جماليات

في حدائق رياض نجيب الريّس

عندما غرست كلمتي في (محميّة الشعر)

لم يكن رياض نجيب الريّس كاتباً صحفياً عادياً، كما لم يكن مشاكساً فحسب، كما يحلو له أن يصف نفسه، بل كان (عمارة) صحفية وثقافية من نموذج بنيوي وجمالي شديد الخصوصية والتميز.

في خلال ساعات قليلة من إعلان وفاته في بيروت، بدأ الكتّاب والنقّاد وأهل الصحافة يكتبون عنه، رثاءً له ولزمنه، وربما، لمشروعه، في وقت لم يعد لمثل تلك المشاريع الثقافية سوى ترتيب نفسها والقبول بالإقامة سعيدةً على رف يؤرخ لها من لحظة ولادتها إلى لحظة تقاعدها، ولا نقول موتها، فهي بعيدة عن النهايات، وإن قال الريّس عندما قرر وقف إصدار مجلة الناقد في العام 1995: (لا بدَّ للأشياء الجميلة من أن تنتهي في يومٍ ما؟).

لأكثر من مرة خلال سنوات خلت، كنت عازماً على كتابة مقال أو أكثر، عن جوانب أدبية تخصني، وكان رياض نجيب الريّس من المحيطين بها بل والمتسببين بها على نحو مباشر ورئيسي.

سأكتفي بهذه المناسبة، بكتابة قصتي مع الشعر وجائزة يوسف الخال للشعر، التي أسّسها وأطلقها الريّس في العام 1987، ومُنحت لأول مرة في العام 1988، حيث احتضنتها مجلة الناقد، لصاحبها رياض نجيب الريّس نفسه، وشكلت حين صدورها حادثاً ثقافياً استثنائياً في العالم العربي.

كنت أقيم في دمشق في ذلك الوقت، وكان من عادتي كل يوم القيام بجولة على الأقدام في فترة بعد الظهر، في وسط المدينة، وغالباً ما أنهي هذه الجولة بلقاء بعض الأصدقاء في مقهى فندق الشام.

 في يوم لم أعد أذكر تاريخه، وكما هي عادتي اليومية، اشتريت عدة صحف ومجلات كانت تنزل إلى المكتبات بعد الظهر قادمة من بيروت، وبدأت أقلّبها متصفّحاً، فاستلفت انتباهي إعلان ثقافي كبير عن جائزة للشعر باسم يوسف الخال، تمنحها مجلة الناقد التي تصدر في لندن، لشعراء لم ينشروا شعرهم أبداً. وكان من الممكن ألا أتوقف عند الإعلان كثيراً لولا (الثلاثة آلاف جنيه إسترليني)، أو ربما الألف، فلم أعد أذكر بدقة، التي هي قيمة الجائزة!

على نحوٍ صاعق لمعت فكرة مشّوقة برأسي… قلت في نفسي: لدي كتابات ومحاولات غير مرتبة، لا بأس من جمعها وإرسالها، فأنا بحاجة ماسة لقيمة الجائزة! وتبدو الفرصة ممتازة ومتاحة للحصول على هذه الجنيهات الإسترلينية طالما أن شعراء مثل أدونيس وسعدي يوسف وفايز خضور ومحمود درويش لا يحق لهم الاشتراك بالمسابقة.

تركت المقهى على عجل عائداً إلى المنزل، وشرعت أبحث في أوراقي علي أجد تلك الأوراق التي بدأت أحلم بمقايضتها بقيمة الجائزة…لم يطل الوقت لأجمع كتابات شعرية يدرجها النقاد في إطار (قصيدة النثر). كان عليَّ أن أرتبها وأنضدها لتبدو على هيئة ديوان شعر، فاستعرت من أحد أصدقائي آلة كاتبة وبمساعدته تمكنت من إنهاء الطباعة خلال يومين، ثم جمعتها ووضعتها في مغلف كبير وأرسلتها عبر البريد إلى لندن.

مضت المدة المقررة لاستلام الدواوين الشعرية، ومن ثم المدة الازمة للجنة التحكيم التي نظرت فيها، لتعلن مجلة الناقد، أخيراً، عن أسماء الفائزين، ولم يكن اسمي من بينهم؟

إذاً تبخرت الجائزة! وضاع ذلك المبلغ الذي كنت أحسب أنه سيدخل جيوبي التي لن تتسع لضخامته؟

مضى بعض الوقت إلى أن نسيت الجائزة وقيمتها، وهجرت قراءة الشعر كطريقة اخترتها لمعاقبته، جرّاء تقصّيره في سباق الجائزة! إلى أن استلمت ذات يوم رسالة غريبة في شكلها وفي لون مغلفها، فضلاً عن كونها معنونة باللغة الإنكليزية. فتحت الرسالة على عجل، وإذ بها من مجلة الناقد وبتوقيع مؤسسها ورئيس تحريرها رياض نجيب الريّس. بلغة مبسطة ولائقة يوجه الريّس شكره لي على مشاركتي في جائزة يوسف الخال للشعر، ويطلب مني السماح له بنشر ما يختاره من(ديواني) في مجلة الناقد، ويختم رسالته بإبلاغي بأنه سيأتي لدمشق قريباً ويريد أن أجتمع به حتماً.

بطبيعة الحال، كانت الرسالة مفاجئة غير متوقعة بالنسبة لي، كما كان طلب الريّس بالسماح له بنشر قصيدة لي في مجلة الناقد، بمثابة جائزة معنوية لا تقدر بثمن؟ فيما ظلَّ وعده بلقائي في دمشق قريباً لغزاً إلى أن حصل فعلاً. بعد أن رأيت بأم عيني نصّاً لي بعنوان: حكايا وهواجس عن الزمن، منشوراً في مجلة الناقد وعلى مدى ثلاثة صفحات!

بعد عدة أسابيع أخبرني رياض نجيب الريّس هاتفياً أنه في دمشق، ونزيل فندق أمية العريق، الذي يفضله على الفنادق الحديثة مثل الشيراتون أو الميريديان أو الشام. قصدته في الموعد المحدد ووجدته ينتظرني وهو يقلب أوراقاً مرتبة أمامه، فيما دخان سيكاره الكوبي يشكّل سحابة تظلل وسط الغرفة.

بداية، تحدث عن الجائزة ولماذا أسسها، ومشروع مجلة الناقد، التي أكد أنها ليست استكمالاً لمشروع مجلة شعر بأية حالة من الأحوال، ثم استفاض في الحديث عن (كواليس الجائزة) وقال لي: صراحة، أنا شخصياً أحببت تجربتك، بل كنت متعصباً لنصوصك، وديوانك كان من بين (الخمسة الأوائل) التي تم انتخابها من بين حوالي 700 ديوان، جاءت من أنحاء العالم العربي. وتابع قائلاً: إن حوالي 500 منها لمشاركين من سورية؟ وما بين إعجابه بهذا الرقم الخيالي وضحكته الساخرة من هذا الفيضان الشعري، أكد لي أن نصف الدواوين المشاركة من سورية كانت لشعراء من مدينة سلمية!

(لاحقاً، عندما رويت هذه القصة للصديق نورس ميرزا، علّق ضاحكاً بأن أصحاب الدواوين المشاركين في المسابقة من سلمية، كل واحد منهم اقترض مالاً مساوياً لقيمة الجائزة لثقته من أنه سيفوز بها حتماً!).

تابع الريّس حديثه بعد قليل قائلاً: إن لجنة التحكيم الثلاثية المؤلفة من نزار قباني وأنسي ورياض نجيب الريّس، اختلفت فيما بينها حول الفائز الأول بالجائزة، وشرح لي طبيعة المداولات التي جرت بين أعضاء اللجنة والتي دخلت فيها الاعتبارات الأدبية والنقدية مع اعتبارات أخرى رجّحت اختيار الشاعر يحيى جابر في المركز الأول، وهو من جنوب لبنان الذي يعيش حالة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

ختم شرحه الموسّع قائلاً: سأكتب عن الجائزة و(كواليسها) ومداولاتها يوماً ما. كنت طوال الوقت الذي كان يتحدث فيه، مستمعاً على الدوام، دون أي سؤال أو تعليق، بل شرد ذهني في لحظة، راجعت نفسي فيها، متباهياً بما أنجزته، دون عناية كافية، بل انتبهت إلى الإهمال الواضح الذي مارسته ولا أزال بحق موهبتي الأدبية، حيث نصرت عليها الكتابة الفكرية والسياسية، وإلى الآن!

المفاجأة الأخيرة والأهم لصاحب الجائزة، تمثّلت في قوله لي أنه بصدد نشر سلاسل شعرية، تصدر عن الدار التي أسسها، وأنه يرغب في أن تكون تجربتي من بين منشورات هذه السلاسل، فإن كنت موافقاً، فما عليَّ سوى توقيع اسمي على عقد أحضره معه جاهزاً، من مكتبه في لندن، ونصّه باللغة الإنكليزية، يتضمن وصفاً وتعييناً لحقوق الناشر والكاتب، بما فيها المقابل المادي الذي سأتقاضاه، والذي بلغ 200 جنيه إسترليني.

دون تردد، وقّعت العقد، وقبضت المقابل المادي، مع مكافأة إضافية بمقدار 60 دولار أميركي، عن النصّ الذي نشرته الناقد، وليدعوني صاحبها للكتابة فيها دائماً. وعدته، ولكني لم أشارك إلاَّ في مرات محدودة، ربما سأتحدث عنها في المستقبل.

في السلسلة الشعرية الثانية، صدرت لي المجموعة الشعرية بعنوان: إيقاع الجثث. وجاء في تقديم رياض نجيب الريّس لها:

في مجموعته الأولى (إيقاع الجثث) التي تكشف عن تجربة طويلة مع الكتابة لم يقدّر لها أن تظهر من قبل، ثمة رغبة ملحة في الكلام على القلق وعلى مقاربة لسكونية مفترضة في أشياء العالم المحيط.

يعمد الشاعر في بعض قصائده إلى إطلاق حكمة مضادة والتعليق الساخر الجارح على وقائع الراهن وشجونه.

سلاماً رياض نجيب الريّس، لقد وقفت بجانب موهبتي الأدبية، في مواجهة جنوحي الفكري الطاغي، ولولاك، لربما هذه الأوراق التي جمعتها ذات يوم وأرسلتها لك، كانت ستبقى حبيسة الدفاتر القديمة التي قد يمضي العمر كله دون أن نفتحها مجدداً!

هل قلتَ مرةً: لا بدَّ للأشياء الجميلة من أن تنتهي في يومٍ ما؟

حكايا وهواجس عن الزمن

[مقاطع من نصٍّ طويل]

لا أغيّر ذاكرتي

   مآسٍ/ فواجعْ

  قراءة مستمرة للحرية.

 

إن أردتم صناعة تمثالي

فانحتوني في الماء.

 

وضعت الله في قلبي

خسر الكهّان وظائفهم.

 

نتعلّم الثورة الفرنسية

نشتم القرامطة على كفرهم!

 

القدر؟

تائهٌ أحمق،

وضعَ رحاله عندنا… واستوطن.

 

القمر؟

غلامٌ هارب من إصرار الظلام.

 

النجوم؟

عيونٌ مستهترة/

إصرار مدهش.

 

الرفض؟

سحرٌ

والله لا يسمح بالشعوذة!

 

الحلم؟

تنظيم سريٌ مع الذات.

 

الكلام؟

وظيفة سريّة للفم.

الصمت؟

إضمارٌ مؤقتٌ… للحقد.

 

النهار؟

أشياء تحتكرها الشمس.

 

الليل؟

فرصةٌ سانحة لتهريب اليقظة.

 

الملاك؟

اختيارٌ موفق لحفلات التنكر؟

 

الشيطان؟

مفاجأةٌ مستمرة في درب الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق