن البصيرة بالأسئلة، وتفتح في الجدران نوافذ.

أمّا الكوفيّة فمنسوجةٌ من تشابُكِ الليل والنهار شارةَ خفاءٍ وظهور.

تُسْدَلُ على الوجه فتُبرز ملامحَ الغضب وسماتِ اليقظة، وتَحجب تعابيرَ الأسى ومنافذَ الجوع.

تَعصب الجباهَ لهباً يضيء عتمة الخنادق، تطوِّق الخصورَ الفتيّةَ ظلالاً للأيدي العاشقة، وترفرف في الساحات سَحاباً من الريف يجلو دخانَ المدن.

افرِدِ الكوفيّةَ تَرَ وطناً ناصعَ القلب تتقاطع فوقه أسلاكُ المستوطنين، فيغدو مربَّعاتٍ مقفَلة. تأمَّلْ أيَّ مربّعٍ منها تدركْ سرَّ التضادِّ اللونيّ بين الأسود والأبيض شبيهاً باتّقاد العيون واتساعِها آنَ تُقتَحَمُ الأهوال.

شُمَّها تُعانقْ أنفاسَ أمِّكَ اللاهبةَ أمام التنّور،

المَسْها تُصافحْ ما خلَّفَته على يدي أبيكَ شموسُ الحصاد،

لوِّحْ بها للريح تَسمعْ شبّاباتِ الدبكة وهي تحيل أصابعَ الشباب حيّاتٍ تسعى.

لطالما أضفت الكوفيّةُ وسامةً على جرأة الرجال:

نسراً يفرش جناحيه على كتفَي عبدالقادر الحسيني،

 بركانينِ موقوتينِ في عيني وديع حدّاد،

 دَيناً واجبَ السداد في عنق ناجي العلي،

 وضماداً لجراح الأرض على صدر الرنتيسي

لكنها، أيضاً، زيَّنتْ بهاءَ الأنوثة:

وشاحاً لدلال المغربي إذ تتهادى من ينابيع الجليل العالية،

 قلادةً لراشيل كوري ممشوقةَ الروح بين مخالب الجرّافة،

وقمصاناً لأسراب الصبايا المالئاتِ بأسماء فلسطين الحسنى مسمعَ العالم، من جاكرتا إلى كاراكاس.

ـ 4 ـ

لكنْ، هل يبدأ الرمز حدثاً ثم يصير نشيداً، أم يولد رؤيا ثم ينمو بالتجارب؟

كأنك تَسأل: أيُّ العنصرين أصْلُ المطر: البخار الطالع من البحر، أم الماء الهاطل من الغيم؟

تأَمَّلْ كثافةَ البيوت في لوحات تمام الأكحل. إذا أردت أن تَعرف مصدرَ الضوء الغامر كلَّ النوافذ، والخُضرة المُظَلِّلة لهفةَ الأبواب، والقوة التي تَشبك الجدرانَ كأكفِّ المحبّين، اسمع الفنانةَ تسرد مأساةَ العائلة في المنفى، وكيف كان والدها يمسح مفتاحَ بيتهم كلَّ صباح بالزيت، كي لا يطاله صدأُ النسيان.

أيهما أبقى في ضميرِ مَن شاهدَ فنَّ اسماعيل شموط وعرف سيرتَه: صورة الطفل الضامر المغمِض الروح، على كتف أبيه، في لوحة (الهجرة)، وحوله شقيقان حافيان باكيان، وفي الخلفية خريف يجعِّد الوجوهَ ويشقِّق الأرض، أم القصة الحقيقية لشقيق الفنان، الطفل ذي السنوات الثلاث الذي مات من الظمأ، تحت أبصار الجميع، في طريق «الرحلة الكبرى إلى المجهول»؟

إذا بدتْ لك قصيدة محمود درويش (عابرون في كلامٍ عابر) ناصعةَ المعنى، لاهبة الإيقاع، حاسمة النبرات،  فلأنها حاولت أن تواكب طاقةَ أطفال الحجارة إلى منتهاها: جنوناً يرجُّ بحيراتِ العقل الراكدة، قهراً طائشاً يكسر زجاجَ الضمائر، وندى ترابٍ غضٍّ يُخمد نيرانَ التنّين المصفَّح.

لعلَّك تستغرب هذه الرعشةَ التي تسري في أوصالك حين تسمع صرخةَ فيروز:” تقفون كشجر الزيتون..”. اذهب، إذن، إلى غزة. زرْ بيتَ السمولي. ستجد فيه شجرةَ زيتون عمرها مئة عام، استشهد على ترابها، ذاتَ مجزرةٍ، تسعة وعشرون فرداً من العائلة. صارت جذورها أعمدةً دامية، وثمارها قناديلَ ضوءٍ أسْوَد.

كُتب هذا النص في 15/5/2009.

د. أحمد حافظ

شاعر سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق