يمكن أن تشكّل أعمال فريد السباعي التشكيلية سجلاً استثنائياً لتوثيق ( الأمكنة) وتحنيطها في لحظة محددة وخاطفة، التقتطتها ذاكرته وخزّنتها وحافظت على تفاصيل هيئتها بشكل مدهش، إلى أن قررت ريشته استحضارها بتلك الألوان (المعتّقة) في ذاكرته البصرية، التي ظلَّ أميناً لمحتوياتها لسنوات طويلة، إلى أن تقاعد وهو الأستاذ الجامعي المتخصص بالرياضيات التطبيقية، ليجد نفسه في مواجهة (أمكنة) مرّ عليها الزمن، فتغيرت وتبدلت وهرمت وتجددت، وربما دُمرت تماماً وأصبحت خراباً ؟
وإذا كانت أعمال فريد السباعي تنضوي تحت عنوان: التأريخ الجمالي للمكان، إلاّ أنَّ هذا العنوان يحيل إلى تساؤلات إضافية متصلة بالأمكنة ذاتها واختيارها دون غيرها؟ كما في التساؤل عن تلك اللحظة التي تم فيها اصطيادها أو ضبطها وتوضيبها كمشهد بصري، حتى وإن كانت مكاناً راسخاً، لا يحيد عن الرؤية بحكم الإقامة فيه أو المرور اليومي قربه أو التردد عليه؟
يفتح السباعي صندوق ذاكرته واسعاً، ويقطع مسافات ماضيه، ما بين بيت أهله في حمص وشارع الغوطة وقهوة الدبلان، وصولاً إلى حي الكيلانية في حماة ونواعيرها، ويتدرج غرباً نحو مرمريتا، وليختار رؤية قلعة الحصن من أمام دير مار جرجس الحميراء.
يعود التساؤل عما دفع الفنان لإفراد حيّز ما في مخيلته وذاكرته لمكان دون آخر؟ يعود إلى مكونات مرجعيته الثقافية، كما إلى طبيعة العلاقة التي تربطه مع هذا المكان. من المؤكد أن مشهد الناعورة، من المشاهد التقليدية المغرية جمالياً وثقافياً بدلالاتها المتعددة، وهو مشهد يفرض حضوره في المخيلة دون مقاومة، فيما يشي مشهد البيت، أي بيت كان، في حمص أو مرمريتا أو غيرهما، بتلك العلاقة الجوانية الخاصة، التي تدفع الفنان إلى إعادة تنصّيبه على قماش بألوان وأبعاد وضوء.
المسألة هنا لا تنضوي في حقل المعايير الفنية، بل هي من عنديات (الجوّانية العميقة) التي تتلاعب بالريشة على المساحة البيضاء لتوثق المكان/ المشهد المُتَخيل المدفوع خارجاً بحكم إلحاح داخلي قد يكون ماضٍ يريد أن يكون حاضراً!
لا يُطرح السؤال هنا، من أية زاوية التقط فريد السباعي مشهداً للبيت الذي ولد فيه، بل من أي محتوى داخلي/ شعوري مكنت ريشته للتحرك بين يديه متنقلة بين الألوان اللائقة بهذا المحتوى. من يعرف تلك اللحظة / اللغز التي تم فيها التقاط المشهد؟
اللحظة التي استعاد فيها بيت أهله مثلاً؟ أكانت حين عودته من المدرسة وهو طفل صغير؟ أو حين عودته من نزهة شبابية في الدبلان؟ أو حين عودته من فرنسا حاملاً شهادة الدكتوراة؟
يبدو من الخطأ، البحث عن لحظة محددة لرسم اللقطة عليها، أو لرؤية المكان من خلالها. اللحظة هذه ليست سوى ذلك السرد المستمر للمشهد خلال الزمن، إلى الوقت الذي يوضع هذا السرد على اللوحة، فيتم آنئذٍ إعادة بناء المكان.
ها هنا يمكن الاستدلال على تلك الحماية للأمكنة التي نحبها في دواخلنا، كان يكفي لحبٍ غامرٍ أن يجعل الفنان مخفياً لمقهى في شارع الدبلان في ذاكرته رغم التغيرات الهندسية المتوالية التي أعدمته.
يدفع الحنين الفائض عند فريد إلى استحضار الأمكنة، التي ليست سوى جغرافيا الروح، فينتصر بها على النسيان المدجج بزمن لا ينفكّ يتوالى ويتوالى لإبعادنا ربما عن تلك العودة المؤكدة إلى حيث كنا…العودة واقعاً او خيالاً، وإن لم نتمكن، يرشدنا فريد السباعي إلى سبيل آخر: نستحضر أمكنتنا بالريشة واللون والضوء.
من مدينة حمص، نشأ في بيئة ثقافية، ذلك أن والده الأديب مراد السباعي كاتب القصة والمسرحية والمخرج وبصماته في الثقافة السورية عموماً واضحة.
حاصل على شهادة الدكتوراة في الرياضيات التطبيقية، موديل رياضي ومعلوماتي من أجل اتخاذ القرار،من جامعة كلود برنار في مدينة ليون- فرنسا.
يروي الدكتور فريد قصة علاقته مع الفن التشكيلي:
عندما كنت في الصف السابع كان أستاذي في مادة الرسم الفنان الكبير عبد الظاهر مراد… طلب من طلاب الصف المشاركة بلوحة في معرض المدرسة، فقدمت له واحدة وأثناء الخروج إلى الفسحة شاهدت التلاميذ متجمهرين عند إحدى اللوحات، ويقولون إنها لوحة للأستاذ عبد الظاهر .فكانت المفاجأة انها لوحتي !! خجلت حينها أن أقول لهم بأنها لي… في اليوم التالي طلب مني أستاذي عبد الظاهر أن اخبر والدي برغبته في زيارتنا في البيت، وحصل ذلك… طلب من المرحوم والدي أن أشترك في دورات تدريبية في معهد الفنون التشكيلية الذي كان يدرس به فرفض والدي وسمعته يقول له.. ياعبد الظاهر.. هل الفن والأدب في بلدنا يطعم خبزا”.. ؟فأجابه بالنفي… قال والدي : لندع فريد يتابع دراسته وليكن الرسم هوايته وهذا ماحصل.. دخلت جامعة حلب ثم عينت معيداً فيها، ثم أوفدت إلى فرنسا لتحضير الدكتوراة . عملت بعدها في السعودية إلى أن تقاعدت منذ سنتين بعد تجاوزي سن التقاعد بثمان سنوات… خلال كل هذه الفترة وفي كل حقبة كنت أرسم بعض اللوحات وأهديها للاصدقاء كي أبقى على تواصل مع الريشة واللون إلى أن تقاعدت فأعطيت الرسم وقتاً أطول ام أكن أملكه سابقاً.
أمكنة وألوان : نزهة في خزائن الذاكرة.
انت فنان واديب وباحث… تفاجأت بهذه المقالة الرائعة… التوثيقية… لك الشكر الجزيل
هذا رأي أعتز به جداً من أستاذ كبير وفنان مرهف لك محبتي العميقة
انا صديق قديم ل د فريد السباعي )من فرنسا
اود التواصل معه
اكون من الشاكرين لو ارسلتم له بريدي الالكثروني
[email protected]
[email protected]
سنرسله دون أدنى شكّ