جماليات

مقامات التراث في تجريد لوني

قراءة انطباعيّة في أعمال الفنان محمود أمهز

عندما يكون الحديث عن الفن التشكيلي نابعاً من وجود واكتشاف الذات التراثية فإننا لن نذهب بعيداً إلى مناطق وروحية الفن دون المرور بالكثير من الأسماء التي أخذت على عاتقها إحياء الفن ونقده وتطويره، ولعل من أبرز تلك الأسماء يحضر اسم الفنان والناقد التشكيلي اللبناني “محمود أمهز” الذي صاغ فضاءً تشكيلياً من طبيعة رقشية هادئة تبعث على التأمل بفضل تألق اللون وتراكمه ما ولّد انطباعات، وإيحاءات بصرية، واضحة وحكيمة. بل ولا يمكن، عند النظر في أعمال الفنّان أمهز، تحييد القيمة البصريّة الّتي تحملها عن الرؤية الفكريّة والفلسفيّة، الّتي تتكوّن على شكل أسئلة أو إجابات يظلّ البصر – أو للدقّة – المخيّلة البصريّة، الوحيدة القادرة على تمثيلها.

حياة هذا الفنّان الكبير ومسيرته يشكّلان باعتبارهما حدثاً ممتدّاً، وفرصة كافية نسبيّاً لقراءة تأمّليّة في الثقافة التشكيلية في لبنان؛ فالتشكيل عنده نصّ طويل مليء بالدلالات، سيشعر الناظر أمامه بحيل المكان، وتساؤلات عن الحقيقة أو الوهم لِما يراه. وهي خيوط ومساحات منمنمة مفتوحة على آفاق واختبارت تجريدية ذات طبيعة إيحائية تظللّ الكثير من أعماله الفنّيّة التي نقف عندها، ويظلّ المتلقّي مضطرباً عندها وحاملاً حيرة بصريّة وفكريّة مثيرة. والجدير ذكره هنا أن المنمنمة الإسلامية جمعت بين الصورة المستمدة من الواقع والرؤية التجريدية، وحاولت التوفيق بينهما عبر صوغ فريد يقوم على تفسير المعطيات المرئية وفق تصورات ذهنية بعيدة عن المحاكاة المباشرة لها.

يجد بعض النقاد أن تقييم النتاج الإبداعي التشكيلي يجب أن يقوم على بناء اللوحة الداخلي، وعلى مدى قدرته في الشروع بطرح قيمة جديدة إلى فنه، والمتابع لتجربة الفنان “أمهز” منذ تعرفتُ على فنه، خلال عقود مضت، سيلاحظ كيف كان يلاحق هاجساً انتظم مع حياته وظل يشكل البعد الفكري لأعماله، بل ويسير بتوازٍ مع التطورات التقنية والإبداعية في الخط واللون لأعماله التشكيلية الحداثية من دون أن يفقد تجريداته التراثية الإسلامية المعنى، ما يؤكد محاولته أن يكون متوازناً بين التراث والمعاصرة. إلا أنه من الضروري ملاحظة أن لوحة أمهز كانت قد مرت في مراحل عديدة كان فيها تطور المضمون هو الذي يحكم، إلى درجة كبيرة، في مسارها. لكن الشرح الذي تناول متن النص التصويري كان لا بد من أن يرافقه تحول في طريقة التعامل مع المادة والتقنية الملائمتين لهذا المضمون، فهو فنان مغامر عمل عبر تجريب حداثي في ترصيع اللوحة وترقيشها واستبطان الذات التي تنهمر مراياها الملونة على جدار اللوحة. وكأن النص التشكيلي الذي يدركه ويستدركه يهيب به التمعن والتأمل في الموروث البصري للمنمنمات، وفي الاختمار الانطباعي للألوان التي سعى حثيثاً إلى تكثيفها وتقطيرها، ذلك ان العمل الفني عبارة عن نموذج تشكيلي ينظم العلاقة بين الاشياء ويعيد صوغها ليس بغية تمثيلها ومحاكاتها وفق معطيات ثابتة، بل تفسيرها والتعبير عنها بإشارات متجلية. 

ما أريد أن أبينه من انطباع شخصي أن لوحة “أمهز” تفرض صيغاً تجريدية تدلنا على نسقها ومضمونها دون مشقة وهذا يرجع إلى توثيق في بنية الفكر التي يشتغل عليها هذا الفنان، وفي أغلب أعماله، ولو أن الدلالات الرمزية في تكويناته ما عادت ترينا المخفي إلا أنها بالنتيجة تترك أثراً أولياً يراد منه أن يكون بديلاً عن تراكمات الغموض في جسد اللوحة. ولكن تبقى قيمة لوحته بما تختزنه من دلالات وفي الطاقة التعبيرية التي يؤديها الشكل والخط واللون وطريقة التعامل معها.

و”أمهز” يدرك تماماً أبعاد اللوحة جغرافياً ومضموناً، وهو يريدنا أن نكتشف ما يخفيه من ارتعاشات داخل اللوحة بقدر انتمائنا إلى باطنية عمله، حتى لو ترك فينا شيئاً من التساؤل عن ماهية الأسس التي ينقشها على سطحها التصويري. ولونياته تأخذ متلقيه الى عمق السر الحركي الذي يرافق اللوحة ومساحتها المشهدية، فهو “موجود في روحية اللوحة لا في الشكل، في ذلك الإنسان الروحاني التأملي” كما يقول. هذه الروحية التقنية تنم عن فهم وإدراك لفيزيائية اللون ومدركاته البصرية، وهو ما منحه أكبر قدر من التعبيرية والتأثير البصري المباشر، وهي تعبير عن احترافية لصياغة الفكرة عبر مركزية التكوين في الرؤية البصرية. ولهذا يستعمل “أمهز” محدودية الالوان والشخوص والاقتصاد فيها بقصدية، لكي يتلاعب بقيمها وتدرجاتها، للإبقاء على المؤثر البصري يتفاعل مع التأمل والدهشة والفكرة التي تشغل هواجسه. ما يؤكد فهمه العميق لفيزيائية الألوان وتمكنه من أدواتها.

بمعنى أوضح نرى “أمهز” يمضي قدماً نحو تأسيس وعي عميق يلبي الهتاف الملحّ في ضميره الداعي الى طرح فنٍ يستجيب للأساسيات الكلاسيكية، وموجبات الحداثة والعصر معاً، وقادر في الوقت ذاته على استقطاب دهشة وقبول المتلقي الذي هو المقصد المنشود .

ورغم كون الفنان “أمهز”، ناقداً مؤسساً في الفن التشكيلي إلا انه تألق كرسام تجريدى مغاير للمألوف وحقق لأعماله نجاحاً واضحاً لفت الأنظار ليس لفئة فنية محدودة فقط وإنما للفن التراثي عامة.

التفت “أمهز” الى المنظور للإيحاء بالأبعاد والفسحات اللامتناهية. لقد كانت الأشكال والوجوه، وقد تشابهت موتيفاته الوجهية كثيراً في لوحاته وترابطت في هيئة سلسلة موحية بفكرة ما.. لكن كان هناك دائماً فرصة للتفكير في المقاصد اللامرئية لتلك الوجوه التي تعتمل في داخله.

ويرى الفنان أمهز أن الصورة الإنسانية لديه “تتجنب الافصاح الشكلي والخطاب المباشر، وهي غالبًا ما تبدو مجتزأة، مشوشة الملامح، مبهمة، واجمة، كأنها خارجة من فضاء اللوحة، ومن خلف ستارة شفافة تحجب بعضً من ملامحها… أي أن الوجه قد يشغل حيزاً معيناً وسط اللوحة أو يحتل المساحة كلها ويشكل بالتالي موضوعها وفضاءها في آن واحد”. ومع ذلك فالوجوه ليست مباشرة ولا تدل على محاكاة لأشخاص في الواقع بقدر ما هي وجوه افتراضية حيال ما يجري وما يُرى بعين فنان غير حيادية بالطبع.

لم يهتم “أمهز” بمسألة التراث والمعاصرة حسب المفاهيم السائدة، بل كان يؤمن بأن الفعل الإبداعي فعل كوني، ولذلك نراه قد انزاح عن المحاكاة إلى التجريد الإسلامي، وكما يقول الباحث المغاربي عبد الكبير الخطيبي فإن “التجريد هو القدرة على تخليص الصفة المشتركة بين مجموعة من الجزئيات ومعرفتها، أو هو انتزاع الكلي من الجزئي، بتخليص المعنى من المادة، حيث يمكن استحضار الشيء من غير أن يرتبط هذا الاستحضار بشروط الوجود المادي، وبشروط المكان والزمان”.

يعمل “أمهز” على تلطيف شغب الألوان بخفة لا تقاوم. ويمضي قدماً نحو تأسيس وعي عميق يلبي الهتاف الملحّ في ضميره الداعي الى طرح فن ٍ يستجيب للأساسيات الكلاسيكية، وموجبات الحداثة والعصر معاً، وقادر في الوقت ذاته على إستقطاب دهشة وقبول المتلقي الذي هو المقصد المنشود.

تأخذنا هذه الوقفة، وهذه الرؤية للتوسع في قراءة الجانب الرمزي والفلسفي، وحتى الصوفي في أعماله. إذ أنه لا يرسم فقط، وإنما يمعن في بناء هذه العلاقة الروحية والذهنية بينه وبين شخوصه إنسانياً، والتي تتناغم عبر اللون والشكل مع ذواتنا القلقة والباحثة عن التأمل المسحور بالأثر التراثي الإسلامي مع مقاربات لعلامات رمزية وظفت تشكيلياً ضمن مساحة اللوحة.

ثمة قراءات واضحة المعالم يقوم بها الفنان لتراثه وموروثه الذي يحاول ان يصنع منه عالماً جديداً متداخل العناصر والمفردات، ومن عالم الموروثات هذا تنهض اللوحة لديه متمسكة بخصوبة الرمز والايحاء مفتوحة على لعبة الدلالة التي يوظف فيها جملة من التفاصيل المتناغمة.

وبالرغم من ان اللوحة لديه توحي بوجود بنية شديدة التماسك الا ان هذا التماسك لا يقوم على التداخل اللوني والشكلي والموضوعي، بل من خلال ايقاعية واضحة وجدلية موسيقية تمنح التجربة ذلك التدفق والتجانس الذي يجمع الجزئيات المتعددة في سياق واحد.

إن أهمية تكويناته وما تثيرها من جماليات تأتي من خلال تمثله لأمرين:

 أولهما، ذلك التوظيف الخلاق للتصورات التراثية الإسلامية.

 وثانيهما، إمكانيته التقنية المدهشة التي تقدم إيحاءها السحري دون ترهل ودون أن تترك أثراً سلبياً وراءها.

الفنان هنا يفسر العالم من حولنا بطريقته الخاصة، يستكشف التناقض في العلاقات من خلال التركيب لعناصر الموضوع واللون، وما يتعدى معنى الخامة إلى عدد من الرموز الروحية المختلفة، والى المعاني التي تثير الانفعال الروحي بقوة  فتتعدى غرضها أو معناها الأصلي، لتصبح استعارات رمزية أو أي شئ يعنيه، وهو الأمر الذي يؤكد على علاقة الكتلة بالتكوينات المادية واللونية المختزلة، التي تشي بما هو نتاج داخلي يكفل بطبقاته اللونية أن يغلب عليه التدريج الطبيعي للألوان وغاياتها وينظم ذلك وفقا لسياق تناغم الرغبة الحسية للفنان مع مقتضى ما تدعو أليه اللوحة. وبهذا يكون المتحقق البصري قد ألزمنا اكتشاف الغاية من العمل دون تعقيد.

أعماله الفنية التشكيلية، تمثل نقطة فاصلة في متوالية اللوحات والأعمال المجسّمة التي تعيد تجسيد شكل الأشياء في الطبيعة والذي يعتبرها الفنان مكاناً أثيراً للتأمّل في البشر، وعاداتهم وتاريخهم وتجاربهم.

لابد من التأكيد على أمور تتعلق بفرشاة ورؤية “أمهز” منها أن النظام التعبيري لديه ظل أسير طراز انقلابي في الرؤية التاريخية وهذه الصفة من النادر إيجادها مع اسم من جيل هذا الفنان. ولهذا فهو يهتم بتوازنات الكتلة والفضاء، أو ما يمكن تسميتها بـ “التوازنات البصرية”، ولكن ظل هاجسه في كيفية توصيل الفكرة لعين الرائي، خصوصاً في عالم الشرق لإحداث ذلك الاندماج العاطفي والاندهاش الجمالي، وإلا ما المغزى من تلك الشفرات التي يعيد ترتيبها داخل العمل الواحد والتي ترينا إشارات تدل عليها حسية اللون إضافة إلى دلالته الصوفيـة.

رأى الكثيرون أن العبقرية الكبيرة لـ “أمهز” شبيهة بعبقرية “يوجين ديلاكروا” أحد أكبر الفنانين الموهوبين في القرن الثامن عشر.. هي عبقرية اكتشاف اللون والتعبير به عن المواقف الشعورية التأملية أو الوجدانية الخاصة. كما أن الاسلوب الفني الذي يميزه عن غيره فيه عنصر الدهشة وفيها القدرة على التآلف مع الرائي لها تبعث في نفس المتلقي حميمية وروح محاكية لروحه بجو صوفي روحاني تجذبه وتثير مشاعره وفكره دون وعي منه.

د. محمود أمهز

(سيرة شخصيّة)

ـ 1935 مواليد بعلبك

– 1964/ دبلوم دراسات عليا في الرسم والتصوير من الأكاديمية

الملكية للفنون الجميلة ـ ليبج/ بلجيكا

– 1964/ دكتورة في تاريخ الفن والآثار من جامعة ليبج/ بلجيكا

– أستاذ في تاريخ الفن وآثار الشرق الأدنى القديم في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية/ 1965

– رئيس قسم الفنون والآثار في كلية الآداب، الفرع الأول، في الجامعة اللبنانية

–  من مؤلفاته:

* الفن التشكيلي المعاصر (التصوير) ـ دار المثلث ـ بيروت 1982

* التيارات الفنية المعاصرة ـ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ بيروت 1996

* في تاريخ الشرق القديم ـ دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع ـ 2009

* بلا عنوان/ شعر ـ عشتار للطباعة والنشر والتوزيع ـ 2009

– له العديد من الابحاث والدراسات والمقالات، كما حاز على العديد من الجوائز التقديرية، منها:

* جائز على جائزة تقديرية من معرض الخريف (متحف سرسق) 1965

* حائز على جائزة تقديرية من معرض الكويت 1978

نظام مارديني

كاتب وصحفي سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق