جماليات

الشاهد الأعمى” للشاعر مردوك الشامي”

يضع الشاعر والناقد الأدبي مردوك الشامي، قارئ ديوانه الجديد “الشّاهد الأعمى” في مواجهة أحداث مستلـّة من الواقع الحي، ينكأ التوغل فِي مفاصلها جراحاً تنزّ دماً ومواجع. فهو يعزف على أوتار الألم السوري والعربي من خلال تجسيد معاناة شخوصه وهم في مواجهة ظروف قاهرة أفضت إلى نتائج أخلاقية مروعة وخطيرة. ومجموعته هذه إنما هي سيناريوهات كتبت بدموع ودماء ووجع إنسانها بوصفه عقلاً ووجداناً وحسّاً. ولأنها تنتمي إلى الزمان والمكان فقد ولدت من جدلية: قصر من رمال وكوخ فقير الحال، كما جاء على الغلاف الأخير للديوان.

إنَّ عنوان هذه المجموعة “الشّاهد الأعمى” موحٍ وشديد الدلالة الرمزية وهو إذ يوشي بحجم المعاناة التي عاشها إنسان هذه البلاد، المسكون بالحزن، والمكوي بشواظ نارين: نار الحرب والدمار والقتل الممنهج… ونار الإرهاب والظلم معاً، ويمكن القول بأن تلكم “الشواهد” إنما جمعت بين المادي والمعنوي اللذين اقترنا معاً في اندماج مثير لتشكيل رؤية واضحة تؤطّر لموضوع كبير، على القارئ للمجموعة الانشغال بفهم أجزائه غير المصرّح بها.

الدّيوان عبارة عن قصائد تكمل بعضها في أسلوب سردي ممتع وتشويق يشدّ القارئ إلى النهاية.

 يفتتح “الشامي” قصيدته التي عنون ديوانه بها (ص 34):

“أيا ربّاهُ

يا اللهُ

سامحني إذا ما قلتُ لستَ جلالة المعنى

ولستَ الخالقَ الأبدي”

ثم ينهي هذه القصيدة ليكشف من خلالها سيرورة الأحداث وطبيعتها ونهايتها:

” وكنتَ الصامتَ الدهريَ

لمّا شرّدوا أهلي

ولمّا أحرقوا بلدي”.

إنَّ في ميسور القارئ أن يتتبع خطاً مأساوياً ينتظم النصوص، يمتد من قصيدة “الفاتحة” إلى آخر نص في الديوان “عطر المشاعر” مروراً بالنصوص الأخرى، حيث لا يُسمع على امتدادها رنين ضحكة صافية ونابعة من القلب ولا تُرى إمارات فرح أو سعادة طاغية في نصٍ من النصوص.

إنَّ “الشامي” مهموم بالواقع، يؤمن بالوظيفة الاجتماعية للإبداع وتشغله مهمة التعبير عن أفكاره وتوصيل هذه الأفكار بأي شكل من الأشكال، ولا يتردد في اعتماد المباشرة حيناً والرمزية حيناً آخر. لكن هذا لا يعني أنه لا يولي اهتماماً لشكل القصيدة. إنه يوليه اهتماماً، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله يطغى على المضمون!

في تجليه شكلٌ فنيّ يمتص نسغ التأثير ليؤثِّر، ويسعى شاعر الحياة بكل تفاصيلها الحميمة “الشامي” إلى خلق الدهشة ونقل القارئ نحو مرابض اللا مألوف؛ وكلما تقدمت تلك أو ارتقت إلى تخوم اللا معقول تمكنت من حيازة كسب الإعجاب، وأثارت ذائقة المتطلعين إلى التغيير، أو المنادين به صناعةً لأدب يخرج من معاناة الواقع. فهم يرون أنَّ “الحقائق لا تكفي، لأنَّ الحلم يعمل” على حد قول باشلار، والمخيلة جياشة لأن تأتي بالمثير تجاوزاً على الحقائق حتى لتغدو بعد حين من القراءة أن الأحلام ذابت في بوتقة الحقائق أو أن الحقائق غدت من نافلة الأحلام، يقول “الشامي” في قصيدة “الحريق” (ص 20):

“أمُدُّ كفّيَ للأطيارِ

تلمسُها

بشاهقِ الجنحِ أُثني الريحَ عن سبقِ

كم كنتُ.. لكنني للشَكِ

مرتهَنٌ

أقولُ للشمسِ بالأحلامِ لا تثقي”.

أن يتذكر “الشامي”.. يعني بالقياس أنه يروي، والشاعر يتذكر ويروي الإشارة الدالة “بيت أهلي” وتنوع المدينة:

“في داخلي تعلو النواقيسُ

المآذنُ

والعصافيرُ التي في نبضِ قافيتي

تصلّي

وأنا على جنحِ الرياحِ ألاحقُ

الرؤيا

لأصنع للحروفِ البيضِ

مصباحَ التجلي”

وينهي الشاعر قصيدته هذه:

“في داخلي كلُّ الكواكبِ راقصتْ

مهدي

ودندنة الأمومةِ تعلنُ الدنيا جميعاً

بيتُ أهلي”.

حين يكون بعث الذكرى ممكناً.. فإن ما يقوله النص هو الدلالة التي تكشف قوة الاستمرار في الحلم عند الشاعر. و”بيت أهلي” هو مركز الولادة الأولى، والنور المحيط بالمركز هي البيئة، إلّا أنَّ الشاعر في نصه هذا يمسك بالولادة والبيئة، وهذه ميزة جمالية/ فنية قلما تتوافر عليها قصائد حينما يكون الانفتاح باتجاه تشكيل صورة نص.

“مردوك الشامي” لا يكتب عن الحياة كواقعة ومواجهة يومية فقط، بمعنى أنه لا يتماس مع السطح مباشرة، بل ينفذ إلى العمق الكلي بوعي متشكل من صدمة الواقع كما في قصيدة “الخيالي” (ص 37):

” سيقولُ عني الحاقدونَ

منافقٌ

ويقول بعضُ الطيبين: يغالي

ويقولُ بعضُ الشّامتين

مسايرٌ

ويقومُ كثرٌ يطلبونَ وصالي

أنا لم أقلْ إني بشعري

فارسٌ

أو كنتُ عنترةٌ.. وزيدَ هلالِ”.

إنَّ الذهاب إلى العمق الكلي يستوجب التضحيات بالكثير من المسببات التي تبعث على المسرّة، المسرّة التي ينشدها التلقي الجاهز، من هنا يمكن أن نصف “الشامي” بأنه شاعر أعماق ومواجع حزينة وبؤر روحية:

“من أوّلِ الخلقِ ماءُ النهر

خالطني

وأوغلَ النورُ في نبضي

وفي طيني”.

في “الشّاهد الأعمى”.. براعة لغوية، وصورية، ورمزية، وبنائية.. قد تتقدم في مواجهة الخصوصية رغماً عن طغيان الأخيرة، خصوصية توليد قصيدة من لغة أخرى منسوبة لشاعر اسمه مردوك الشامي، ففي قصيدته (ضريح ـ ص 75):

“يتّكي خَطوي على نايٍ جريحِ

فأنا في الرحمِ ناداني مسيحي

منتهى الآلامِ أنّ الشعرَ حتفي

وعواءُ الذئبِ في حرفي الصريحِ

آهِ يا روحَ التشّظي في كياني

غادري الجثمانَ كيما تستريحي

لم أكنْ أحتاجُ صلباً كي أعاني

كلُّ هذي الأرضِ كانتْ في ضريحي”.

ينبني النص عند “الشامي” في هذه القصيدة على المفردة التي تخفي تحتها كوناً خاصاً، فهو يغرد في عالمه بعيداً عن الآخرين بيد أنه في الوقت نفسه يغرد من أجل أن يغفو هو بهدوء. هذا التناقض الظاهري بين ما هو داخلي وما هو خارجي يشكّل اللبنة الأساس في نص هذا الشاعر القلق إذ تكشف النواة الهلامية عن لبّ القضية التي يحاول الشاعر توصيلها عبر مجموعة من الخواص التصويرية والرمزية ذات الكثافة العالية والظلال الدلالية الموحية.

يحيلنا النص في دلالته إلى أصقاع الوحشة التي يعيشها الشاعر الذي يشف عن عزلة روحية وجسدية تضفي رؤية سوداوية على ذلك “الشامي” الذي كان يأمل أن تحقق له تنقلاته أملاً جديداً في الحياة لا أن تضعه في أصقاع وحشةٍ تزيد من توتره الداخلي وتساعد في تأزيم نفسيته.

إذن، هذا النص يتعامل في الأساس مع توترات الداخل.. داخل الذات المواجهة لصقيع الوحشة وهذا ما سيجعل الانكفاء والسوداوية تغطي مساحة واسعة من نصوص “الشّاهد الأعمى” وها هي تواجهنا منذ اللحظة الأولى لعتبة قصيدة “سجادة المنفى” (ص 64):

“ستّونَ مرّتْ

لم أعدْ طفلَ المغارةِ

كان أهلُ الكهفِ أصحابي

وكان الملحُ يرتقُ لي قميصَ الآخِ

في جرحٍ بَدَدْ

متأبّطاً صوتي

وهذا الصمتُ يُحرجني

وإني لا أحدْ

غادرتُ رحْمَ الأمّ.. قنديلي ثُغاءُ

يا سيّدَ القطعانِ يا أبتي

ورثتُ الذلَ عن عينيكَ

وانكسر النداءُ

ومدينتي كانتْ رداءَ التيه

وانكشفَ الرداءُ”.

مجموعةٌ شعرية تتكئ على اللا مألوف، وترجمُ المحرّم بمحبرة نفّاذةٍ فيها جرأة واعتدادٌ بقيمة الحرف حين يكون السوط والصوتَ معاً.

قد لا يقرأ بعض قصار النظر إلا سطحَ القصيدة، فيرمون الشّامي افتراءً بالتعدي على الأعالي، لكن القراءة البصيرة والحكيمة ستكتشف كم من الإيمان يكمن وراء هذا الغضب، الإيمان بالعدل، والغضب حين يكون بعيداً عن التحقق.

—————————-

تقع هذه المجموعة التي صدرت عن “منتدى شواطئ الأدب”، في 172 صفحة من القطع الوسط.

من مؤلفات الشاعر مردوك الشامي

1- المجموعات الشعرية:

  • أسئلة ساذجة
  • كرسي اعترافي
  • أسئلة الغريب
  • نون القسوة
  • حبر أبيض
  • الشّاهد الأعمى

2- المسرح الشعري:

  • أورنينا
  • أدون
  • إيزيس
  • صيدون الملك
  • شمس وقمر

نظام مارديني

كاتب وصحفي سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق