-1-
أحقاً... العالم الذي نحن فيه الآن، بعد انقضاء 18 شهراً على “طوفان الأقصى” وبداية الحرب الإسرائيليّة على غزّة… أحقاً هو عالم يمكن موقَعَتَهُ بـ “ما بعد غزّة”؟
هذه الـ “ما بعد” اللازمة الأثيرة عند الفلاسفة والمفكرين الحداثيين خصوصاً، كيف يستقيم زجّها في منظار الرؤية السياسي أو الجيوسياسي الخاص بمعاينة العالم في لحظته الراهنة؟
فإنْ كانت الـ “ما بعد”، بالمعنى الفلسفي، تشير إلى نهايةِ “موجود ما” دون التأكّد من طبيعة الموجود الذي سيكون بديله على نحوٍ واضح وجليّ، غير أنّه يمكن التيقن أنَّ الـ “ما قبل” قد انتهى بنسبة عظمى، وعلى ذلك لم يتبق إلّا القليل ليتم وضع ختم النهاية على “ما قبل غزّة التي كانت على خط 7 تشرين أول 2023” وهو الخط نفسه المُحدد لوجود وسحنة منطقة تمتد من غزّة وحتى طهران، ومن ثم استطالاتها السياسيّة المتشابكة معها الواصلة حتى موسكو، في الوقت الذي يُصار فيه إلى ترتيب الـ “ما بعد” الذي هو موجود فعلاً، ولكن دون التيقن تماماً من طبيعة وجوده وسحنته وهويته النهائيّة.
عالم ما بعد غزّة، ليس بالضرورة الحتميّة ناتجاً كله من الحدث الغزّاوي المستمر، ولكن من المؤكد أنّه، غير قادر على تجاوز أو تجاهل التغيير الهيكلي الكبير وغير المسبوق، على الأقلّ منذ العام 1948، الذي نتج عن الحدث، وبالتالي سيجد هذا العالم نفسه ملزماً بالتعاطي مع ما آل إليه الحدث الذي يبحث عن مرتسمه النهائي وسط بيئة جيوسياسيّة شديدة التعقيد.
الحدث الغزّاوي، حدثٌ – رحمٌ، من طبيعة مولّدة للتغيرات المتلاحقة التي لم تجد مستقراً لها إلى هذا الوقت.
وفق ترجمة مباشرة للمعاينة السابقة، نحن الآن، في ما بعد غزّة، أمام إسرائيل جديدة، وغزّة جديدة، بل وفلسطين جديدة، و”شرق أوسط” جديد، وبالمصادفة التاريخيّة التي أتت بدونالد ترامب رئيساً، أمام أميركا جديدة، واستطراداً تفرضه القوّة الأميركيّة، أمام عالم جديد.
-2-
حلَّ دونالد ترامب في البيت الأبيض في 20 كانون ثاني 2025، مبتدئاً حقبة رئاسيّة ثانية… هل قلنا حقبة أو فترة ثانية؟ في الواقع سيكون هذا التعبير قاصراً عن وصف عودة ترامب إلى مقرّ الرئاسة الأميركيّة على النحو الذي تمت فيه هذه العودة، التي بحمولاتها الثقافيّة والسياسيّة وبالأخصّ الدينيّة، تستدعي استعارة تلك العبارة التبشيريّة بالمجيء الثاني للمسيح، لتكون الحقبة الثانية هذه ليست سوى: المجيء الثاني لترامب!
لا ينطوي الأمر على مبالغات لفظيّة أبداً، فما وعد ترامب بإنجازه في خلال حملته الانتخابيّة، وما يتكلم به، ومن ثم ما يقوم به، هو من جدول أعمال “يوم الدينونة”، حيث تقف البشريّة أمام الديّان الأعظم منتظرة المصير الذي سيقرره لها. بلى، دفعة واحدة عاد اللاهوت السياسي ليشكّل فضاء الثقافة السياسيّة في الولايات المتحدة، عاد منتصراً مع ترامب وفريقه ومريديه “شعبه” الذي اختاره ويسير وراءه في كل ما يقوم به، وسيقف أمامه دائماً لتلقي أحكامه والهداية برؤيته.
تناول الظاهرة الترامبيّة، خصوصاً في الأدبيّات السياسيّة العربيّة، بتصويره على نحو كوميدي كرجل “عقاري” ارتجالي، ونرجسي، ومعتوه، ومرابي جامع أموال…! تناول ترامب على هذا النحو وتنميط سلوكه بهذه الصفات وما يشبهها، ليس ارتجاليّاً مرسلاً وتبسيطيّاً ولا يعبّر عن ما يمثّله الرجل وحسب، بل هو مُضلل وخادع سيؤدي إلى ترسيخ الهزيمة وتصلّيب جذورها وتعميقها مع استيلاد المزيد من مناخات الإحباط واليأس، فحتى خسائر الجهل أقل جسامة من خسائر المعرفة المُضللة الخادعة.
النظام العالمي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وإلى الآن، لا زال موصوفاً بالنظام الأحادي الذي تحتل الولايات المتحدة الأميركيّة فيه مركز السيطرة الجيوسياسيّة التي تتباين درجاتها بين منطقة وأخرى مع تبدل العوامل التي تقع في مركز السيطرة “الولايات المتحدة” أولاً ومن ثم المعطيات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة التي تنشأ في مجالات السيطرة. على هذا النحو يمكن قراءة التبدلات العالميّة من أفغانستان إلى الشرق الأوسط إلى إفريقيا إلى أوكرانيا…
في السنوات الممتدة ما بين العام 1990 والعام 2024 (34 سنة)، وقعت التبدلات والتغيرات في أغلبها في مجالات السيطرة، أي في مختلف بلدان العالم، فيما شهد المركز – الولايات المتحدة تغيّراً واحداً مهمّاً تمثّل بوصول المحافظين الجدد إلى القيادة مع جورج دبليو بوش في العام 2000.
الآن، لا يمكن فهم طبيعة واتجاه التبدلات التي حدثت وستحدث في المجالات التي تسجّل فيها الولايات المتحدة حضوراً قويّاً (فلسطين، غزّة خصوصاً، الشرق الأوسط عموماً، أوكرانيا خصوصاً، أوروبا عموماً، وصولاً إلى جنوب شرق آسيا)، دون فهم طبيعة التغيّرات التي تجري في المركز – واشنطن.
ماذا يجري في واشنطن؟
كيف يمكن معاينة “المجيء الثاني لدونالد ترامب”؟
الرؤية إلى المشهد الأميركي الآن، تبدو متاحة وربما محكومة، بمنظارين متباعدين، بل متناقضين:
الأول، الذي يرى الإمبراطوريّة الأميركيّة في الطريق إلى نهايتها، وهي الآن في طور التفكك النهائي. وإذا كان المفكّر الفرنسي إيمانويل توود يرى أنَّ الغرب عموماً هُزم أو في طور الهزيمة “كتاب: هزيمة الغرب“، غير أنَّ المؤرخ الأميركي ألفرد دبليو مكوي رأى، قبل أقل من عقد 2017 “كتاب: في ظلال القرن الأميركي: صعود وانحدار القوة العالميّة الأميركيّة“، رأى وعلى نحوٍ أكثر تحديداً، أنَّ الولايات المتحدة تتجه نحو نهايتها كإمبراطوريّة، بل تجرّأ مكوي، على نحوٍ غير معتاد عند المؤرخين، لتحديد الزمن الذي ستنهار فيه الإمبراطوريّة، معتبراً أنّه لن يتجاوز 27 عاماً، ابتدأ فعليّاً في العام 2003.
سردية النهاية الحتميّة للإمبراطوريّة الأميركيّة، سادت وكثر استعمالها في المقالات الصحفيّة والأحاديث السياسيّة، وأمست سلاحاً وقائيّاً، يشيع اطمئناناً قدرياً عند معارضي السياسة الأميركيّة في مختلف دول العالم.
الثاني، الذي يرى الإمبراطوريّة الأميركيّة في الطريق نحو استعادة عظمتها، وهي مع “المجيء الثاني لدونالد ترامب” بدأت فعليّاً هذه الرحلة الاستثنائيّة. سيكون شعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى Make America Great Again” هو التعبير عن الحركة التي يقودها راهناً ترامب، والتي بدأت تنفّذ برنامجها مباشرة ودون إبطاء مع دخول الرئيس المكتب البيضاوي في 20 كانون ثاني 2025.
ما يحصل الآن في واشنطن، أصبح مكشوفاً وعارياً تماماً مع حلّ وتفكيك “الوكالة الأميركيّة للتنميّة الدوليّة”، وتكليف ترامب لوزير كفاءة الحكومة إيلون ماسك بتنفيذ برنامج جذري يطاول مختلف الإدارات الفيدراليّة. انتبه الجميع الآن، أنَّ ترامب بدأ يفكك “الدولة العميقة” التي خاض معها مواجهة كبرى في حقبته الأولى (2016- 2020) كما في معركته الانتخابيّة خريف العام 2020. (أنصح بالعودة إلى مقالي: الهويّة العميقة في مواجهة الدولة العميقة).
ما هو الفرق بين ترامب الأول الذي انتهى عهده في مطلع العام 2021، وترامب الثاني الذي ابتدأ رحلته من ذلك التاريخ نفسه؟
الفرق، أنَّ ترامب الثاني أصبح مؤسسة واضحة بمرجعياتها الفكريّة – العقيديّة /الدينيّة، وبطبيعة مشروعها ورؤيتها واتجاهه وإلى أين يسير، مع فريق عمل مختلف متجانس غير تقليدي، حركي ومفرط الحماسة.
ستشكّل عدّة حركات دينيّة منها: إعادة البناء، لاهوت المملكة، الإصلاح الرسولي… وصولاً للتكامليّة الكاثوليكيّة… الإطار الديني العام الذي سيتخذ مكانة “المرجعيّة الدينيّة – العقيديّة” لحركة (MAGA). هذه المرجعيّة تلقي على “المسيحيين: أتباع هذه الحركات، الذين يُقدر عددهم في الولايات المتحدة الآن بمئة مليون”، مهمّة “احتلال جميع المؤسسات العلمانيّة”، في سبيل الوصول إلى “أمّة مسيحية إلهها الرب”، وهو تعبير ورد في الصلاة الافتتاحيّة لمجلس الوزراء الأميركي في 26 شباط 2025.
تفصّل حركة لاهوت المملكة الطريقة المؤدية لتأسيس تيوقراطيّة مسيحيّة عالميّة لإعداد العالم للعودة الثانية للمسيح، تفصّل باستلهام توراتي: هنالك 7 “جبال” يجب على المسيحيين السيطرة عليها: الحكومة، التعليم، الإعلام، الفنون والترفيه، الدين، الأسرة، عالم التجارة والأعمال.
يمكن أن نجد ترجمة مباشرة لهذه (الوصايا)، في “جدول أعمال القرن”، الذي يشكّل بنود خطة ترامب الثاني، ومنه الأوامر التنفيذيّة التي شرع بتوقيعها على نحوٍ استعراضي فور دخوله البيت الأبيض، غير أنَّ الترجمة الأوسع للمرجعيّة الدينيّة – العقيديّة، ستظهر في “مشروع 2025”.
وضعت مؤسسة التراث “مشروع 2025” في العام 2022 / 2023، بوصفه مشروع الانتقال الرئاسي لإعادة تأمين سيطرة الاستراتيجيّات المحافظة “اليمينيّة” على مختلف الإدارات الأميركيّة. سيكون هذا المشروع مسؤولاً عن إضفاء الطابع المؤسسي لما يسمّى الترامبيّة. ورغم نفي الرئيس ترامب علاقته المباشرة بالمشروع، إلّا أنَّ البرنامج الذي ينفذه فريقه الآن يعتبر بنسبة الثلثين مطابقاً لما ورد في المشروع، الذي يتقاطع مع “جدول أعمال القرن”.
ضربُ الدولة العميقة يتواصل بتواتر متسارع، من إقالة كبار مسؤولي مكتب التحقيقات الفيدرالي، إلى إلغاء السريّة عن جميع الوثائق المتعلقة باغتيال الأخوين جون وروبرت كينيدي، وتلك المتعلقة باغتيال مارتن لوثر كينغ الابن. العملية برمتها تأتي ضمن ما يسميه ترامب بـ “استعادة أميركا من اليساريين….”، بعد أن تم “تحريرها” منهم بعودته إلى البيت الأبيض بـ “تفويض عظيم من الشعب”. يؤكد ترامب في خطاب التنصيب قائلاً: “إنَّ حياتي أُنقذت لسبب ما. لقد أنقذني الرب لأجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”. على هذا النحو يكون دونالد ترامب هو “المخلّص المُنتظر” وفق الحركات الدينيّة التي تشكّل الشبكة المرجعيّة لحركته. حسب الكاتب الأميركي الشهير كريس هيدجز، ترمب وفريقه ينتمون إلى الطائفة الدومينيونيّة – Dominionism التي تؤمن بشخصيّة المخلص.
على نحو شديد التقاطع مع هذه المرجعيّة، سيتم ملاحظة حضور فلسفة اللاهوت السياسي، خصوصاً كما أظهرها المفكّر الألماني كارل شميت (1888 – 1985) -الذي قضى ردحاً من حياته في إطار الحزب النازي – ومدى تأثيرها على الترامبيّة التي على نحوٍ أدق ستنضوي تحت عنوان: لاهوت الهيمنة. التنظير للحالات الاستثنائيّة التي تستدعي إقصاء الديمقراطيّة جانباً وحصر الصلاحيات بالسلطة التنفيذيّة التي تمارس وكأنها في حالة طوارئ دائمة، هذا التنظير سيقود إلى إنتاج الديكتاتور المستبد. ستلتقي شخصية الديكتاتور السياسيّة التاريخيّة مع شخصيّة المخلص الدينيّة، في شخص واحد: دونالد ترامب.
ثمّة فارق إضافي بين ترامب الأول وترامب الثاني، فارق حاسم يتمثل بانضواء عمالقة التكنولوجيا وراء حركته. في 9 كانون ثاني 2021، وقبل أن يغادر ترامب البيت الأبيض تاركاً مكتب الرئاسة لجو بايدن، اتخذت منصّة تويتر قراراً بطرد الرئيس ترامب ومنعه من التغريد على صفحاتها (أنصح بالعودة إلى مقالي الذي كتبته حينها بعنوان: السلطان التكنولوجي). كان هذا الطرد بمثابة نهاية معركة مع عالم التواصل والتكنولوجيا خصوصاً ذلك العالم العملاق المقيم في وادي السيليكون – كاليفورنيا.
مع ترامب الثاني، جاء عمالقة التكنولوجيا وأولهم ايلون ماسك ومارك زوكربيرغ وجيف بيزوس ليكونوا إلى جانبه في الحملة الانتخابيّة كما في تنفيذ مشروعه. يعتبر هذا اللقاء ضربة قوية مؤلمة للنيوليبراليّة والحزب الديمقراطي في آن.
هل الهدف المشترك المتمثّل بـ ” ضرب الدولة العميقة” هو السبب المباشر في هذا اللقاء؟ (ملاحظة ومعاينة دور إيلون ماسك الآن في إنجاز هذا الهدف، تساعد على فهم هذا اللقاء) أو ظروف المنافسة المحتدمة مع الصين التي بدأت تقترب من خط التكنولوجيا العالية الذي عليه في وادي السيلكون هو السبب المتمم؟ حيث سياقات العولمة تعطي أرجحيّة للصين على حساب الولايات المتحدة، وأصبح عمالقة التكنولوجيا بحاجة للنفوذ الجيوسياسي التقليدي الذي يؤمّنه برنامج ترامب؟
مهما تكن الأسباب، التي ربما ستتكشف مع الوقت، يبدو ترامب الثاني مدججاً بالعالم الافتراضي وأسلحته في سبيل توسيع “مملكته” في عالم الواقع. فيما يتجه العالم الافتراضي عبر البرنامج الذي ينفذّه ماسك إلى إعادة ترتيب عالم الواقع “تفكيك وتدمير الدولة العميقة” وربما “برمجته” وفق أنظمة الذكاء الاصطناعي؟
على التوازي مع هذه العملية التي تختّص بنواة مركز الامبراطوريّة، تبدو مختلف المنظمات والهيئات الدوليّة التي في عضويتها الولايات المتحدة والمؤسسة اعتباراً من نهاية الحرب العالميّة الثانية، تبدو معرّضة للتراجع عن مكانتها، وربما في الطريق إلى التفكك في انتظار سيادة النظام الجديد القادم الذي سيبدأ ارتسامه النهائي مع استكمال إعادة بناء المركز في واشنطن.
يمكن قراءة حديث دونالد ترامب عن ضم كندا وغرينلاند واستعادة قناة بنما وتغيير اسم خليج المكسيك… بإسناده مرجعياً، ومرة جديدة، إلى كارل سميث، ولكن ليس بوصفه امتداداً للاهوت السياسي، بل بكونه مطابقة لما ذهب إليه شميت مبكراً، عندما اعتبر بأنَّ العالم يتجه للارتسام كـ “مجالات” مقابل التلاشي التدريجي لـ “الدولتيّة – وضع العالم كدول مستقلّة”، وعلى هذا النحو سيفرض المركز الأميركي “مجاله” الذي عبّر عنه ترامب على النحو السابق. ومن هذه الزاوية تحديداً يمكن تفسير ذلك الجانب من نهج ترامب “المسالم” مع روسيا، باعتبارها مركزاً لمجال جيوسياسي، كان تاريخيّاً تحت مسمّى الامبراطوريّة الروسيّة المقدّسة، وهذه الصفة الأخيرة تفسّر الجانب المتمم للمسالمة الترامبية مع روسيا، حيث اللقاء العقائدي – الديني (النظرة إلى الأسرة، والموقف من المثليّة والتحوّل الجنسي…. إلخ) يعطي العلاقة مع روسيا بعداً رسوليّاً يتمثل بإنقاذ العالم من الانحراف الأخلاقي الناتج عن الثقافة النيوليبراليّة. (ألكسندر دوغين، فيلسوف العودة إلى الزمن الامبراطوري، تحدث عن لقاءات متواصلة مع بعض أعضاء فريق ترامب بدأت منذ عقد مضى).
تلتقي الترامبيّة في رؤيتها إلى روسيا هنا مع البعد الاستراتيجي التقليدي المعروف والمتمثّل بالعمل لإبعاد روسيا عن الصين، كهدف ضروري وحاسم في إطار المواجهة الكبرى والحتميّة مع الصين حول الزعامة الكونيّة في المستقبل القريب.
من المنظور الجيوسياسي، التاريخ يعطي الغَلَبَة دوماً للإمبراطوريّة البحريّة، التي تمثّلها الآن الولايات المتحدة، على الإمبراطوريّة البريّة، التي تحلم روسيا باستعادتها؟ وعلى ذلك يبقى ترامب مطمئناً إلى روسيا، حيث سيكون التاريخ إلى جانبه.
في هذا الفضاء الواسع، يدور الحدث الاستثنائي في المركز – واشنطن.
الآن، بالعودة إلى المؤرّخ ألفرد دبليو مكوي، بدأ عداد زمن تفكك الامبراطوريّة منذ العام 2003، فإذا كانت مرحلة التفكك ستستغرق 27 سنة حسب مكوي، فهذا يعني أنَّ الولايات المتحدة ستنتهي كإمبراطوريّة في العام 2030، وهذا يعني بأن حقبة ترامب الثانية هي الحقبة الأخيرة في عمر هذه الإمبراطوريّة، والبرهان على ذلك استطراداً، هو البرنامج الذي يُنفذ الآن والمتمثّل بضرب الدولة العميقة، الذي يعني تماماً التدمير الذاتي للولايات المتحدة الأميركيّة في بعدها الإمبراطوري.
غير أنَّ البرنامج نفسه، يمثّل بالنسبة لحركة (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى MAGA) الطريق الحتمي لاستعادة تلك العظمة، التي من المقرر أن تُنجز في حقبة ترامب الثاني. والحال، كيف يمكن الوصول إلى يقين ما، بين من يرى الحدث نفسه تفكيكاً للإمبراطوريّة ومن يراه طريقاً نحو عظمتها!
مدير مؤسسة التراث التي وضعت “مشروع 2025″، كيفن روبرتس والذي كان قد وضع كتاباً بعنوان شديد الإيحاء ومثير للجدل “ضوء الفجر المُبكر: استعادة واشنطن لإنقاذ أميركا”، كيفن روبرتس يقول في تموز 2024: “نحن في خضم الثورة الأميركيّة الثانية، والتي ستبقى غير دمويّة إذا سمح اليسار بذلك”.
سيؤكد الرئيس ترامب، في خطابه أمام الكونغرس في 5 آذار 2025، ما ذهب إليه روبرتس، قائلاً بأن الحلم الأميركي لا يمكن إيقافه، حلم لن يغير أميركا وحسب، بل سيغيّر العالم.
إلى هذا الوقت، يبدو اليسار “الحزب الديمقراطي والتجمعات المرتبطة فيه” بحالة استسلام للهزيمة، فهل ستتمكن الثورة الأميركيّة الثانية من الوصول إلى خواتيمها ليكتمل تغيير المركز – واشنطن، ومن ثم مجالات السيطرة العالميّة، واستطراداً النظام العالمي برمته؟ أو أنَّ “استفاقة يساريّة” يمكن أن تعرقل البرنامج مع فتح شرايين دماء الإمبراطوريّة كما حذّر روبرتس؟
الحدث في واشنطن إلى الآن لا زال تحت قبضة دونالد ترامب.
المركز – واشنطن يتغيّر… والعالم أيضاً.
-3-
ماذا يعني ذلك كله بالنسبة لـ غزّة وفلسطين و “الشرق الأوسط” عموماً؟ وكيف تُرى من مِنَصّة الحدث الدائر في واشنطن؟
كل الحركات الدينيّة التي تشكّل الشبكة المرجعيّة للاهوت الهيمنة الذي يشكّل فضاء حركة (MAGA) بقيادة دونالد ترامب، تقوم على ذلك الأساس المُشكّل من الردم التوراتي للإنجيل. عند هذه الحركات تستولي التوراة تحت تسمية العهد القديم من الكتاب المقدّس، على المخيال المسيحي – الأميركي من بابه إلى محرابه، وإذا كنّا الآن لسنا في معرض بحث الأسباب التاريخيّة التي أدت إلى هذه الحالة، إلّا أنَّه لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ وصف هذه الحركات بالمسيحيّة لا يستقيم مع تغوّل التوراة في بنيتها التيولوجيّة _ اللاهوتيّة.
وعلى ذلك تفرض الأبعاد التوراتيّة ورموزها ولغتها وقاموسها، نفسها على الرؤية السياسيّة الأميركيّة. وفق هذه الأبعاد، لا تُرى فلسطين أبداً، فليس هنالك سوى إسرائيل. ولذلك يمكن ملاحظة انحسار اسم الضفة الغربيّة وتقدم يهودا والسامرة في الاستخدامات السياسيّة لفريق دونالد ترامب، الذي تجرّأ من بين كل الرؤساء الذين سبقوه ونقل السفارة الأميركيّة في حقبته الأولى من تل أبيب إلى القدس في 6 كانون أول 2017، موعزاً للقس روبرت جيفيرسي بتأدية صلاة افتتاحها بنصوص من الكتاب المقدّس – التوراة.
وفق اللاهوت السياسي نفسه، المتواشج مع نظرية المجالات، افتتح ترامب الزمن الابراهيمي، بعقد سلسلة اتفاقات بين إسرائيل والبحرين والإمارات والسودان والمغرب ابتداءً من أيلول 2020، وهو يتجه لتوسيع جغرافيا هذا الزمن في حقبته الراهنة.
ووفق لاهوت الهيمنة، ابتدأ ترامب بتدمير المحور الذي كانت تقوده إيران، من إيران نفسها، أولاً بإلغاء الاتفاق النووي معها في 8 أيار 2018، وثانياً باغتيال القائد العسكري لهذا المحور الجنرال قاسم سليماني في 3 كانون ثاني 2020. ألذلك، وما بين الحادثين في العام 2019، قال وزير الخارجيّة، آنذاك، مايك بومبيو: “الرئيس دونالد ترامب، قد يكون هدية من الرب لإنقاذ اليهود من إيران”؟
ووفق لاهوت الهيمنة نفسه، يرى دونالد ترامب إسرائيل بحجم رأس القلم بالنسبة إلى ما يجاورها، ويجب تكبير خريطتها وتوسيع مجالها.
-4-
عندما بدأت حركة حماس عملية “طوفان الأقصى” علّق دونالد ترامب قائلاً: “في بعض الأحيان عليك أن تدع الأشياء تحدث”. لا نستعيد هذا التعليق هنا لإدراج عملية حماس في سياق نظرية المؤامرة، بل للاستدلال إلى الطريقة التي تفكر فيها ما أسمتها مرة المفكرة الكنديّة نعومي كلاين بـ “رأسماليّة الكوارث”، حيث الكارثة الطبيعيّة أو المفتعلة أو الناتجة عن الحروب أو عمليات غير متوقعة (أعاصير، تسونامي، حرائق لوس أنجلس الأخيرة، عملية أبراج نيويورك 11 أيلول 2001… الحروب وغيرها، والآن غزّة المُدمّرة)، كل هذه الكوارث ليست لهذا النوع من الرأسمالية سوى فرصة استثنائيّة لاستثمار استثنائي، مرة يغلب عليه المعنى الجيوسياسي ومرة يغلب عليه المعنى التجاري – الربحي المباشر والواضح.
غزّة، وفق منطق رأسماليّة الكوارث، فرصة استثنائيّة مركبّة الوظائف: جيوسياسيّة، اقتصادية، استراتيجيّة عموماً، وفضلاً عن ذلك كله تقع ضمن الرؤية التوراتيّة للمشروع الصهيوني ودولته إسرائيل، كما لحركات “لاهوت الهيمنة” التي تشكّل مرجعيّة حركة (MAGA)
غزّة الآن مدرجة في هذا البرنامج تحديداً، ومن الصعوبة البالغة التي تقارب المستحيل أن تتمكن من الإفلات خارج إطباق منطق رأسمالية الكوارث عليها وعلى مصيرها ومستقبلها.
واستطراداً، غزّة الجديدة، فتحت الطريق نحو فلسطين الجديدة، حيث وسّعت إسرائيل حربها لتطاول الضفة الغربيّة، في اتجاه واضح لاستكمال التدمير المنهجي المتتابع للمخيمات والسير قدماً في خطة التهجير القسري للفلسطينيين، مقابل زيادة وتيرة خطط الاستيطان، في الطريق إلى الوصول إلى “يهودا والسامرة”.
فلسطين الجديدة / القضيّة الفلسطينيّة الآن، ستكون دون مقاومة مسلّحة، ستتراجع قوة “القنبلة الديمغرافيّة” بفعل تشتيتها في غزّة أولاً، وفي الضفّة الغربيّة ثانيّاً، ومخططات التوطين خارج فلسطين ثالثاً. مرة جديدة ستخسر فلسطين مزيداً من أراضيها، ومزيداً من سكّانها. ما اكتفى فيه فريق أوسلو في الضفّة الغربيّة مهدد بالتلاشي على نحو غير مسبوق. تحاول إسرائيل قلب الجغرافيا السكانيّة رأساً على عقب، بحيث تبدو المدن والبلدات الفلسطينيّة محاصرة تماماً بغابات المستوطنات اليهوديّة.
القوى العسكريّة والسياسيّة الفلسطينيّة تعيش واقع هزيمة كبرى، ومن المؤكّد أنَّ هذا الواقع سيستمر مخيماً على آفاق القضيّة الفلسطينيّة إلى الوقت الذي تتمكن فيه فلسطين من إنتاج قوتها الجديدة لصياغة بداية تمكنها من إنتاج مشروعها مجدداً، مشروع وجودها ومعناها، قبل أن تستكمل الدولة الإسرائيليّة المئويّة الأولى على تأسيسها، وهي جاثمة على فلسطين… كل فلسطين، ذلك لأنَّ “الأشياء التي عليك أن تتركها تحدث”، عملية حماس وما آلت إليه، وفرت لقاءً استثنائيّاً خاصاً بين “رأسماليّة الكوارث” و “لاهوت الهيمنة” لاستثمار فرصة قد لا تتكرر في التاريخ مرة أخرى. أصحاب “لاهوت الهيمنة” مطلوب منهم أن يهيئوا الأرض – فلسطين استعداداً لعودة “مسيحهم” الذي لا يعود إن لم يستملكوها كاملة، فيما “رأسماليّة الكوارث” ستؤمّن حصول هذه الملكية على النحو المتوافق مع المشاريع الاستراتيجيّة المعدّة سلفاً، ووفق الصور التي تتوارد أبعادها من أسفار التوراة.
-5-
بالرغم من أنَّ الصندوق الأسود الخاص بسيناريو الانقلاب الجيوسياسي الذي حصل في دمشق في 8 كانون أول 2024، والذي جاء بهيئة تحرير الشام إلى قصر الشعب على إحدى شرفات جبل قاسيون، بالرغم من أنَّ هذا الصندوق لم يُفتح تماماً، غير أنَّ ما هو مؤكّد يبدو في أنَّ الحدث الغزّاوي أسفر عن سلسلة حوادث لاحقة أولّها ضرب حزب الله في لبنان، وأكثرها تأثيراً الانقلاب الدمشقي، الذي معه تغيّر “الشرق الأوسط” فعلاً وتماماً.
سقوط الدولة المركزية في دمشق، مع تدمير الجيش السوري، مع التفكيك المتواصل لبنية وإدارات الدولة، مترافقاً ذلك كله مع تغوّل إسرائيل جنوباً وتركيا شمالاً، كل ذلك يؤدي إلى إعادة قراءة خريطة الشرق الأوسط وفق نظريّة المجالات التي تعود لكارل شميث، والتي يعيد دونالد ترامب الأخذ بها بكيفيّة خاصة تحاكي الإطار الإمبراطوري التقليدي.
في اللوحة العامة لـ “آسيا العربيّة”، أي الهلال الخصيب والجزيرة العربيّة، نحن أمام تباين يزداد عمقاً ما بين بيئتين، بيئة الهلال الخصيب المدمّرة والتي يتوالى تدميرها وتفكيكها وتغيير “مورّثاتها الحضاريّة”، وبيئة الجزيرة العربيّة الناهضة بمشاريع مفرطة الحداثة ومتعضيّة في إطار العولمة، والتي بدورها تخضع لعملية تعديل للمورّثات الاجتماعية ليس فقط من جهة تعميم وتسييد خطاب الحداثة، بل وأيضاً وبالدرجة الأولى من جهة نظام القيم وتأويل السردية الدينيّة والفلسفة الاجتماعيّة ومرجعيّاتها. يمكن القول إنَّ التباين ما بين البيئتين أصبح حاداً إلى الوقت الذي يمكن أن نفترض فيه بأن قضايا “الهلال الخصيب” ومنها بالأخص القضيّة الفلسطينيّة أمست عبئاً ثقيلاً على بيئة الجزيرة العربيّة التي لم يعد بوسعها وفقاً لطبيعة برامجها وموقعها في إطار الشبكة الرأسمالية العالميّة، من التعاطي مع قضايا بيئة الهلال الخصيب المدمّرة إلّا من منظار موقع هذه القضايا الإجمالي في الشبكة العالمية نفسها.
على هذا النحو، وبسبب من التدمير الحضاري الشامل الذي تعرّضت له بيئة الهلال الخصيب، منذ تجزئتها قبل أكثر من قرن، أمست اليوم، في أغلبها، بيئة ” لا دولتية”، تتجه لتصبح لا سياسيّة، أو وفق مصطلح أدق “تحت سياسيّة”، أي بيئة متراجعة عن معناها التاريخي والحضاري، ومتراجعة سياسيّاً عن أوصاف الدولة، ومتراجعة مجتمعيّاً نحو الأطر الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة… ومقصّرة في رؤية ما يحيط بها في هذا العالم. كل ذلك يؤدي إلى تغيير تعريف هذه البيئة، التي بدل أن تُرى كأمّة ومجتمع وتاريخ… أصبحت مجردة تُرى من ميزاتها الجيوسياسيّة وتأثيرها في الصراع العالمي، والتي من جانب إضافي يتم تصنيفها في خانة الاستثمار ومعايرتها كممرات استراتيجيّة لمشاريع وكمناجم وآبار نفط… وربما منتجعات سياحيّة!
على نحوٍ واضح، بيئة الهلال الخصيب المدمّرة، لم تعد عمقاً مُشتهى لبيئة الجزيرة العربيّة التي ترتفع جنوباً كـ “جدار ترفيه” في ارتفاع متسارع لا يسمح بالالتفات خلفاً.
لماذا، وضعنا هذا الاستطراد هنا وفي هذا السياق؟
البيئة اللا دولتيّة، المجرّدة من القوة، التي تم إنتاجها بعد الانقلاب الدمشقي في 8 كانون أول 2024، أمست تعريفاً “المجال” المُتنازع عليه، مع استبعاد المشروع العربي المقيم وراء جداره، بين مشروعين متلازمين ومتنافسين في آن: المشروع التركي، والمشروع الإسرائيلي، حيث ووفق المنهجيّة نفسها التي يأخذ بها دونالد ترامب لإعادة رسم المجال الخاص بالولايات المتحدة الأميركيّة، تتجه تركيا شمالاً وإسرائيل جنوباً لإنتاج المجال الخاص بكل منهما في منطقة مدمّرة عمرانيّاً، ومجتمعيّاً، وسياسيّاً.
المشروع التركي يُعرّف تقليديّاً بـ “العثمانية الجديدة” الباحثة عن الانتقام من “ولاياتها” التي ثارت عليها في الحرب العالميّة الأولى (1914 – 1918)، والتي ابتداءً من 15 آذار 2015، الموعد الذي بدأت فيه شرارة الأحداث في دمشق، وجدت فرصتها التاريخيّة لإنجاز انتقامها المؤجّل، وها هي تسجّل نجاحات متوالية في ذلك، وربما على نحو لم يكن وارداً في برنامجها. المشروع التركي يدير عجلة الانقلاب الدمشقي بقتل السياسة واجتثاثها من الدولة، مقابل إنتاج “الولاية” التي تشكّل الحالة الأكثر اتساقاً مع مفهوم المجال الامبراطوري.
المشروع الصهيوني يُعرّف تقليديّاً ودائماً بـ “إسرائيل الكبرى”، المرسومة ببيكار وأبعاد توراتيّة. دولة هذا المشروع الآن إسرائيل، قواتها وجيشها على تخوم دمشق!
يمكن ملاحظة شهوة صهيونيّة عارمة تعبّر عن نفسها على الدوام بـ “امتلاك الشرق الأوسط الجديد”، استناداً إلى مبدأ: “مَن يغيّر، يقرر، يتملّك”. تنظر إسرائيل إلى نفسها الآن كـ “مُغيّرٍ للشرق الأوسط”، لكنها في الوقت نفسه ليست مستعدة لإنجاز إسرائيل الكبرى، فما العمل؟
لا بدَّ من الخروج مؤقتاً من التوراة. خروج باتجاه إنتاج “المجال الصهيوني” الذي سيشكّل “الامبراطوريّة الإسرائيليّة”، التي نواتها الصلبة يهوديّة وولاياتها من مختلف المذاهب والأعراق. لم تكن الفكرة الإمبراطوريّة واردة، فالهدف المطلق الذي هو إسرائيل الكبرى التي لا يقيم فيها إلّا شعب الله المختار يظلّ مسيطراً على الخيال الصهيوني ومحروساً بأسفار التوراة وسرديتها.
الآن، المشروع الذي يتحرك وفقه الجيش الإسرائيلي في برِّ الشام عموماً، يأخذ أوصاف الإمبراطورية المحكومة من مركز قائم على سيادة مطلقة لـ (أثنية – دين)، مع ولايات تابعة لأثنيات وأديان ومذاهب مختلفة، يصار إلى تصميمها تحت مسمى “مناطق الحكم الذاتي”. الحديث عن “سورية الفيدرالية” هو قناع للتقسيم الذي من أولى نتائجه قيام الامبراطوريّة الاسرائيليّة. (فتح الحدود لعبور عمّال من المحافظات الجنوبيّة: القنيطرة ودرعا والسويداء للعمل في الجولان وغيره من مناطق فلسطين، مع الحديث الدائم عن وضع “المناطق الدرزيّة” في السويداء وجرمانا” تحت الحماية الإسرائيليّة، مع إصدار الجيش الإسرائيلي لخرائط عن حركته المستقبليّة في عمق الأراضي السّوريّة، وغيرها من الخرائط التي ترسم الامتداد الإسرائيلي في الجنوب وصولاً إلى مناطق تواجد القوات الأميركيّة في قاعدة التنف وصولاً إلى الفرات …؟ كل ذلك يأتي في سياق تأسيس وعي مسبق بالمجال الذي بدأت إسرائيل بتأسيسه اعتباراً من 8 كانون أول 2024).
-6-
قضيّة فلسطين، منذ نشوئها، وخصوصاً منذ نكبة العام 1948، افتراضاً هي فوق الخلافات والخصومات، هي قضيّة موحِّدة جامعة… بالبداهة والافتراض الذي يصل إلى وصفها بالقضيّة المقدّسة.
لكن، كل الحمولات الاستثنائيّة التي تميّز هذه القضيّة، حمولات ناتجة من طبيعة نشوئها، وطبيعة المشروع الصهيوني الذي اغتصبها. حمولات متعلقة بموقع فلسطين في تاريخنا، بأماكن فلسطين الساكنة كتب دياناتنا وصلواتنا. حمولات ناتجة أيضاً وأيضاً عن تغريبة الشعب الفلسطيني، عن سرديّة آلامه الكبرى، عن تشرده، عن دمائه المسفوحة على مدار الوقت طالما عجلة المشروع الصهيوني لا تتوقف عن الدوران… وفوق ذلك كله، حمولات ناشئة من الطاقة المُلهمة والإبداعيّة المُحفزة لتقدم الوعي ورهافة المشاعر، الفاتحة أبواب الثقافة على آفاق جديدة تصل مغرب الأرض بمشرقها…
لكن… كل هذه الحمولات وغيرها الكثير لم تتمكن من إنتاج وعي مُوحَّد بفلسطين وقضيتها، وحركة مُوَحَّدة في سبيل فلسطين وقضيتها، بل حدث العكس تماماً… الانقسام حول فلسطين تعاظم، والتفكك تكاثر، والخصومات الواصلة إلى العداء الإلغائي سادت، والدم الأهلي انفتحت شرايينه مدراراً… جرثومة الإفناء الذاتي تمكّنت من جسمنا المُنهك.
قضيّة فلسطين، بدل أن تستنفر كل ما هو قوي وجميل فينا، استنفرنا بوجهها وحاصرناها بكل ما هو قبيح وشنيع، وبشع، وضعيف، ومهلهل. صراعات تاريخيّة خرقاء جاءت لتصفّي حسابات قرون وقرون على تخوم فلسطين. أنظمة كسيحة امتصت رحيق قضيّة فلسطين.
قضيّة فلسطين، بدلاً من أن تكون قضيتنا الوحيدة، فتحنا إلى جانبها وطوّقناها بقضايا تتفجّر من جسد الأمّة المتهالك كقيح نغوص في مستنقعه على مدار الوقت!
وماذا بعد؟
لم تعد قضيّة فلسطين امتياز وعينا وميزان نبضات قلبنا… لا… قضي الأمر وأمست أمتنا كلها، أكرر وأكرر أمتنا كلّها، بين الحياة والموت، كما نبّهنا ذات يوم الرائي أنطون سعاده… فهل نصعد متن سفينته ونقودها كما ينبغي لننجو، أو نظل قيد طوفان أو طوفانات عقل الإنسان العتيق فينا، الذي يقمعنا بعناده ويقتل حلمنا، بأثقاله التاريخيّة، مع شمس كل صباح؟!
-7-
يُنسب للسياسي الفرنسي الشهير تاليران (1754 – 1838) القول: الخطأ التاريخي ليس خطأً، بل جريمة.
كم من القرارات اتُخذت، فاحتفينا بها كأفعال استثنائيّة وكانتصارات مسبقة، ومع فشلها وكارثيتها عدنا لنقول عنها أخطاء… بل أخطاء تاريخيّة، فيما هي جرائم!؟
-8-
الاعتراف بالهزيمة، ليس عملاً عقلياً وقراءة موضوعيّة تقوم على قرائن الواقع وحسب، بل هو مسؤولية استثنائيّة، وواجب أخلاقي.
الاعتراف بالهزيمة هو الباب الأول والممر الحتمي للخروج منها.
الاعتراف بالهزيمة هو من يساعد أجيالنا القادمة على ابتكار أدوات نهضتنا مجدداً، دون ذلك سنظلّ تحت أثقال النكران وتلافيف التضليل وبراقع التزييف.
-9-
ما بعد غزّة، زمن يبدأ بيوم الدينونة… الدينونة التي تقود إمّا إلى العدم التاريخي، أو إلى القيامة التاريخيّة…؟
نحن في يوم الدينونة.